الهرج والمرج الحاصل في الديار المصرية منذ شهور ليس غريباً على من له أدنى اطلاع وتأمل على الواقع الاسلامي في بلاد أفريقيا وغيرها من البلاد الاسلامية . فالواقع المصري أشهر من أن يخفى على عجائز نجد أو اليمن . لكن أحكام الاضطراب في المشهد السياسي قد توقع التباسا بين بعض من لا يحسن التصور الصحيح للسياسة الشرعية في النظر إلى مآلات الأفعال . وقد قيدت ما تيسر لي من أحكام أصولية للنازلة المصرية ، التمست بعضها ممن ينتمي لمصر دمًا ونسبًا، والبعض الآخر استنبطتها بما ظهر لي من قراءة الأحداث وربطها بالسنن الشرعية والكونية .

 
ولا يخفى أن النُّخب الشرعية والسياسية في مصر متنافرة بسبب اختلاف الموارد والاتجاهات، ولا يمكن الفصل في النزاع بينها إلا بالحكمة والموازنة بين المصالح والمفاسد التي لا يختلف عليها العقلاء. والموفق من هداه الله لرؤية الحق ولو كان من أراذل الناس . والقاعدة الشرعية المحكمة التي لا يمكن النزاع فيها في هذه الأحوال ،أن فضل الله لا يمكن تحصيله إلا بالخضوع لحكمه وشرعه . قال الله تعالى :” أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيما ” ( النساء : 54 ) . ويمكن حصر المعالم الرئيسة التي يتردد فيها النزاع والخصام بين الحكومة والمعارضة في عشر مسائل :
 
1- الحاكمية : الراية الاسلامية التي يجب رفعها في سماء مصر ويعمل بها تشريعًا وتنظيمًا وتعليماً في مؤسسات الدولة الخاصة والعامة هي راية التوحيد . وأهم مؤسسات الدولة المصرية هي التعليم والقضاء ، فإذا أسستا على معالم الايمان والتوحيد والحق ، رسخت دعائم النظام في جميع أركانه ، والعكس بالعكس . واذا ضعفت هيبة التوحيد في الدولة في جميع مؤسساتها بدأ الانهيار والاستئصال يظهر للعيان بيانًا. وقد عانت مصر من ضعف الحاكمية منذ قرون كلما استقامت وثبتت ظهر من الفساق والفراعنة من أعادها الى التيِّه والضلال والخذلان . ولن تحفظ هيبة الدولة إلا بهدم مظاهر الوثنية من القلوب و الحواس ، واقامة الحدود وتطبيق التعاليم الاسلامية على حسب طاقة الناس ومشقتهم ، إلى حين الثبات المنشود . فالدستور يطلب من الوحي الذي به تناط الأحكام والتشريعات والقوانين لكل المذاهب والأحزاب مهما كان مشربها وموردها . فتحقيق العبودية لله تعالى يكون بالتحاكم والخضوع لأوامره في كل صغير وكبير، كما قال الله تعالى : ” ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ” ( النساء : 54 ) . والحكم الأصولي في هذه المسألة أن أحكام التشريع- التي تفرقت فيها الأحزاب- لا تُعلَّل بالمصالح المتوهمة أو الملغاة ، إنما بما أراده الله وقرَّره . ولكل دين كرامة وذمَّة، ودين الله الحق أكرم دين .
 
2- المرجعيه الدستوريه : من دلائل الخراب والتذبذب عن الحق استشارة الظالمين من الحاقدين على الاسلام والتوحيد من أهل مصر أو خارجها . سواء في الاجراءآت القضائية أو التشريعية أو في التوصية بالأنظمة والتشريعات الادارية التي ظاهرها الرحمة وباطنها من قبلها العذاب . والواجب على أهل مصر تطهير مؤسسات الدولة من زمرة الداخلين الى أهل الخير ممن يتظاهرون بالصلاح وهم من أبعد الناس عنه ، ولا يكون ذلك إلا بالحزم والحسم ليحيى من حيَّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة . والقاعدة المقرِّرة للحكم في هذه المسألة هي قول الله تعالى : ” ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ” ( هود: 113) . 
 
3- المصالح المعتبرة : اذا كان التماس المصالح أمانة تناط بأعناق الرجال المخلصين، للحفاظ على أرواح وممتلكات ملايين البشر ،فمن الغبن والأسف أن تطلب المصالح بالتصويت لها عن طريق الاقتراع لها من قبل الدهماء . فمتى أجمع العلماء والعقلاء وأهل الحل والعقد ممن ظهر صلاحهم ورشدهم على مصالح عالية معتبرة ، فيجب السعي لتحصيلها واصدار ما يُسهِّل العمل بها . ويجب طرح كل مصلحة دنيا ظهرت أو تبين فسادها في الحال أو في المآل . وقد قضى الرسول صلى الله عليه وسلم في الطريق المتنازع عليه بجعل عرضه سبعة أذرع . فكيف بالمصالح العالية التي عليها معاش ملايين البشر ؟! .
 
4- محاكمة رموز النظام البائد : من معالم الدولة المستقرة الشروع في محاسبة الفاسدين والمتربصين بحياة الوادعين المطمئنين . واذا رفعت الدولة يدها عن محاسبة أهل الباطل عظمت جذوة الشر واتسع لهيبها حتى تحرق الأخضر واليابس . لكن يجب تحرِّي العدل في العقاب والحساب . وأهل الباطل أصناف منهم من يفسد بلسانه أو بقلمه ،ومنهم من يفسد بجاهه وثروته، ومنهم من يفسد بأتباعه وطلابه . فيعاملون على حسب مقتضى الحال . وقد قال الله تعالى : ” كُتب عليكم القتال وهو كُرهٌ لكم ” ( البقرة : 216 ) وفي المرفوع : “لُّي الواجد يُحل عرضه وعقوبته ” . أخرجه ابو داود باسناد صحيح . ولن تحفظ هيبة مؤسسات الدولة إلا بحفظ هذا الاصل . ومن اللطائف الأصولية هنا مسألة : هل يجوز الافتاء في الخصومات التي هي من اختصاص القضاء ؟ وهي من المسائل التي اختلف فيها الأصوليون . قال الناظم :
ومُنع الافتاء للحكام في كل ما يرجع للخصام .
 
5- مآلات الأمور : لا ريب أن التكاليف قسمان أوامر ونواهي . والوسائل ربع التكاليف . ومعرفة فقه الوسائل من ضروريات صلاح المقاصد وانضباطها في الدولة المسلمة . وأقل فوائد فقه الوسائل هي معرفة وتقدير حجم الخلافات في الحقول العملية . ولا يمكن صلاح الوسائل الا باقامة العدل والقسط وواجب الوقت الذي أمر الشرع به في جميع شؤؤن الحياة ، ونبذ الحيل والبدع التي يتوصل بها الى ابطال مقاصد الشريعة ، حتى وإن كانت تلك الحيل من القوانين الوضعية التي تلتمس لضبط النظام العام. وبالتفريط في هذا الباب تعم الفوضى ويفشو الظلم وتنتشر الرشوة والمكيدة بين أبناء البيت الواحد . ولم تظهر الأحزاب والهيئات المتنابذة التي تصافح بعضَها نهارا وتتقاتل ليلاً، إلا بسبب غياب هذا الفقه الذي أمر الله بحفظه والعمل به . والقاعدة هنا : أن الصبر على بعض المفاسد المتوقَّعة قد يكون واجبًا لتحصيل مصالح راجحة . ومناط هذا تقدير أهل العلم والولاية .
 
6- التيارات الفكرية والمذهبية : الشيوعية والناصرية وأهل التنصير من الأقباط وأتباعهم من العلمانيين والليبراليين واليساريين والديمقراطيين وغيرهم من أهل الفساد والانحراف ،لن يتنازلوا عن معتقداتهم ومبادئهم إلا بالترهيب وحزم الحاكم الشرعي ، أما الجدل البيزنطي فلا ثمرة فيه . ويُخيَّر الحاكم أو الرئيس في المصلحة الراجحة لديه، إما الزجر والتأديب أو الحجر والنفي . وينبغي استعمال الحكمة والحزم في آنٍ واحد في هذا المقام . وللامام ابن تيمية قاعدة نفيسة في الخصومات ذكر فيها أن الغالب في الظلم في الدِّين أنه يدعو إلى الظلم في الدنيا، وقد لا ينعكس .
وقرَّر فيها أن المبتدع في دينه أشدَّ من الفاجر في دنياه، وعقوبات الخوارج أعظم من عقوبات أئمة الجور . وتقدير ما تقدَّم يكون للحاكم أو من يُنيبه من أهل العلم الناصحين .
 
7- الأمة ليست مصدر السلطات : مقولة مصر لكل المصريين والشعب مصدر السلطات. عبارة حقٍ قُصد بها الباطل . والظاهر أن من قنَّنها هم أعداء الملة من المذاهب المنحرفة . وفرقٌ بين الشورى والديمقراطية . فالأولى لا يتُحاكم إليها عند ورود النص . والثانية تكون السيادة المطلقة فيها للشعب، والغلبة للأكثرية وليست للحق ولا للنص الصريح !! . فهي ذريعة إلى الكفر عياذًا بالله تعالى . وقد حكم الله تعالى بضلال كثيٍر من عقول الناس، فلا يجوز المراهنة عليها . قال تعالى :” وإنَّ كثيراً من الناس لفاسقون ” ( المائدة : 49 ) . والأمة العاقلة تستمد نورها وهديها من المصدر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو هدي الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم . ولا يصح شرعاً ولا عقلاً أن يُخاصِم الشعب ويقاضي في وقتٍ واحد . قال الله تعالى : ” ولو كان من عند غير اللهِ لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا ” ( النساء : 82) . 
 
8- دفع البلاء يكون بالتدريج : يجب على من ثبتت ولايته من أهل مصر أن يسعى إلى دفع البلاء عن الأمة بقدر الطاقة . والتدريج سنة عمل بها السلف . وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أنه قال : “لو أقمتُ فيكم خمسين عامًا ما استكملت فيكم العدل، إني لأريد الأمر وأخاف أن لا تحمله قلوبكم، فأخرج معه طمعًا من الدنيا، فإن أنكرت قلوبكم هذا سكنت إلى هذا ” .وسئل الإمام مالك رحمه الله تعالى عن الرقيق العجم، يُشترون في شهر رمضان وهم لا يعرفون الإسلام ويرغبون فيه، لكن لا يفقهون ما يُراد منهم، فهل يُجبرون على الصيام أم يُطعمون؟ فقال: ” أرى أن يُطعموا ولا يمنعوا الطعام ويرفق بهم حتى يتعلموا الإسلام، ويعرفوا واجباته وأحكامه “.
 
9- لا يمكن تغيير الواقع في عشية أو ضحاها : التراكمات الفاسدة التي خلَّفتها الأنظمة المستبدة لا يمكن أن تزول في لمحة بصر، فهذا مما يخالف سنن الله الكونية والشرعية . فلا بُدّ من الصبر وحسن التدبير وضبط النفس ومداراة من يغلب شرهم ،حتى تقوى شوكة أهل الاخلاص والايمان . قال بعض السلف : ” ثلاثة يمتحن بها عقول الرجال: كثرة المال، والمصيبة، والولاية” . ويجب أن يعلم أن ما نزل بأهل مصر ومن حولهم من الأمصار إنما هو بسبب ذنوبهم . قال عمر بن عبد العزيز : ” يحدث للناس من أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور ” .
 
10- الفتوى تتغير بتغير النازلة في الزمان والمكان والحال : لا يمكن ضبط الناس على فتوى واحدة رسخت في القلوب في وقت من الأوقات، لا سيما عند تبدل أحوالهم وظروفهم . وليس معنى هذا الحيدة عن الحق ونبذ الدليل ، لكن لا يجب التضييق على الأمة في نازلة يمكن الخروج منها باجتهاد يقي من الوقوع في مضايق لا يمكن الصبر عليها . فحُمَّى التصويت على الدستور شرٌّ لا بد منه ، فإما أن تكون فرصة سانحة لتطبيق الشريعة الاسلامية ،أو الدخول إلى نفق الحرب الأهلية وصوملة مصر وتقطيع أوصالها ، وهذا ما تسعى إليه القوى الاستعمارية الحاقدة . والفقه الصحيح أن تُترك هذه النازلة لعلماء مصر وعقلائها ومحتسبيها، ففيهم من الحكمة والعدل ورجاحة الرأي ما يُؤهلهم للبصيرة في دين الله وتجاوز كل عسير . وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ” أنتم في زمانٍ من ترك عُشر ما أمر به هلك ، وسيأتي عليكم زمانٌ من عمل بِعُشر ماأُمر به نجا ” . أخرجه الترمذي باسناد صحيح . وقد استنبط الامام الزركشي من هذه الحديث وجوب تخفيف الفتوى عند عموم البلوى .
 
والخلاصة أن هذه المسائل : الولاية والحكم وجهاد أهل المذاهب والأحزاب المنحرفة ، لا يجوز أن يُخاض فيها دون مراعاة للعواقب، وتقدير للمصالح والمفاسد ، ومعرفة بقواعد أهل العلم في مسائلها مع الفهم التام . والحديث في السياسة بلا علم، كالثناء على أهل الجاهلية . وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: “مَنْ أراد أن يعلم جهل العرب فليقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام ” . هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
 
أ/أحمد بن مسفر العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصه