جمعني مجلس مع أحد مشايخ الهند ، فشكوتُ إليه ضياع هيبة العلم بين الناس، وذكرت له ما روي عن الامام الشافعي(ت: 204هـ) رحمه الله تعالى، أنه كان يقول :” كنت أتصفح الورقه بين يدي الامام مالك تصفحا رقيقا، هيبة لئلا يسمع وقعها ” . وما روي عن الربيع بن سليمان( 270هـ) رحمه الله تعالى ،تلميذ الشافعي ، أنه قال:” والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي ” . فاسترجع وقال لي : إن كتاب سير أعلام النبلاء ضم بين دفتيه مئات العلماء ، لكن لم تحفظ الهيبة إلا للعشرات منهم . قال العلامة علي الجرجاني (ت: 392هـ ) رحمه الله تعالى :
 
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم 
ولو عظموه في النفوس لعظما 
ولكن أهانوه فهان ودنسوا 
محياه بالأطماع حتى تجهما 
 
•أسباب فقدان هيبة العلم :
 
1-غمز نصوص الشريعه : إما بالتأويل المذموم، أو بالاعتراض على الأدلة، أو تطويع النصوص المحكمة لأغراض الهوى والمذهب، لمقاصد رديئة . وقد وقع هذا للجهمية ومن تبعهم من فرق ضالة، تتبع ذيولها بعض التيارات الفكرية في عصرنا اليوم ،كما هو مشاهد في الصحف وبعض مواقع التواصل الاجتماعي . قال الله تعالى :” فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به “( المائدة : 13).
 
2- تعطيل حرمات الدِّين :
 
وقد حقق هذا المعنى ابن الجوزي(ت: 597هـ ) رحمه الله تعالى ،حين قال :
 
“لقيتُ مشايخ أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه، ولقيتُ جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون، ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح وتعديل، ويسارعون بالجواب لئلا ينكسر الجاه، وإن وقع خطأ، ولقيتُ عبد الوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف لم يسمع في مجلسه غيبة. وكنتُ إذا قرأتُ عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه، فكان -وأنا صغير السن حينئذ- يعملُ بكاؤه في قلبي، وكان على سمت المشائخ الذين سمعت أوصافهم في النقل .
ولقيتُ الشيخ أبا منصور الجواليقي، فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول متقناً محققاً، وربما سئل المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه، فيتوقف فيها حتى يتيقن، وكان كثير الصوم والصمت، فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما .
ففهمتُ من هذه الحالة أنّ الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول”.
 
3-الركون الى العلماء المتلوِّنين : وقد وقع هذا لبعض فضلاء العصر على جلالة قدرهم ومنزلتهم في العلم. من ذلك ما جاء في سيرة الشيخ عبد الفتاح ابو غده(ت: 1417هـ ) رحمه الله تعالى ،من تعلقه ودفاعه عن شيخه محمد بن زاهد الكوثري (ت: 1371هـ ) عامله الله بعدله، المعروف بعدائه لأهل السنه والجماعة ، وقد صرح أبو غدة في بعض مؤلفاته بأنه مرجئ ، وأنه على نهج شيخه . ومن طاماته : الاعتقاد بالقبور، وغمز بعض علماء السلف ،وزعمه أن تقسيم التوحيد لدى السلف الى توحيد الربوبية وتوحيد الالوهية وتوحيد الاسماء والصفات ، هو تقسيم اصطلاحي لا دليل عليه .
 
4- التماس العلم عند الأصاغر : 
 
وقد وقع هذا عيانا بيانا في هذا العصر، فلا حول ولا قوة الا بالله ، فقد تقدم الأراذل والفساق على أهل الدراية والتقوى والأهلية ، وأصبحت العلوم الاسلامية تُمتهن عند من تزبب قبل أن يتحصرم . ممن لا يعرف نصا ولا دينا الا من رحم الله، فإلى الله المشتكى .
وقد روي عن أبي أمية الجمحي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: :
 
“إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر ” . أخرجه الطبراني باسناد حسن.
وقد صدق عبد الوهاب المالكي (ت: 422هـ ) رحمه الله تعالى، حين قال :
 
متى يصل العطاشُ اٍلى اٍرتواء 
اٍذا اسـتـقـت الـبـحـار مــــن الـرّكـايــا 
ومـــــن يــثــنــي الأصــاغــر عــن مــــــراد 
وقــــد جــلــس الأكــابــر فــــي الــزاويــا 
واٍنّ ترفع الــــــوضــــــعــــــاء 
يـــوماعلـى الرفعـاء مـن اٍحـدى الـرّزايـا 
اٍذا اســتــوت الأســافــل والأعــالـــي 
فــــــقــــــد طــــــابــــــت مــــنــــادمــــة الـــمـــنـــايـــا .
 
5- الافتتان بالولاة : ويقع إذا كان صاحبه قليل المراقبة والتعلق بالله تعالى ،فيجعل العلم له بازيا يصطاد به أموال السلاطين. وهذا السبب يحدث إما خوفا من بطش الولاة، أو طمعا في حظوظ الدنيا الزائلة ، كالخوف على الوظيفة أو المنصب أو الحظوة .
قال سعيد بن المسيب ( ت: 94هـ ) رحمه الله تعالى :
 
“إذا رأيتم العالم يرتاد مجلس السلطان، فاعلموا أنه لص” . وهذا الأثر يقصد به العلماء الغششة الذين يداهنون السلاطين ، ولا ينطبق على كل من يرتاد أبوابهم . ويتولد عن هذه المصيبة : كتمان الحق ،والتسامح في تحريم بعض ما تيقن تحريمه ،وتحليل الحرام ، وغيرها من الطوام العظام . والله المستعان . 
نسأل الله صلاح الحال والمآل . والحمد الذي بنعمته تتم الصالحات .
 
المصادر :
1-تفسير الجلالين .
2-صيد الخاطر / ابن الجوزي / 62
3-سير أعلام النبلاء / للذهبي .
4-برآءة أهل السنة / بكر أبو زيد / 40 .
5-الأجوبة الفاضلة / للكنوي / 33 .
6- كناشتي الخاصه .
 
أ/أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصه