نكتةٌ عقدية في لُبس العِقال
الكلام حول العِقال الذي يُلبس على الرأس لم يُحرَّر في تقديري من طلبة العلم ،فمن مُتَوسِّعِ في كراهيته لأهل العلم والفضل ، ومن مُطلق للإباحةٍ بمطلق النية .كل ذلك بسبب تقليد الأتباع والمشايخ . والكلام هنا عن العقال وليس عن العمامة،فنأمل التنبُّه لهذا.
وقد قال الإمام أحمد (ت:241هـ )رحمه الله تعالى : ” من قِلة عِلم الرجل أن يقِّلد دينه الرجال “.
وقد تقرَّر عند الأصولييِّن أن من شروط التكليف فهم الخطاب ، فلا تكليف بنهي ولا كراهة إلا بعد فهم الخطاب في الدليل.
والإمام ابن تيمية (ت: 728هـ ) رحمه الله تعالى هو أوَّل المحقِّقين الذين أشاروا إلى لبس العقال الذي يلبس اليوم ، فقد قال : ” والسلف كانوا يُحنِّكون عمائمهم لأنهم كانوا يركبون الخيل , ويُجاهدون في سبيل الله فإن لم يربطوا العمائم بالتحنيك وإلا سقطت , ولم يمكن معها طرد الخيل.
ولهذا ذَكر الإمام أحمد عن أهل الشام أنهم كانوا يُحافظون على هذه السُّنة لأجل أنهم كانوا في زمنه هم المجاهدون , وذكر إسحاق بن راهوية بإسناده أن أولاد المهاجرين والأنصار كانوا يلبسون العمائم بلا تحنيك ، وهذا لأنهم كانوا في الحجاز في زمن التابعين لا يُجاهدون” .
والحافظ ابن حجر العسقلاني ( ت: 852هـ ) رحمه الله تعالى أول الحُفَّاظ المحدِّثين الذين أشاروا إلى فضيلة لبس العِقال تلميحاً لا تصريحاً ، حيث قال في الفتح : ” العصابة شدُّ الخِرقة على ما أحاط بالعمامة ” تعليقا على حديث : ” وقد عصب رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسه حاشية برُد ” أخرجه البخاري .
فالعرب كانوا يربطوا العمائم بالتحنيك والعصابة من التحنيك , وعمائم العرب تغطِّي الرأس كاملاً مع الأذنين كما في الحديث ” الأُذنان من الرأس ” أخرجه أبو داود بإسناد حسن.
أما العمائم التي يلبسها الرافضة و أهل التصوف فهذه عمائم قوم لوط كما أشار إلى ذلك الإمام عطية العوفي كما في ” أحكام العمامة ” ليوسف بن عبدالهادي ( ت: 909هـ ), رحمهما الله تعالى ، لأن عمائمهم لم تُغطِّي الرأس , فتظهر الأُذنان مكشوفه . وقد كانت هذه عادة عندهم لمقاصد معينة ،فلا يتابعون عليها ،والأعمال بالمقاصد .
وهذه العمائم لا يمسح عليها في الوضوء خِلافاً لعمائم العرب، فإنها تغطِّي الرأس والأذنان كما في الحديث المشار إليه.
أما عمائم اليوم عند أهل الشام والمغاربة والأفغان وغيرهم ،مما يُلفُّ حول الرأس ،فهي عمائم صحيحة حتى وإن كانت الآذان فيها مكشوفة ،لأن المقاصد تختلف من فئة إلى أخرى بحسب الزمان والحال.
والعقال هيئة من هيئات اللباس التي ظهرت بين العرب في أزمنة قديمة بسبب الظروف المعيشية في تلك الفترة ، ولم يكن بصورته المعاصرة.
فالعقال تقليد ومضاهاة للعمامة التي كانت تلبس فوق الرأس ويعتم بها العربي، للوقاية من الشمس والهواء أثناء المشي أو العمل.
والعقال يشبه العصابة التي يعصب بها الرأس قديما ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس العصابة السوداء كما في حديث الهجرة وغيره . وقد ثبت في الصِّحاح والسُّنن . وقد توسَّع في شرح هذه المسألة الدقيقة العلامة علي بن سلطان القاري ( ت: 1014هـ ) رحمه الله تعالى ، في كتابه ” جمع الوسائل في شرح الشمائل ” فلتراجع فإنها مهمة .
والرسول صلى الله عليه وسلم كانت له عمامة وهي : ما يُلفُّ على الرأس ، كما هو اللباس الشعبي في بعض البلاد اليوم كاليمن والسودان ، وتُسمى : السحاب ، كساها علياً ، وكان يلبَسُها ويلْبَسُ تحتها القَلَنسُوة ، وكان يلبَس القلنسُوة بغير عمامة ، ويلبَسُ العِمامة بغير قلنسُوة .
وكان إذا اعتمَّ أرخى عِمامته بين كتفيه ، كما رواه مسلم في ” صحيحه ” عن عمرو بن حريث قال : ” رأيتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على المنبرِ وَعَلَيهِ عِمَامَة سَوْدَاءُ قَدْ أرخَى طَرفَيهَا بينَ كَتِفَيْهِ ” ، وفي مسلم أيضاً عن جابر بن عبد اللّه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ” دَخَلَ مَكَّة وَعَلَيْهِ عمَامَةٌ سَودَاء “، ولم يذكر في حديث جابر: ذؤابة ، فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائماً بين كتفيه ، بل كان يلبسَ في كل مَوطِنٍ ما يُناسبه .
والعِقال قديماً كان يُستعمل – أحيانا – لربط الناقة ، وقد يضعه العربي على رأسه أثناء المشي عصابة ، للإستعانة به في العمل أو عند الحاجة ، ومع الوقت أصبح شعاراً لأهل الوبر والبادية لأنه من ضروريات المهنة والحاجة .
وقد تنبَّه عرب الشام والعراق قديماً لهذه العادة ، فاستغلوها في التجارة فتطوَّرت صناعة العِقال على مر السنين ، من أداة كانت تستعمل للمهنة ، فزيد فيها تحسيناً وتجميلاً حتى صارت سِّلعة للتزيُّن والتجمُّل .
فقد ظهر العِقال العادي والمقصَّب، وأخيرا ظهر ما يسمى ” ميني عقال ” ! وهو أسورة توضع في يد الرجل تُشبه العِقال ، وهي محرمة بلا خلاف لأنها من التشبه بالنساء .
يُقصد بلبس العقال الأسود عند – بعض المثقفين والمؤرخين – التأسِّي والحزن على فقدان الأندلس الذي سقط بيد الأسبان ! وقد راجت هذه الرواية ولم أجد لها سنداً يُعوَّل عليه في روايتها .
فهذه النية – في لبس العقال – باطلة وفاسدة ولا تجوز شرعاً ولا ديانة ، لأن الحزن فوق ثلاث لا يجوز إلا للمعتدَّة على زوجها أربعة أشهرٍ وعشرا .
وأما إن كان لبس العقال بمحض العادة وللتعبُّد بالتقرب بالمباحات طاعة لله تعالى ، بغض النظر عن لون أو حادثة بعيتها ، فهذا جائز ولا محظور فيه لا من جهة الشرع ولا من جهة العادة . يستوي في ذلك أهل العلم وغيرهم ، لأن المكلفين خطابهم واحد كما هو متقرر عند الأصولييِّن .
فالروايات التاريخية التي تذكر أن العقال كان أبيضاً، ثم لما سقطت الأندلس اتفق الناس على لبس العقال الأسود حتى يُحرِّروا الأندلس من الأسبان ، روايات لا إسناد صحيح يثُبتها ، وقد مرَّ معنا في أول المقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس عصابة سوداء ،كما لبس عمامة سوداء . وهذا يعني أن هيئة العقال ( العصابة ) سوداء أو غيرها ، كانت معروفة قبل سقوط الأندلس بأكثر من ثمانية قرون ! .
وختاماً فليس المقصود من هذا المقال التعصُّب لِّلبس العقال أو الدعوة إلى نبذه وهجره ، إنما المقصود بيان النية الصحيحة في لبسه ، وأن الحق في اتِّباع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في لبسه وعدم تقليد لُبس أحدٍ بنية غير مشروعة ، سواء في حال فرح أو حزن.
وقد أومأ الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى التهوين من شأن العقال ، فلا يجوز الجدل في أمره ، لا سِّيما بين طلبة العلم ،كما في الأثر : ” الشُّفعة كحلِّ العقال ” أخرجه ابن ماجة بإسناد ضعيف . ومفهوم الحديث : انتفعوا بالعِقال ولا تختلفوا في مقاصده أياًّ كانت منافعه، لئِلا تقع المشقة .
وقد قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ” إذا كانت فائدة العمل منفعة لا تقاوم مشقته ، فهذا فساد ، والله لا يحب الفساد ” . وبالله التوفيق .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
1436/5/22هـ