بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..
فإن متن تنقيح الفصول للقرافي رحمه الله تعالى،من المتون التي ينبغي على طالب العلم أن يكررها ويكثر النظر فيها،من حين لآخر، لأن فيها خلاصة وصفوة المسائل الأصولية.
ومن أطال النظر في هذا المتن وجعله أمام عينيه، فإنه يكتسب ملَكة الأصول والفقه، وهذا مجرب من كثير من العلماء قديما وحديثاً.
والمتن هذا فيه : جمع ومذاكرة وتلخيص واستدلال.
وهذه الأربعة هي التي تقوي طالب العلوم الشرعية ليفهم المسائل والبحوث.
وقد صنَّف القرافي متنه ليكون هادياً لفهم الفقه ومسائل الأصول، فقد قال بعد أن أورد مصادره : ( ولم أترك من هذه الكتب إلا التقاسيم ويسيراً من المسائل والمباحث التي لا يحتاج إليها الفقيه) .
ففي هذه دلالة على أن الاشتغال بالمفضول يفوت فهم الفاضل وربما ضَّيعه بالكلية.
وهذه نصيحة مهمة من القرافي قد لا ينتبه لها كثير من الناس.
وقد استهل القرافي متنه بالمصطلحات وختمه بأدلة المجتهدين،وفي هذا إشارة إلى أن طريق علم الأصول يكون بفهم ألفاظه ومعانيه،ثم يترقى الطالب حتى يصل إلى درجة الإجتهاد وقد لا يصل، لأن الأذهان متفاوتة، والتوفيق فضل من الله وحده.
ونصيحتي لمن أراد فهم التنقيح: أن يقرأ كل يوم صفحتين ولا يزيد، ويعلِّق بقلمه على المشكل والمبهم، ولا يقف حتى ينتهي من الكتاب.
ثم يذاكر مسائله مع معلم ضليع في الفن، حتى يأتي على كل المباحث، في عام أو عامين.
فبهذه المنهجية يختصر على نفسه كثيراً من العناء،وقد لا يحتاج إلى مراجعة مئات المصنفات في فن الأصول.
والعبد الفقير ينظر في هذا المتن منذ عشرين عاماً، وكل يوم يستفيد منه معنى جديداً، ولعل هذا من إخلاص القرافي وصدقه وقبوله عند الله تعالى.
صنَّف القَرافيُّ كتابه تنقيح الفصول ليكون مقدِّمة لكتابه (الذخيرة) وقد اختصرهُ من كتاب محصول الرازي(ت: 606ه ) رحمه الله تعالى ،وزاد عليه زيادات نافعة.
وقد نَقل فوائد ومسائل من كتب أُخرى أشار إليها في مقدمته للتنقيح ، مثل: الإفادة للقاضي عبد الوهاب(ت:422ه)والإشارة للباجي(ت:474ه)ومقدمة ابن القصار(ت:397ه)وغيرها.
وبعد شُهرة التنقيح أفرده وقام بشرحه،وانتفع به القاصي والداني في بلاد المشرق والمغرب.
ولغة الكتاب متوسطة ليست باليسيرة ولا العسيرة، وقد اشتمل التنقيح على عشرين باباً ومئة فصل واثنين.
وقد أشار القَرافي إلى رغبته في إظهار علو شرف أصول مذهب الإمام مالك في الأصول والفروع، وبيان ما يحتاج إليه أهلُ المناظرة من فوائد وقواعد.
لم يكن للقَرافي منهج ثابت في عرض المسائل،فقد يلاحظ المطالع الإسهاب والإطناب، وكثرة الأمثلة وقلتها،والجلي منها والخفي.
وفي التنقيح استشهاد بنحو ستين آية من كتاب الله تعالى،وبنحو ثلاثين حديثاً من الاحاديث المرفوعة.
وفيه إشارة إلى مذهب الشافعية والحنفية والمالكية،في بعض أصولهم وفروعهم،ولم يعرِّج على مذهب الحنابلة في كتابه.لكنه أورد بعض أقوال الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
وقد ناقش المعتزلة والخوارج والشيعة وأهل الظاهر،واستدل ببعض الأقوال المتعلقة بهم.
وقد أكثر من مناقشة المعتزلة والحنفية والشافعية ،بل جُل الكتاب عن أقوالهم والرد على اختياراتهم.
وفي الكتاب نقل لاختيارات الرازي(ت: 606ه ) رحمه الله تعالى صاحب الأصل،وهو ينعته بالإمام أو بفخر الدين ،ويبجله.
وفي الكتاب أيضاً عدة مسائل عقدية نحو عشر مسائل.
وفي شرح القَرافي للتنقيح تراجع وتصحيح لبعض اختياراته في المتن ولأقواله في نحو أربعين مسألة.
وطريقته في المتن أن يُعرِّف المصطلحات ويبيِّن الحدود،وإذا كان في المسألة ترجيح بدأ بمذهب المالكية بقول : (لنا ، عندنا ، مذهبنا، وعندي ) ،ثم عرَّج على المذاهب والفِرق المخالفة.
وقد يذكر آراء أهل اللغة ويردُّ عليهم بأدبٍ وحفظٍ لألقابهم.
والعلامة القَرافي هو: أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله الصنهاجي القرافي. أصله من صنهاجة من برابرة المغرب، ونُسب إلى القرافة بالقاهرة.
ولد في صعيد مصر في قرية بوش، سنة (626ه).
تلقى العلم على عدد من العلماء، منهم : عثمان بن عمرو ابن الحاجب(ت: 646ه )قرأ عليه علم الأصول.
و عبد الحميد بن عيسى الخسرو شاهي(ت: 652ه) قرأ عليه الفقه والعلوم العقلية.
وكذلك العز بن عبد السلام (ت: 660ه)لازمه القَرافي طويلاً وانتفع به، وهو الوحيد من شيوخه ممن أفرد القرافي اسمهُ في كتابه التنقيح.
ومحمد بن إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي(ت:676ه) ،قرأ عليه كتابه (وصول ثواب القرآن).
ومحمد بن عمران بن موسى الكركي(ت:688ه)،قرأ عليه الفقه والأصول. رحمهم الله جميعاً وغفر لهم.
توفي القرافي في القاهرة ،يوم الاحد في شهر جمادى الآخرة سنة 684ه، رحمه الله تعالى.
والقرافي أشعريُّ المعتقد في الأصول، مالكي المذهب في الفروع،وكان ضليعاً في الفقه والأصول والعربية، وقد انتفع به الطلابُ في حياته وبعد وفاته، ولم يعمر طويلاً ،فقد عاش ثمانية وخمسين عاماً.
مصنفاته كثيرة جداً، من أشهرها في أصول الدين: الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة، وأدلة الوحدانية في الرد على النصرانية.
وفي أصول الفقه: متن تنقيح الفصول، شرح تنقيح الفصول،نفائس الأصول في شرح المحصول.
وفي الفقه: الذخيرة، شرح تفريع الجلاب،أنوار البروق في أنواع الفروق.
وفي علوم العربية : القواعد الثلاثون في علم العربية .
وتنقيح الفصول للقرافي متن أصولي له شُهرة عند العلماء والباحثين، ولا يكاد يستغني عنه مشتغل بعلم الأصول.
أما فيما يتعلق بمصنفات القرافي ،فقد يظن بعض الناس أن القرافي رحمه الله تعالى صنَّف التنقيح وغيره من مؤلفاته على بساط أخضر بجوار نهر جاري، والحق أن القَرافي صنف كتابه وحوله من المزعجات والمنغِّصات ما لا يعلمه إلا اللطيف الخبير.
عاش القَرافي في مطلع القرن السابع الهجري،حين جمعت الفرنجة خلقاً كثيراً بغية استعادة بيت المقدس من المسلمين،لبسط نفوذهم في مصر والشام لتأسيس إمارة لهم،ولهذا أغاروا على كثير من بلاد المسلمين،ووقعت معارك ضارية من بينها عدة معارك في دمشق ونواحي مصر.
لقد شهد القرافي الغزو المغولي لبغداد وخراب بغداد مدينة السلام، وعاصمة الخلافة الإسلامية،وقد استمر القتل والتنكيل في بغداد أربعين يوماً،وبلغ عدد القتلى نحو مليونين، وتغيَّر نهر دجلة واسودَّ لونه،بسبب مِداد مئات الآلاف من الكتب التي أُلقي بعضها في النهر وبعضها تم حرقه غِلاً وحِقداً على الإسلام وأهله.
ثم زحف التتارُ نحو دمشق فاحتلوها واحتلوا حلب وحماة.
وقد توجهت انظارُ الفرنجة نحو مصر ،واستولوا على دمياط بعد أن دخلوها غدراً وكانوا قد أعطوا أهلها الأمان،فقتلوا الرجال وسبوا النساء والأطفال وخرَّبوا الديار.
ثم زحفوا على المنصورة،لكن المسلمين قاتلوا وثبتوا حتى كتب الله لهم النصر.
ومن ناحية أخرى فقد عاصر القَرافي عدداً كبيراً من الملوك والسلاطين التي امتازت فترتهم بكثرة الفتن والانقلابات الداخلية ،واستمرار الحروب بين سلاطين مصر ودمشق، وغيرها من بلاد الشام،مما نتج عنه مقتل عدد من السلاطين والوجهاء.
لقد عاصر القرافي أيضاً حياة الأمن والرخاء ،كما عاصر حياة الخوف والشدة بسبب الفتن والجوع وتدهور الوضع الأقتصادي في البلاد، ولقد شهد قسوةَ الضرائب على أخلاق الناس، ورأى الغلاء والبلاء والمجاعات وكثرة الامراض والأموات ،بسبب قِلة الأقوات وغلاء الأسعار وانعدام الراحة.
ويستفاد من هذا كله أن العلم والفهم لا يقف أمامهما كل ظروف وعوائق الحياة، إن كانت الإرادة قوية والعزيمة صلبة، والنفس تواقة للمعالي.
وللكتاب مختصر لطيف بقلم طاهر الجزائري(ت: 1338ه ) وحاشية لجمال الدين القاسمي(ت: 1332) رحمهما الله تعالى،وسيطبع بتحقيقي قريباً إن شاء الله تعالى.
أما شروح تنقيح الفصول والحواشي عليه ،فهي مشهورة عند كل مشتغل بعلم الأصول.
وأخيراً فإن هذا الكتاب القيم وأمثاله لم تصل إلينا إلا بعد سهر وتعب وجهد وجَلد في البحث والمذاكرة، ومن حق علمائنا أن ندعو لهم بالرحمة والمغفرة، وأن نلتمس لهم العذر فيما زلَّت به أقلامهم من لفظة أو معنى، وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
  د/ أحمد بن مسفر العتيبي
  بجوار البيت العتيق. 15/11/1442