كتاب الواضح في أُصول الفِقه ، لمحمد سليمان الأشقر رحمه الله تعالى ، من الكتب التربوية النافعة المناسبة لتأسيس علم الأُصول في أذهان الطُّلاب . وقد صنَّف المؤلِّفُ هذا الكِتاب في الكويت قبل ثلاثِ وأربعين سنة ، فقد حرَّر مُقدِّمته سنة (1395) هجرية
وقد قام بتدريسه على الطُّلاب في الكويت وعَمَّان ، وقد طبعته دار النفائس في الُأردن سبع مرات ،ولقي قُبولاً واسعاً من الطُّلاب والمُتعطِّشين لتلقِّي هذا الفنِّ .
وقبل سنوات قرأ بعضُ الطلبة الكتابَ عليَّ وأمليتُ عليهم تعليقاتٍ يسيرةٍ لتحريرها في الكُرَّاس ، لإصلاح بعض الهفوات وإستدراك بعض الملاحظات وزيادة بعض العبارات ، ليستقيم المعنى ويزول الإلتباس . ولم أكن أرغب في نشرها إلا بعد إلحاح من بعض كِرام الناس . نسأل الله الإخلاص والسداد في الأقوال والأعمال .
1-سمَّى المؤلِّف رحمه الله تعالى كتابه ” الواضح في أصول الفقه ” ، وهو نَفس تسمية كتاب الإمام علي بن عقيل الحنبلي المتوفى سنة ( 513هـ ) . فلعله أراد من هذه التسمية أنه على خُطى الحنابلة ، وهو كذلك إن شاء الله ، لكن ذكر في المُقدِّمة أنه في غالب المسائل يوافق الجمهور أو الأحناف . فبجب التنبُّه لهذا عند النظر في المسائل .
2-يؤخذ على المؤلِّف -رحمه الله تعالى – في مُقدِّمته وتمهيده ، عدم التنبيه على مسائل التعريفات أو ما يُسمِّيه الأُصوليون الحدود . وهي مُهمة نبَّه عليها الإمام ابن تيمية (ت: 728هـ ) في ” فتاويه ” ، وأبو يعلى (ت: 458هـ )في ” العُدَّة ” وابن فورك (ت: 406هـ )في ” الحدود في الُأصول ” والباقلاني (ت: 403هـ )في ” التقريب والارشاد” رحمهم الله تعالى. وأفضل تعريف للحدِّ هو تعريف الإمام الباجي (ت: 474هـ )رحمه الله تعالى : ” اللفظ الجامع المانع ” . وقد ذكر شروط الحدِّ الإمام الغزالي(ت: 505هـ) رحمه الله تعالى بأنه المنعكس المُطرِّد كما في كتابه ” المستصفى ” . وللحدود تفصيل واسع ينظر في كتاب البحر المحيط للزركشي ( ت: 794هـ )رحمه الله تعالى.
3-لم يُنبِّه المؤلِّف – رحمه الله تعالى – على أهم المُهمَّات في تعلُّم الأصول رواية ودراية ، وهو البحث عن دليل المسألة وتخريجها الفقهي ، ومن وقف على هذا الأصل فقد حاز قصب السبق ، ونال الغنيمة الباردة بلا ريب .وهناك مسائل تكثر في كتب الأصول وقد نشأت بسبب المشاحنات الكلامية بين المعتزلة والأشاعرة ، ولا يترتب عليها كثيرُ عمل ، كمسألة تعلُّق الأمر بالمعدوم ، فلا ينبغي الإشتغال بها ولا الإلتفات إليها . وهذه النصيحة مهمة جداً، لأن كثيراً من المبتدئين يستحسنون الغرائب ويتلذَّذون بمذاكرتها ولا يلتفتون للدليل ولا للأثر الفقهي .
ومسألة تعلُّق الأمر بالمعدوم نبَّه عليها الإمام الجويني(ت: 478هـ) في كتابه ” البرهان ” والإمام ابن تيمية (ت: 728ه) ـ في ” فتاويه ” ، وابن النجار(ت: 972 ه) في ” شرح الكوكب المنير ” رحمهم الله تعالى ، واستدلوا لها بقول الله تعالى : ” وأُوحي إليَّ هذا القرآن لأُنذركم به ومن بَلغ ” ( الأنعام: 19) . وبحديث : ” لا تقوم الساعة حتى تُقاتلوا اليهود ” أخرجه البخاري .
ومن المسائل الُأصولية الكلامية مسألة : هل القدرة التي تُناط بها التكليف تكون قبل الفعل أو معه ؟ وهي من مسائل الأشاعرة والمعتزلة التي تنازعوا فيها ، وقد أقحموا بها علم الأصول ، وليست منه . ويُردُّ عليهم بحديث : ” صَلِّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا … ” أخرجه البخاري.
4-في مسائل التكليف لم يستدرك كعادته رحمه الله تعالى على أصحاب الفِرق من أهل الأصول ، فعند مسألة تكليف المريض لم يستدرك على الأشاعرة في قولهم : ( إن المسافر يجب عليه الصوم دون الحائض والمريض والمغمى عليه ، فلا يخاطبون حال قيام العذر ، وإنما يخاطبون بالقضاء إذا زالت أعذارهم ) . أهـ .
والصحيح أن المكلف مخاطب بالأحكام في وقتها . ولهذه المسألة فروع فقهية ذكرها ابن عابدين (ت: 1252هـ) في “حاشيته “و” الشيرازي(ت: 476هـ) ” في “شرح الُّلمع “وابن عقيل (ت: 513هـ) في “الواضح ” رحمهم الله تعالى .
5-عند شرح الأحكام الوضعية ، وعند ذكر السبب تحديداً لم يبُيِّن حكم تأثير الأسباب عند العلماء وهي ثلاثة : لا تأثير لها ، وهو قول الأشاعرة ، والسبب عندهم عبارة عما حصل الحكم عنده لا به. وقد ردَّ عليهم الإمام ابن حزم (ت: 456هـ) رحمه الله تعالى في كتابه الفِصل . وقول المعتزلة وهو أن الأسباب مُؤثِّرة في الحكم وموجبة لها . ولهذا قالوا إن المعصية ليست بمشيئة الله .والقول الثالث لأهل السنة حيث قالوا إن الله خلق الأسباب وجَعلها سبباً لمسبباتها .
6-عند الكلام حول الواجب المُخيَّر لم يذكر حَدَّه ولم يُبيِّن آثاره الفقهية . والواجب المُخيَّر ما طلبه الشارع لا بعينه بل ضمن ُأمورٍ معينة . مثل : جزاء الصيد للمحرم وفدية الأذى لمن فعل محظوراً من محظورات الاحرام ، والتخيير بين غسل الرِّجلين في الوضوء للابس الخُفِّ أو المسح عليه .
7-عند الكلام عن الدلالات وأثرها في الحكم الشرعي لم يُحرِّر أقسام الدلالات وهي نوعان : دلالة لفظية ودلالة غير لفظية . وتنقسم هذه الأخيرة إلى ثلاثة أقسام : دلالة طبيعية ودلالة عقلية ودلالة وضعية. وهناك الدلالات الثلاث المشهورة : دلالة المطابقة ودلالة التضمُّن ودلالة الالتزام .
وهذه الدلالات الثلاث لم يَذكر المؤلف الأشقر ما يترتب عليها من الآثار الفقهية . مثل لو قال قائل : هذه الناقة أمانة عندي لفلان ، فلازم إقراره أن نتاجها أمانة ، فيردَّها ويرد ولدها معها ، لأن ولدها لازم لها . ولو طاف سبعة أشواط واخترق الحجر ولم يطف خلفه فإنه يلزمه الإعادة لأن الحجر من البيت . ولو حلف لا يطأ أرض مِصر فإنه يحنث بمجرد دخوله أي مدينة فيها . ولو حلف ليهدمن بيته فلا يحنث إلا بهدم جميع البيت.
8-في مسائل الأمر فَاته – رحمه الله تعالى – أن يُنبِّه على تنبيهات مهمة مثل : الأمر والنهي أساس التكليف ، لأن معظم الإبتلاء بهما وبمعرفتهما تتم معرفة الأحكام الشرعية ويتميز الحلال عن الحرام ،كما أفاده الإمام السرخسي (ت: 490هـ) رحمه الله تعالى في كتابه “تمهيد الفصول في الأصول “. وكذلك القيام بحقوق الأمر والنهي تُورث حياة القلب كما قال الله تعالى : ” استجيبوا لله وللرسولِ إذا دعاكم لما يُحييكم ” ( الأنفال : 24) .
9-ذكَر – رحمه الله تعالى – في مسائل الأمر ما يُردِّده بعضُ الُأصوليين نقلاً عن البلاغييِّن والمناطِقة ، وهو أن الأمر إن كان مُوجَّهاً من المساوي إلى المساوي فهو إلتماس ، وإن كان من الأدنى إلى الأعلى سُمِّي دعاءاً أو سؤالًا . وهذا مردود في القول الراجح ، لقول الله تعالى : ” يُريدُ أن يُخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون ” ( الأعراف : 110) فَسمَّى كلامهم لفرعون أمراً ، مع أنهم أدنى منه مَنزلة ، فإنهم كانوا يعتقدون فيه الألوهية .
10-عند الحديث عن قواعد الأمر لم يُشِر إلى الأثر الفقهي للأمر عند مَن حلف لا يتكلم فحدَّث نفسه بشيٍ دون أن ينطق بلسانه ، فالصحيح أنه لا يَحنث وإن نطق حنث ، فلو كان الكلام غير الملفوظ يُسمَّى كلاماً لحنث بحديث نفسه . وفائدة هذه القاعدة الردُّ على القائلين بالكلام النفسي من الأشاعرة وغيرهم . فهذا مُهم جداً فافهمه .
11-في قواعد الأمر فاته التنبيه على قاعدة الأمر المؤقَّت لا يَسقط بفوات وقته ، وهي مهمة جداً لتعلُّقها بالسفر والحضر ولا يوجد مسلم يستغني عنها . وصورتها: لو نسي صلاة في الحضر ثم ذكرها في السفر فهل يصليها أربعاً أم ركعتان ؟
وهذه المسألة الخلاف فيها قوي ،والراجح والله أعلم أنه يُصلِّيها أربعاً، بلا قصر . وينظر في الاستطراد حولها : “مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول ” للتلمساني (ت: 771هـ ) و” العُدَّة ” للقاضي أبي يعلى (ت: 458هـ )رحمهما الله تعالى .
12-من الغرائب للمؤلِّف رحمه الله تعالى أنه عند الحديث عن الاستصحاب لم يستدل له ، فلعله سهى عنه ، ولم يُنبِّهه عليه أحد ! . ودليله من السنة حديث عَدي ابن حاتم مرفوعاً : ” إن وجَدته غريقاً فلا تأكله ، فإنك لا تدري الماء قتله أو كَلبك ” متفق عليه . ولم يُنبِّه رحمه الله تعالى إلى أن الأحناف لا يرون حُجيته ، كما في “الإحكام ” للآمدي .
13-عند الحديث عن المصالح المرسلة أفاض في مباحثها ولم يذكر تعريفاً وحَدَّاً لها . وهي : ترتب الحكم الشرعي فيما لا نص ولا إجماع مراعاة للمصالح العامة التي قصدها الشرع . ولم يستدل لها . ودليلها قول الرسول صلى الله عليه وسلم :”لا ضَرر ولا ضِرار ” أخرجه الإمام أحمد بإسنادٍ حسن . ولم يذكر أن الجمهور منعوا الاستدلال بها ، بينما أجازها المالكية . فَليُستدرك في موضعه من الكتاب .
14-عند شرح مباحث الإستقراء لم يذكر أنه قسمان : تامٌّ وناقص ، فليُحرَّر في موضعه. وقد وضَّحها الإمام الشاطبي(ت: 790هـ ) رحمه الله تعالى في ” الموافقات ” ، فلتُراجع .
15-عند شرح مسألة الطريق العملي للوصول إلى الحُكم ، لم يذكر قاعدة وجوب العمل بالظنِّ الراجح ، وقد عمل بها الرسول صلى الله عليه وسلم عند إفتقار الدليل اليقيني . وقد جاء في المرفوع : ” لعل بعضكم ألحن بحجته من بعض ، فأحسبُ أنه صَدق ، فأقضي له بذلك ” متفق عليه .
16-عند شرح مباحث الإستحسان لم يستدل له . ودليله قول الله تعالى : ” الذين يستمعون القولَ فيتبعون أحسَنه ” ( الزمر:18) . وبقول ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه : ” ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ” .
17-عند شرح مباحث أخطاء المجتهدين ذَكر الأدلة والأمثلة بكلامٍ جيد . لكن يُستدرك عليه أن مسألة : هل كُّل مجتهد مصيب ؟ من المسائل المشتركة بين أصول الدِّين وأصول الفقه . وأن الحكم لا يمكن أن يكون حلالًا وحراماً في وقتٍ واحد ، كما وضَّحه أبو يعلى القاضي رحمه الله تعالى في كتابه ” العَُّدة ” .
18-عند شرح مسألة الفُتيا والتقليد لم يذكر قاعدة مراعاة الخِلاف عند إرادة الفتوى ، ودليلها حديث :”أيُّما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ( ثلاثاً ) ، فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها ” أخرجه أبو داود بإسناد صحيح .
19- في مسائل الإجماع ذكر الشيخ الأشقر أن الإمام الشوكاني أنكر حجية الإجماع ، وهذا وهمٌ منه وعزوٌ غير دقيق. وهذا نص كلام الشوكاني في إرشاد الفحول : “إجماع الصحابة حُجة بلا خلاف ، ونقل القاضي عبد الوهاب عن قومٍ من المبتدعة أن إجماعهم ليس بحجة” ، وقال أيضا : ” فإن قيل فما تقولون في إجماع من بعدهم ؟ قلنا : هذا لا يجوز لأمرين : أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أنبأ عن ذلك فقال : ” لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق ظاهرين”. والثاني أن سَعة أقطار الأرض وكثرة العدد لا تُمكِّن من ضبط أقوالهم ، ومن ادَّعى هذا لا يخفى كذبه ” اهـ .
قلت فيكون تقريره موافق لمعنى كلام الإمام أحمد (ت: 241هـ ) رحمه الله تعالى أن من أدَّعى الإجماع فقد كذب .
20- يؤخذ على الكتاب رغم سهولته وعذوبة ألفاظه عدم إكثاره من التطبيقات والأمثلة الأُصولية ، بإستثناء أمثلة النصوص الشرعية ، وعدم تخريج الفروع على الأصول ،وعدم العناية بالمصطلحات الأصولية . ولعله تعمَّد ذلك ليتدرَّب الطالب على المناقشة والتطبيق الذاتي. ولا ريب أن تقوية الملكة الأصولية لها ثلاث طرق : معرفة الإستدلال ، ومعرفة الإستنباط ، ومعرفة تخريج الفروع على الأصول. فاحفظ هذا فإنه نفيس .
هذا ما تيسر تحريره . والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
1438/5/2