من الملاحظ والملفت أن مُذكِّرات النُّورسي زاد رواجها في بلاد الحرمين في السنة الهجرية الفارطة ( 1438هـ ).

وهذا الأمر لمسته بنفسي في أوساط الشباب ، وفي الجامعات وفي مواقع التواصل الإجتماعي.

هناك زخم إعلامي مُوجَّه وواضح لنشر تراث ومذكِّرات النورسي ، وقد بدأ جلياً من تركيا مروراً بسوريا ومِصر والعراق ، ثم الإمارات والكويت ووصولاً لبلاد الحرمين .

مُذكِّرات بديع الزمان سعيد النورسي (ت: 1397 ) عامله الله بعدله ، مذكِّرات عجيبة ، وفيها تجارب ومواقف غريبة عن حياة هذا الرجل الكرديِّ الذي لمع نجمهُ بعد سقوط الدولة العثمانية.
مذكِّرات النورسي تقع في نحو سبعمئة صفحة ، وهي مترجمة إلى العربية ، وقد طبعتها دار سوزلر باستنبول عام ( 1419هـ) ، وطبعت طبعة فاخرة بدار لوامع الأنوار بمكة عام ( 1435هـ).

وقد عكفتُ على قراءة مذكِّراته كلمة كلمة ، واستخرجتُ منها باختصار منهج ومعتقد هذا الرجل ، وأردفتُ كل فائدة باسم الرسالة التي ضمَّنها ذلك القول أو التقرير .
فكل مصدر ذُكر في هذا المقال ، فإنما هو أحد رسائل النُّورسي التي جُمعت بعد وفاته وطبعت باسم المذِّكرات أو السِّيرة الذاتية.

ومن الإنصاف القول بأن هذا الرجل كان مفكِّرا ومجاهداً بقلمه وسلاحه ، فقد اشتغل بالوعظ ووقف ضد الزحف الروسي على الأناضول.

ولأنه عاش في بيئة غلبت فيها الخرافة والبدع ، سواء على مستوى الشيوخ أو على مستوى أوساط الناس ، فقد كان منهجه منحرفاً في التفكير والمعتقد.

وهذا شيٌ مؤسف ومحزن جداً لرجل تعلَّق بالقرآن وضلَّ عن منهج أهل السنة .
ويبدو أن سبب ذلك أن الرجل لم يُوفَّق لعلماء ومشايخ على منهج أهل السنة والجماعة في المعتقد ، لا من الأحناف ولا من غير الأحناف.

النُّورسي يقتبس كثيراً من منهجية أبي منصور الماتريدي (ت: 333هـ) الذي كان يجمع في قضايا الإيمان بين العقل والنقل ، مُقدِّما العقل في كثيرٍ من بحوثه ودراساته ، حتى أخرج العملَ من مُسمَّى الإيمان ، وقال إن الإيمان هو التصديق.

الأفكار التي درسها وناقشها النُّورسي في رسائِله هي موضوعات القرآن الكريم وقضايا الإسلام بصورة عامة . وكثيرٌ من موادِّ تلك الموضوعات والقضايا مستهلكة ، فهي مقتبسة بشي ٍمن التهذيب من آراء المتكلِّم الرازي (ت: 606هـ)وأبي حامد الغزالي (ت: 505هـ) ، وفيها ما فيها من الملاحظات والمؤاخذات ما لا تخفى على المتخصِّص المدقِّق في تلك البحوث.

هدف النُّورسي من تلك الرسائل هو توثيق صِّلة الشباب المسلم بكتاب الله تعالى ، لكنه فيما يبدو لم يسلك جادَّة السلف الصالح في تفهيم القرآن ، ولم يلتزم بمنهج الأحناف الذي ينتمي إليهم – من أهل السُّنة – فوقع في أخطاء في الأصول العقدية والأدلة ، كما يتضح في كثيرٍ من كلامه حول مسائل الإيمان وفروعه.

من المؤسف أن النُّورسي شرح وقدَّم بحوثه وجعلها نموذجاً يجب الإلتزام به على طلابه وأتباعه ، وفيها من الزلل والخطأ ما لا يتفق مع عقيدة السلف الصالح وكتب الصِّحاح ، وشروحات الراسخين في العِلم ، وهذا والله مؤلمٌ جداً لكل مؤمن يحب الخير لكل الناس.
لا يوجد في كتب النُّورسي توثيق لبحوثه أو إحالة لكتب مُعتمدة يَركن إليها من التبس عليه فهم كلام النورسي نفسه ، فهو يجعل الحق واحداً لا يجوز الإعتماد على غيره ولا البحث عن سواه . وهذا ظاهر وجليٌّ لكل من دقَّق في رسائله ومذكِّراته.

وسوف أحيل أدناه إلى المواضع المقتبسة من رسائله ومذكِّراته حتى تكون مصدرا لمن أراد معرفة حال النُّورسي :

سعيد النورسي متأثِّر بفكر عبد القادر الجيلاني (ت: 561هـ )، فقد تابعه في فكره الصُّوفي ، كما في مواضع كثيرة من مذكراته . ( سِّيرته / ص 186).

والرجل ليس من أهل بيت النبوة كما يُشيع تلاميذه ، وقد قرَّر هو هذا في سِّيرته ( ص/ 35) .
وقد كان في أول طلبه للعلم يتزيى بزيِّ الدراويش ويعيش في الجبال الموحشة ، وله ميل إلى الفلاسفة الإشراقيين وهم الذين جمعوا بين الحكمة والتصوف ، وهذه ركيزة مهمة يجب التنبُّه لها عند قراءة كتب سعيد النُّورسي أو الحُكم عليه.

ويضاف إليها أنه مولع بطرف خفيِّ بمنهج المدرسة الغنوصية التي تعتقد أن الخلاص يكون بالمعرفة أكثر من الإيمان وعمل الخير ! . ( المثنوي العربي النوري / ص60) .

والنُّورسي متأثر بدعوة جمال الدين الأفغاني وكذلك الدعوة السُّنوسية ، كما في سِّيرته ( ص/ 58).
وكان النُّورسي مظهراً البغض نحو دعوة المجرم مصطفى كمال أتاتورك (ت: 1357هـ) وكان يصفه بالدجال الذي حذَّر منه الرسولُ صلى الله عليه وسلم أمته .( سِّيرة النُّورسي ص/ 257 ).

وقد عكف النُّورسي على تأليف رسائل النور بين الجبال والقرى البعيدة ، وهي تعليقات وخواطر إيمانية وتربوية مستمدة من هدايات الآيات القرآنية ، وكان يبالغ في أهميِّتها ويعدُّها من الوحي والإلهام ، وأنها من جِنس إخباريات الإمام علي رضي الله عنه وإخباريات عبد القادر الجيلاني ( رسالة اللمعات ص/ 246) و( المكتوبات/ص 494) .

والرجل له وصف خرافي لرسائل النور فقد وصف أنها ترد المصائب .(رسالة الشعاعات ص/ 478) .
ويقول أيضا إنها معجزة قرآنية ( الملاحق ص/ 101) . ويقول أيضاً إن الأرض تهتز والسماء تبكي لبكاء رسائل النور. ( الشعاعات/ص 527).

وقال أيضا إن الشتاء غضب غضباً شديداً حين الهجوم عليه من أعدائه .( الشعاعات 626) .
وقد وصف النورسي نفسه بأنه فاز بكمال الإيمان ( اللمعات ص/298).

والرجل له ميل إلى ابن عربي في وحدة الوجود كما هو ظاهر كلامه واستنباطاته الصوفية ونصائحه لأتباعه ، وكما في تأويلاته الباطنية عند تفسيره للنصوص القرآنية بأنها تعني القطار والكهرباء والطائرات .(رسالة الكلمات / ص 278) و( المكتوبات/ ص 498).

وقال أيضاً إن الأولياء يشاهدون الملائكة في الدنيا ، وأن ذلك من علامات إيمانهم .( الكلمات / ص603) .
والنُّورسي يقدِّم العقل على النقل .( صيقل الإسلام /ص 29).

وقد وقع في تأويل كثيرٍ من صفات الله تعالى كما في ( إشارات الإعجاز / ص118) و( صيقل الإسلام / ص152).

وله تقرير غريب لجواز نفي صفات الله تعالى ، لأنها لا تعقل وفيها تأنيس لأفهام العوام . ( المثنوي العربي النوري / ص77) .

وله تفسير غريب لجواز نفي صفة العلو عن الله تعالى .
( الكلمات / ص211) .
وقد قرَّر أن أحاديث علامات الساعة هي من المتشابهات لا من المحكمات . (الشعاعات/ ص126) .
والنُّورسي يستدل بما يسمى علم الجفر ويقرِّره في مؤلفاته ويحتج بمعانيه . ( المكتوبات / ص488) و ( الملاحق180).

والنُّورسي أشعري المعتقد صوفي نقشبندي المذهب ، يُظهر ذلك أحياناً ويخفيه أحيانا كثيرة . ( الملاحق / ص90) و( الكلمات / ص482) .

والرجل ينصح بالطريقة واتِّباع الصوفية حتى يحفظ الإنسان نفسه من الفتن والبلايا .( المكتوبات ص/ 573) .
والنورسي ينصح طلابه بأن لا يأخذوا عِلماً من خارج رسائل النور .( اللمعات/ص 427) .

والرجل يقول بالعشق الإلهي ويقول إنه نتيجة الخلق ، وهو ثمرة شجرة الكون . تعالى الله عن ذلك .( الكلمات 817) .

والرجل يقول بالحقيقة المحمدية وهي نور الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته ، وهي كما يدَّعي تُغيثه في المدلهمَّات والنوازل . ( الكلمات 539) و ( اللمعات / ص50) و ( المكتوبات / ص 579) .
وهذه الطامة والتي قبلها هي عين الحُلول والإتحاد ، عياذاً بالله تعالى .
والنُّورسي يزعم أن لنصوص القرآن ظاهراً وباطناً، وكذلك لأسماء الله وصفاته ، ولا تحصل هذه الفضيلة إلا لمن انجذب للحقيقة وقطع مراتب كثيرة بالسِّير والسُّلوك .

( الكلمات / ص237) و( والمثنوي العربي النوري/ ص258 ) .
والنُّورسي يقول ويعتقد بجواز تحضير الأرواح ، ويستدل على ذلك بآية سورة مريم (رقم : 17) .( الكلمات / ص285) .

الرد على معتقد النُّورسي ومنهجه يكون بالرجوع إلى مناهج السلف الراسخين في العلم ، سواء من الأحناف أو من غيرهم ، وإلى المصنفات المعتمدة المتجرِّدة إلى الحق ، وهي قريبة سهلة التناول لمن أراد الوقوف عليها .

والخلاصة أن منهج النُّورسي هو القول والعمل بكتاب الله تعالى ، مع تأويل النصوص والقول بباطن المعنى غالباً، وقد اكتسب هذا المنهج بسبب جمعه بين التصوف والفلسفة .
ومعتقده كما تقدَّم صوفيُّ نقشبنديُّ أشعريُّ ، في كثير من تفسيرات وتقعيداته .

يتبيَّن مما تقَّدم أن النُّورسي لا يعتني بالحديث الصحيح ولا يحفل به ، وهذه سقطة شنيعة جداً .
وقد قال الإمام أحمد (ت: 241هـ ) : ” من ردَّ حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو على شفا هلكة “.

وقال أيضاً : “لا تُقلِّدني ولا تقلِّد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوريِّ ، وخُذ من حيثُ أخذوا “.

وختاماً فمن الإنصاف أن أُقرِّر أن سعيد النُّورسي : كان طموحاً مُناضلا محباً لكتاب الله تعالى ، وقد بذر بذرةً عميقة لتقوية علاقة الشباب التركي بكتاب الله تعالى ، رغم ما وقع فيه من بِدع وأخطاء وزلَّات .

فالرجل جاهد وكافح أربعين سنة في سبيل محاربة العلمانية والإلحاد في بلاد الأناضول ، لكنه لم يُوفَّق لمتابعة السنة وإصابة منهج السلف.وأمره إلى الله تعالى فهو عالم بنيته وقصده .

وأخيراً فإن مذكرات النُّورسي ورسائله لا يمكن الإفادة منها في المنهج الدعوي ولا التربوي ولا في منهج التزكية والسُّلوك ، والفائدة الوحيدة التي لاحظتها في رسائل ومذكِّرات النُّورسي هي : معرفة حال الشباب المسلم وعاداته وأساليب تعلُّمه بعد سقوط الخلافة العثمانية .

ويوجد في مذكِّرات ورسائل النُّورسي همة ويقظة لطلب العلم والتغلُّب على مرارة الحِرمان والفقر ، وهذا يعرفه كُّل من قرأ وطالع في مصنفات الرجل .

المأمول من تلاميذ النُّورسي المخلصين لله تعالى ثم للدعوة والعلم ، أن لا يلتفتوا لأخطاء شيخهم وأن يقوموا بتصحيح ما وقع فيه إمامهم حتى تبرأ الذمة ، ولا تكن كتب النُّورسي حجةً عليه وعلى أتباعه ، ممن طال عليهم الأمد فقست قلوبهم فرضوا بتنكُّب صراط أهل السنة من السلف الصالح .

وهذه همسة في أُذن النُّورسيين ، فقد قال ابن أبي العِز الحنفي (ت: 746هـ) رحمه الله تعالى : “ولا يُلتفت إلى من أنكر ذلك – يعني علو الله تعالى على خلقه واستواءه على عرشه – ممن ينتسب إلى مذهبِ أبي حنيفة فقد انتسبَ إليه طوائفُ معتزلة وغيرهم مخالفون له في كثير من اعتقاده.

وقد ينتسبُ إلى مالك والشافعي وأحمد – رضي الله عنهم – من يُخالفهم في بعض اعتقاداتهم، وقصة أبي يوسف في استتابة بشر المريسيِّ ، لما أنكر أن يكون الله عزَّ وجلَّ فوق العرش، مشهورة.”

هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
3 /5/ 1439