من الكُتب المباركة التي تَعِب فيها المصنِّفون كتاب ” مَبادىء الأُصول ” لعبد الحميد ابن باديس(ت: 1359هـ )رحمه الله تعالى ، فهو على صِّغر حجمه غير أنه عَظيمٌ قدره .
فقد قيَّده مُؤلِّفه في وقت المِحن والشدائِد وانتشار الخُرافات والبدع ، وظهور الهمجية الفرنسية الاستعمارية التي حاربت الدِّين واللُّغة في بلاد الجزائر.

وقد قام الشيخ الأصوليُّ محمد علي فَركوس وفقه الله تعالى ، بشرحٍ موجزٍ لكتاب مبادىء الأُصول . وقد راقني شرحه جزاه الله خيراً ، كعنايته بالمعاني والأدلة والاستنباطات ، فهو شرحٌ سهل المراد قريب الارتياد .
وقد قرأ عليَّ بعضُ الطلبة شرحَهُ المذكور ،وأمليتُ عليهم بعض المستدرك المزبور ، اسأل الله أن ينفع به كما نفع بأصله المسطور . وهذا أوان الشروع في المقصود :

1-ورد في الكتاب ( ص/ 18) قول الشيخ الشارح : ” المصنِّفُ لم يتعرَّض لمباحث أصولية كثيرة : كالأدلة المختلف فيها ، والعُموم العقلي والعرفي.. ” .

قلت : الشيخ ابن باديس رحمه الله تعالى على َسنن أجداده في التمسُّك بالأصلين فقط : الكتاب والسنة ، وما زاد من أدلة يأتي بها المجتهد ، فمن ذينك الينبوعين لا غير . ويبدو أنه تمسَّك بقول الإمام مالك (ت: 179هـ) رحمه الله تعالى : ” الحُكم الذي يُحكم به بين الناس حكمان : ما في كتاب الله ، أو أحكمته السُّنة ، فذلك الحكم الواجب الصواب ، والحكم الذي يجتهد فيه العالم برأيه فلعله يُوفَّق ” . (انظر : البيان والتحصيل : 2/25) .
ففي هذا النصِّ من الإمام مالك إشارة إلى الأدلة العقلية والنقلية . النقلية : الكتاب والسنة . والعقلية : الرأي وما يُلحق به .
فالذي يظهر أنه تعمَّد ذلك لتربية المتلقِّي على اتِّباع الوحيين وملازمة المجتهدين للأخذ عنهم ، مما يمكن أن يقوِّي مَلكة استنباط المعاني ، من أدلة العقل المشروعة .
والدليل على هذا قوله في المتن (مبادىء الأصول / ص63 ) :
” الاتِّباع : أخذُ قول المجتهد مع معرفة دليله ، ومعرفة كيفية أخذه للحكم من ذلك الدليل حسب القواعد المتقدِّمة ” .

2-ورد في الكتاب ( ص/ 174) تفصيل الشيخ الشارح لصيغ العموم . ويُستدرك عليه أن العموم إذا ثبت فلا يلزم أن يثبت من جهة صِّيغ العموم فقط ، بل له طريقان : الصِّيغ واستقراء المعاني . وقد نبَّه على ذلك الشاطبي في ( الموافقات : 3/225) . والله أعلم .

3-ورد في الكتاب ( ص/ 202) قول الشيخ الشارح : ” نقل الآمديُّ ومن تبعه من المحققين الإجماع على امتناع حمل المطلق على المقيَّد إذا اختلفا في الحكم “.
وقد عقَّب عليها الشيخ الشارح ، لكن تعقيبه غير مُستوفي للمعنى .
وخلاصة المسألة أن الامتناع عند المحقِّقين يحصل في صورتين : الأُولى : إذا ورد قيدان متضادان وليس هناك مُرجِّح لأحدهما ، الثانية : إذا وجدت قرينة مانعة من الحَمل ، كتأخير البيان عن وقت الحاجة . (انظر : شرح الكوكب المنير : 3/ 398و409).

4-ورد في الكتاب ( ص/ 226 ):” الإقرار على الفعل إن لم يكن قُربةً فإنه يدلُّ على نفي الحرج : كإقراره صلى الله عليه وسلم على أكل الضبِّ والجراد ، مع أنه لم يأكل منهما ” ! .
قلت : كلامُ الشيخ الشارح هنا مبهمٌ وفيه نظر ،فإن كان يقصد أنه صلى الله عليه وسلم لم يأكل الضب فصحيح ، وإن كان يقصد أنه لم يأكل الجراد فإنه وهمٌ. فقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه : ” غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزواتٍ كنا نأكل الجراد معه ” ، وهذا نصٌّ يقطع النِّزاع في المسألة . وما ورد عند أبي داود في شأن الجراد مرفوعاً : ” لا آكلهُ ولا أُحَرِّمهُ ” في إسناده مقال فلا يُحتج به . والله أعلم .

5-ورد في الكتاب ( ص/ 227 ) استدلال الشيخ الشارح بأثر : ” كنا نكسِلُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نغتسل ” بأن هذا لا يُعدُّ اقراراً للرسول صلى الله عليه وسلم يحتج به لعدم عِلمه به . قلت : هذا صحيح ، لكنه بعلمه لأنها رخصةٌ شرعَها وكانت وانقضت ، ولم يعلم بها كثيرٌ من الصحابة رضي الله عنهم ،كما سيأتي أدناه ، ويضاف أيضاً فائدة : وهي أنه لا يُحتجُّ بفعل الصحابي في زمن نزول الوحي إذا لم يطلع عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، عند من افترض ذلك من الفقهاء ، وهذه الفائدة مُناسبةٌ لكلام الشيخ ابن باديس في المتن ، عن الفعل النبويِّ وغير النبويِّ .

والأثر المتقدِّم أعلاه على ضعف سنده ، فله شاهد من رواية زيد ابن ثابت رضي الله عنه أنه كان يُفتي بعدم الاغتسال من الإكسال . وقد أنكر عمر رضي الله عنه على من يُفتي بذلك من الصحابة . وقد أخرجه أحمد في مسنده بسندٍ صحيح ، وكذلك الطحاوي في مشكل الآثار بسندٍ حسن .

والظاهر أن هذين الأثران كانا في أول الإسلام رخصة ، وخفيت على البعض ، لحديث رافع رضي الله عنه : ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على بطن امرأتي ، فقمتُ ولم أنزل فاغتسلتُ وخرجتُ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنك دعوتني وأنا على بطن امرأتي ، فقمت ولم أنزل فاغتسلت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لا عليك الماء من الماء ” قال رافع : ثم أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بالغسل. أخرجه أحمد في مسنده بسند صحيح .

ومثله أثر سهل الأنصاري رضي الله عنه أن أُبيَّ ابن كعب رضي الله عنه قال :” إن الفتيا التي كانوا يقولون : الماء من الماء رخصة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام ، ثم أُمرنا بالاغتسال بعدها ” . أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة باسنادٍ صحيح .

ومن المحدِّثين من يستدلُّ بحديث : ” إذا جلس بين شُعبها الأربع ثم جَهدها فقد وجبَ الغُسل ” متفق عليه ، وفي لفظ لمسلم : ” وإن لم يُنزل ” على نسخ الرخصة المشار إليها . والله أعلم .

6-ورد في الكتاب ( ص/ 229) قول الشيخ الشارح : ” واللافتُ للنظر أن أهل الحديث لم يُفصِّلوا القولَ في المتواتر وشروطه ، وإنما هو صنيعُ أهل الأصول ” .
قلت : هذا فيه نظر وليس على اطلاقه ، لأن المتواتر مُتعلِّقٌ بعدد الرواة ، وحصرُ مراتبهم من واجبات المحدِّثين لا الأصولييِّن .والتفصيل أمرٌ نسبيٌّ قد يتفاوت بتفاوت بعض المدارك حسب الزمان والمكان ، لحاجة طلبة العلم عند أهل الصِّناعة .

فلو قال الشيخ الشارح : الُأصوليون تميَّزوا عن المحدِّثين بالنقدالُأصولي لمسائل المتواتر ، والمحدِّثون تميَّزوا بجمع الطرق للمرويات والنظر فيها ،لكانت الجملة أضبط وأوضح في السِّياق المشار إليه.
وقد صنَّف ابن الصلاح (ت: 643هـ) رحمه الله تعالى مُقدِّمته ، وفيها أحوال الرواة وأحاديثهم وأنواعها، ومثله الحافظ الزركشيُّ(ت: 794هـ )رحمه الله تعالى فقد صنَّف كتاباً في الحديث المتواتر ،كما أفاده السخاويُّ (ت: 902هـ )رحمه الله تعالى في فتح المغيث ، وصَّنف السُّيوطي (ت: 911هـ ) رحمه الله تعالى كتابه التنقيح لمسألة التصحيح ، وفيه تفصيل للمتواتر والآحاد وكثيرٍ من علوم الرواية ، وله أيضاً كتاب تدريب الراوي . والله أعلم

7-ورد في الكتاب ( ص/ 265) مناقشة حول التكليف بالمعدوم ، ومنها قول الشيخ الشارح : ” وهو معنى قول الجمهور : لا يصحُّ الأمر بالموجود ولا ينقطع التكليف إلا بتمام الفعل ” . قلت : هذا تقعيد طيِّب مبارك أورده عبد السلام ابن تيمية (ت: 652هـ )رحمه الله تعالى في المسوَّدة ، والمسألة في أولِها لها تعلُّق بالتحسين والتقبيح لم يُعرِّج عليه الشيخ الشارح وفقه الله تعالى . وقد أشار إليها الإمام أحمد ابن تيمية(ت: 728هـ ) رحمه الله تعالى في : ( مجموع الفتاوى 8 / 130 ، وفي درء تعارض العقل والنقل 1 / 61 ، وفي منهاج السنة النبوية 1 / 7 – 8 ، 369 – 373 ) .
وقد أحال الشيخُ الشارحُ في المسألة إلى كتاب ارشاد الفحول للشوكاني ولم يتعقبه .

فقد بحث الشوكانيُّ هذه المسألة عند الكلام حول التكليف بالمعدوم ورتَّب عليها تعلُّقها بكلام الله تعالى عند الأشعرية والمعتزلة . والغريب أن الشوكاني لم يُثبت مذهب السلف في كلام الله تعالى عند بحثها ولم يستدرك على الطائفتين ، فلزم التنبيهُ على ذلك . فالقرآن حروفه ومعانيه وألفاظه كلامُ الله تعالى غير مخلوق، وتلفظنا به وأصواتنا به من أعمالنا المخلوقة .

نسأل الله أن يُعلِّمنا ما ينفعنا ، وأن ينفعنا بما علَّمنا ، وأن يهدينا سواء السبيل .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات .

1438/10/7