قبل أيام وقع في يدي كتاب نَقض العقيدة التدمرية ، وهو كتاب مَسموم انتشر مؤخَّراً في بلاد الشام وتركيا وبعض دول الخليج العربي ، ومؤلِّفه سعيد عبد اللطيف فُودة ، وهو مُتكلِّم مُتفلسِف ، ويعدُّ من التلاميذ المُنظِّرين للمقبور محمد زاهد الكوثري (ت: 1371هـ ) عامله الله بعدله .
والرجل مُولع بعلم الكلام والمنطق حتى الثُّمالة ، وليس له عناية ولا حفاوة لا بالحديث ولا بالآثار التي وردت عن السلف في العقيدة الصحيحة .
ولم أكن أنوي نبش كتابه واظهاره للناس ، لكن لما رأيتُ كثيراً من طلبة العلم الذين راسلوني مُغترِّين أو حيارى من فحوى كتابه ، وما فيه من الكذب والتدليس والتلبيس ، صحَّ عزمي في بيان ضلالاته وأباطيله باختصارٍ يُغني عن الإسهاب .
ولو كان ابن تيمية رحمه الله تعالى -مُصنِّف التدمرية- حياً لفدينا بأرواحنا ، أما وقد انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء ، فهذه الصفحات للذود عن حياض السلف وحماية للتوحيد ، وكسر لشوكة أهل التحريف والتجهيل ، ورافع لراية أهل الحديث ، والله حسبنا ونعم الوكيل .
وإنني أُوصي اخواني العلماء و طلبة العلم أن يُفنِّدوا شُّبه سعيد فودة ، وأن يحتسبوا الأجر في ذلك ، فقد عمَّ شرره وطم ، واستفحل ضررهٌ وغمَّ ، فالرجل موغل في التحريف والتدليس ، وله مآرب معروفة ، نسأل الله أن يهديه للحق ، إنه على كل شي وكيل .
• موضوعات الكتاب :
الكتاب هو مناقشة منطقية للإمام ابن تيمية (ت: 728هـ)رحمه الله تعالى في قواعده التي حرَّرها في التدمرية وهي : قاعدة الإثبات المفصل والنفي المجمل ، وقاعدة الاشتراك والظاهر ، والمحكم والمتشابه ، والإثبات والنفي ، والسمع والعقل ، والشرع والقدر .
والكتاب يقع في ستين ومئة صفحة .وهو تفنيد للمسائل التي قرَّرها الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صفات الله تعالى ، وجُّله بل كُّله أقيسة عقلية خالية من الدليل ، وفيه تكرار للأقيسة وكيل التُّهم والتحريف لمعاني كلام الله تعالى ،وانتصارٌ لعقيدة الرازي ومذهب الأشاعرة المتأخِّرين.
• منهجه في الكتاب :
سعيد فودة في كتابه استعمل منهجين :
(أ ) : المنهج الأول : الإبيستيمولوجيا ، وهي نظرية نقلها ابن سينا عن المناطقة اليونان وتلقَّفها أتباعه ، ثم استعملها المعتزلة والأشاعرة بعدُ في نقد العلوم والمعارف ، لإثبات صحة العلوم أو زيفها ، وعمَّموها على العلوم الشرعية سواء كانت قطعية أو ظنية .
(ب) : المنهج الثاني : الاحتجاج بالأدلة السبعة المشهورة عند الأشاعرة وهي :
1- دليل الأعراض وحدوث الأجسام
2- دليل قياس الغائب على الشاهد
3- الاستدلال بالسبر والتقسيم
4- الاستدلال بانتفاء المدلول لانتفاء دليله
5- الاستدلال بالاستنتاج من مقدمة واحدة
6- الاستدلال بالشبيه والنظير
7- الاستدلال بالمتفق عليه على المختلف فيه .
فالدليل الأول وهو دليل الأعراض والأجسام هو البحث في كُنه : العرض والجوهر والجسم .( انظر : الفرق بين الفرق للبغدادي 329، والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي 29)، وقد ترتب على هذا الدليل عندهم والتعمُّق فيه نفي صفات الله تعالى الاختيارية وبعض الصفات الخبرية ونفي صفة العلو والفوقية ، ولهذا قال بعض الأشاعرة بوجوب التأويل لصفات الله تعالى فراراً من قيام الحوادث بذات الله تعالى .
ولهذا نجد فودة في كتابه نقض التدمرية وفي سائر كتبه الأخرى ، يُقدِّم العقل على النقل ليستقيم له نجاح هذا الدليل. وكذلك نجد فودة في كتابه ينفي صفات الذات الخبرية كاليدين والأصابع والساق ، استدلالاً بدليل الأعراض وحدوث الأجسام .
أما الدليل الثاني وهو دليل قياس الغائب على الشاهد ، فيقصد به اعطاء حُكم شي لشيٍء آخر، لا شتراكهما في عِلته، وقد استعار الأشاعرة معنى هذا الأصل لإثبات الأحكام العقدية المتعلقة بالله تعالى وصفاته وأفعاله ، بناءاً على وجود نظائر لها في الواقع المشاهد .
ولهذا نجد فودة في كتابه النقض يستعمل هذا الدليل لاثبات بعض الصفات وليس كُّلها مثل صفات المعاني ، وقد سبقه إلى هذا الأسلوب الجويني في كتاب الارشاد كما في صفحة ( 82) فبيراجع .
أما الدليل الثالث وهو الاستدلال بالسبر والتقسيم ويسمى القسمة العقلية ، وهي وضع عدة فروض ثلاث أو أقل، ثم بيان فسادها لابطال الأساس الذي قامت عليه أو الحكم على أغلبها بالفساد واستثناء فرضية واحدة مقبولة . وقد استعمل فودة هذا الدليل في زعمه أن ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول بالتجسيم ، وهو مُقلِّد للرازي في هذا الدليل ، فقد استعمله في كتابه أساس التقديس في مواضع (انظر صفحة 20) .
وللأمانة العلمية فأهل السنة والجماعة من أهل الحديث والأثر ، يستعملون هذا القياس إذا كان موافقا للنصوص الصحيحة ، بعكس الفِرق والطوائف الأخرى الذين لا يقيمون للنص قيمةً أو وزناً .
أما الدليل الرابع وهو الاستدلال بانتفاء المدلول لانتفاء دليله ، فقد استعمله الجويني في كتابه الارشاد صفحة ( 43) ، وقد قلَّده فودة في كتابه النقض فاستعمله في اتِّهام الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى باثبات المماسة والتحيُّز ! .
أما الدليل الخامس وهوالاستدلال بالاستنتاج من مقدمة واحدة ، فيقصد به انتاج كل مقدمة بمفردها ، لنتيجة معينة قد تكون المقدمة أو النتيجة ضرورية أو نظرية .
وقد استعمل فودة هذا الدليل في انكاره للصفات الخبرية مثل الاستواء والمجيء والإتيان والنزول ، وإنكاره أن الله تعالى يتكلم بحرف وصوت . وقد قرَّر هذا الدليل الجويني في البرهان ( 1/ 129) حين قال : ” ثم قالوا -الأئمة السابقين – قد تكون المقدِّمة ضرورية والنتيجة نظرية ، وهذا هو الأكثر كقولنا : تحرك الجوهر ولم يكن متحركا ، فهذه مقدمة ضرورية نتيجتها أنه لا بد والحالة هذه من فرض زائد على الذات ، وقد تكون المقدمة نظرية والنتيجة ضرورية كقولنا : الجوهر لا يخلو عن الحوادث التي لا أول لها ، وهذه مقدمة نظرية لا يتُوصل إليها إلا بدقيق النظر ، والنتيجة أن ما لا يخلو عن الحوادث التي لها أول حادث ، وهذا ضروري ” .
أما الدليل السادس وهوالاستدلال بالشبيه والنظير ، ويقصد به اعطاء الشيء حكم نظيره ، أي يستدل بصحة الشي على صحة مثله ، وباستحالته على استحالة مثله وما كان بمعناه . وهذا الدليل في الجملة مقبول وليس عليه تعقُّب أو نقد ، وقد استعمله فودة في موافقته للإمام ابن تيمية وتصحيحه لاثبات بعض الصفات في مواضع قليلة جداً .
والأشاعرة استعملوا هذا الدليل في تجويزهم لرؤية الله تعالى في الآخرة ، كما في الارشاد للجويني ( صفحة 177) فليراجع .
أما الدليل السابع وهو الاستدلال بالمتفق عليه على المختلف فيه . ويُقصد به أن يجعل المتكلمون ما اتفقوا عليه هو الأصل ، وما اختلفوا فيه هو الفرع ، ليثبتوا الحكم الذي ثبت في المتفق عليه للمختلف فيه .
وقد استدل فودة بهذا الدليل كثيراً في كتابه النقض ، وأكثر التُّهم التي ردَّدها في كتابه هي مبنية على هذا الدليل . لكن فودة من تدليسه وتلبيسه على العوام الذين يجهلون الأقيسة العقلية يَقلب هذا الدليل ، فيجعل المتفق عليه هو ما يعتقده هو لا ما يعتقده خصمه ، فينتصر لنفسه بما يعتقده لا بما يتفق فيه مع خصمه .
وهذا ظلم وخيانة للأمانة العلمية الواردة عند أهل العلم ، وليست غريبة عند فودة ، فلها أمثالها كثير ، وهي ثابتة عنه عند من يعرفون الردود عليه بعلم وتحقيق .
• الشُّبه الواردة في الكتاب :
أورد فودة خلال مناقشته بالأقيسة العقلية للإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى إحدى عشرة شبهة ، وقد كرَّر كثيراً منها في مواضع عديدة في أول الكتاب وآخره بصيغٍ مختلفة معناها متقارب .
وسوف أذكر هنا أهم الشبه التي حصرتها والجواب عنها باختصار ، ومن أراد التوسُّع فليراجع المصادر التي أحيل عليها عند الجواب عن كل شُّبهة .
وقبل أن أورد الشبه والجواب عنها أُنبِّه على أمرين :
الأول : الرجل يستعمل العبارات المنطقية والكلامية كثيراً في الكتاب ويكررها ، والذي ليس عنده رسوخ في العلم قد يغتر بكلامه واستدلاله بسبب تلاعبه بالألفاظ والمعاني .
الثاني : الرجل ينقل كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في ردِّه على الخصوم ويُقرِّره في العقيدة التدمرية على أنه عقيدة له ،أو يُكيِّف كلام ابن تيمية بما يعتقده فوده لا بما تَقرَّر عند ابن تيمية في كتبه .
وهذا ظلم لابن تيمية ، ولا يعرف هذا إلا من له اطِّلاع على منهج ابن تيمية رحمه الله تعالى في سائر كتبه .
قال فودة :
1- ابن تيمية مجسِّم ينتصر لمذهب الحشوية والمجسِّمة والكرامية )ص/ 6، 51، 55):
قلت : هذه التهمة قديمة ومشهورة وهي من خصوم الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى ،وقد ورثها عنهم الجهمية المعاصرون ، فقد اتهمه بذلك الحصيني أبو بكر بن محمد الأشعري (ت: 829) حيث قال :(والحاصل أنه وأتباعه من الغُلاة في التشبيه والتجسيم ). وقال أيضاً :
قال: (كنا جلوساً في صحن الجامع الأموي في مجلس ابن تيمية فذكّر ووعظ، وتعرض لآيات الاستواء، ثم قال: (واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا) قال: فوثب الناس عليه وثبة واحدة، وأنزلوه عن الكرسي، وبادروا إليه ضرباً باللَّكم والنِّعال وغير ذلك…) أهـ .
وقد ذكر ابن بطوطة (ت : 779هـ) في رحلته المشهورة (حضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويُذكِّرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: (إن الله ينزل كنزولي هذا) ونزل درجة من درج المنبر) .
,وهاتان التُّهمتان باطلتان تأريخيا ، وبطلانهما مشهور ومعروف عند المحقِّقين . وسيتبيِّن أدنه سبب بطلانهما
فقد بيَّن شيخ الإسلام أن لفظ الجسم مجمل يحتاج إلى استفصال.
فإن أُريد بالجسم: الموجود القائم بنفسه، المتصف بالصفات، فهذا المعنى حق، لكن الخطأ إنما هو في اللفظ.
وإن أريد غير ذلك من المعاني في معنى الجسم كأن يقال: هو ما يُشار إليه، أو المركب، أو غير ذلك فإنه معنى باطل ولفظ مردود ) .
وأما دعوى أن ابن تيمية رحمه الله يقول بأن الله جسم لا كالأجسام، فغير صحيحة، وهذه نصوص ابن تيمية الصريحة في رد هذه المقولة، وتخطئة من قالها، ومنها:
قوله حين قال له أحد كبار مخالفيه بجواز أن يقال: هو جسم لا كالأجسام:
(إنما قيل: إنه يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وليس في الكتاب والسنة أن الله جسم حتى يلزم هذا السؤال) .
وحكم على القائل بهذا القول أنه مُشبِّه، بقوله: (فمن قال هو جسم لا كالأجسام كان مشبهاً، بخلاف من قال: حيٌّ لا كالأحياء) .
وذكر أن القائلين بهذه المقولة هم طوائف من أهل الكلام المتقدِّمين والمتأخِّرين ، فقال عن إثباتهم صفات الله عزّ وجل: (يثبتون هذه الصفات، ويثبتون ما ينفيه النفاة لها، ويقولون: هو جسم لا كالأجسام، ويثبتون المعاني التي ينفيها أولئك بلفظ الجسم) .
وذكر أن القائل بهذه المقولة هم علماء المجسِّمة .
وقال رحمه الله: (وأما المعنى الخاص الذي يعنيه النفاة والمثبتة، الذين يقولون: هو جسم لا كالأجسام، فهذا مورد النِّزاع بين أئمة الكلام وغيرهم، وهو الذي يتناقض سائر الطوائف من نفاته لإثبات ما يستلزمه، كما يتناقض مثبتوه مع نفي لوازمه.
ولهذا كان الذي عليه أئمة الإسلام أنهم لا يُطلقون الألفاظ المبتدعة المتنازع فيها لا نفياً، ولا إثباتاً، إلا بعد الاستفسار والتفصيل: فيثبت ما أثبته الكتاب والسنة من المعاني، وينفي ما نفاه الكتاب والسنة من المعاني) .
وبيَّن رحمه الله في مقولة: (إن الله ذو جسم وأعضاء وجوارح) أنها كلام باطل .
وأما ألفاظ (التشبيه والتمثيل) فقد بيَّن الإمام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – أقوال الناس في الفرق بينها: هل هي بمعنى واحد أو معنيين؟، وأنها قولان:
( أحدهما: أنهما بمعنى واحد، وأن ما دل عليه لفظ المثل مطلقاً ومقيداً يدل عليه لفظ الشَبه، وهذا قول طائفة من النُّظار.
والثاني: أن معناها مختلف عند الإطلاق لغة، وشرعاً، وعقلاً، وإن كان مع التقيِّيد والقرينة يراد بأحدهما ما يراد بالآخر، وهذا قول أكثر الناس) .
وبيِّن سبب الاختلاف، وأنه مبني على مسألة عقلية وهي: أنه هل يجوز أن يشبه الشيءُ الشيءَ من وجه دون وجه. وذكر رحمه الله أن للناس في ذلك قولين: (فمن منع أن يُشبهه من وجه دون وجه قال: المثل والشبه واحد.
ومن قال: إنه قد يُشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه، فَرقٌ بينهما عند الإطلاق وهذا قول جمهور الناس) .
وبيَّن قول المخالفين في عدم التفريق بين التشبيه والتمثيل وهو: امتناع كون الشيء يُشبه غيره من وجه ويخالفه من وجه، بل عندهم كل مختلفين كالسواد والبياض فإنهما لم يشتبها من وجه، وكل مشتبيهن كالأجسام عندهم، يقولون بتماثلها، فإنها متماثلة عندهم من كل وجه لا اختلاف بينها إلا في أمور عارضة لها .
فالأجسام متماثلة من كل وجه، وأما الأعراض المختلفة والأجناس – كالسواد والبياض – فمختلفة من كل وجه) .
وبين نتيجة هذا القول وأنه: (كل من أثبت ما يستلزم التجسيم في اصطلاحهم فهو مُشبِّه ممثِّل) .
وذكر أن القائل بهذا كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية، ومن وافقهم من الصفاتية كالباقلاني ، وأبي يعلى ، وأبي المعالي ، وغيرهم .
انظر :درء تعارض العقل والنقل ، ومنهاج السنة النبوية كلاهما لابن تيمية .
وانظر : دعاوى المناوئين لشيخ الاسلام ابن تيمية / لعبد الله الغصن ، فهو مهم جداً لتفنيد هذه الشُّبهة .
2- زعمه أن الإمام ابن تيمية يصف الله بالحدود والجهة والتركيب وقيام الحوادث في ذات الله تعالى ومماسة الله للعرش(ص/ 8، 16) :
الصحيح التفصيل في هذا ، كما سيتبَّين أدناه :
فلفظ الجهة أو الحيِّز يُرادُ به أمر وجودي كالفَلك الأعلى، ويراد به أمر عدمي كما وراء العالم؛ فإن أريد الأمر الوجودي كالأمكنة الوجودية مثل داخل العالم؛ فإن الشمس والقمر والأفلاك والأرض والحجر والشجر، ونحو هذه الأشياء كلها في أحياز وجودية، ولها جهات وجودية، وهو ما فوقها وما تحتها ونحو ذلك: إن أريد هذا فما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، وعليه: لا يكون الله في جهة موجودة، فسطح العالم مرئي وهو ليس في عالم آخر.
وإن أريد بالحيز والجهة الأمر العدمي وهو ما فوق العالم، فإن الله في تلك الجهة العدمية والحيِّز العدمي، فليس فوق العالم موجود غيره، فلا يكون سبحانه في شيء من مخلوقاته، فإذا كانت الجهة أو الحيِّز أمراً عدمياً فهو لا شيء، وما كان في جهة عدمية أو حيِّز عدمي، فليس هو في شيء، فإذا كان الخالق مبايناً للمخلوقات، عالياً عليها، وما ثم موجود إلا الخالق أو المخلوق، لم يكن معه غيره من الموجودات، فضلاً عن أن يكون هو سبحانه في شيء موجود يحصره أو يحيط به ) .
وقال رحمه الله: (يُقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق، فالله ليس داخلاً في المخلوقات. أم تريد بالجهة ما وراء العالم ؟ ، فلا ريب أن الله فوق العالم بائن من المخلوقات.
وكذلك يقال لمن قال: إن الله في جهة: أتريد بذلك أن الله فوق العالم، أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات، فإن أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل) .
وفي استفصاله في لفظ المتحيز:( إن أراد مطلق اللفظ: أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر، بل قد وسع كرسيه السموات والأرض، فقال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (الزمر: 6) .
وإن أراد أنه مُنحازٌ عن المخلوقات: أي مباين لها منفصل عنها، ليس حالاً فيها فهو سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه) .
انظر : درء تعارض العقل والنقل ، ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية .
وانظر : دعاوى المناوئين لشيخ الاسلام ابن تيمية / لعبد الله الغصن ، فهو مهم جدا لتفنيد هذه الشُّبهة .
3- زعمه أن العقل يكفي لإثبات صفات الله تعالى ( ص/ 8، 27) :
هذه الشُّبهة ناقصة وغير صحيحة . فعند علماء الحديث خاصة وأهل السنة والجماعة عامة أن العقل لا يُدرك مسائل الاعتقاد إلا بدليل الشرع ، ولو كان العقل وحده كافيا لإدراك الأشياء لاستوى عِلمُ الله تعالى بعلم المخلوق ، وهو محال . لكن أهل السنة استعملوا العقل في إثبات بعض الأدلة كالمعاد والنبوات ، ونقض الشبه حولها ، لأن أدلتها وردت في القرآن ، وهي أصلاً أدلة فطرية .
انظر : الصواعق المرسلة لابن القيم ( 2/ 469). وصون المنطق للغزالي ( ص/ 40).
4- زعمه أن ابن تيمية رحمه الله تعالى يجيز التشبيه من بعض الوجوه ( كرَّرها في غالب صفحات الكتاب ، ص/ 14- وما بعدها ) :
راجع الجواب في فقرة (1) أعلاه .
5- وصفه لمذهب ابن تيمية بالسذاجة (ص/ 21):
الجواب على هذا أن فودة حُرم من لذة تدبر نصوص الوحيين ومعانيهما التي تخشع لها القلوب . فابن تيمية مقرر ومبلغ لعلوم الشريعة ، فليس له مذهب خاص به ولا بغيره . وهو مُقرِّب للمسائل العقدية لا مخترع لها من تلقاء نفسه . وقد نفع الله بعلمه لإخلاصه وقوة حجته ، فها هي علومه تنتشر في الأرض منذ سبعة قرون إلى اليوم كالغيث المنهمر الذي لا ينقطع . ولله الحمد والمنة .
انظر : الرد على المنطقيين / لابن تيمية .
6- زعمه أن ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول بتغيِّير الصفات الإلهية وحدوثها بعد عدم ، وعدمها بعد وجود ( ص/ 29) :
مراد فودة هنا أن ابن تيمية رحمه الله تعالى يقيس في باب الصفات ، فيقع في التحريف والتعطيل بوجهٍ من الوجوه ، وهذا كذب وباطل .
والدليل على كذبه ما تقدَّم أعلاه من النُّقول عنه في الإثبات والتنزيه على عقيدة أهل الحديث .
ونحن نسأل فودة : هل الإمام أحمد بن حنبل مُحرِّف أو معطِّل ، فإن قال نعم فقد كفر ، وإن قال لا فقد نقض كلامه في ابن تيمية ، لأن عقيدتهما واحدة لا فرق بينها .
وقد قال ابن تيمية رحمه الله تعالى :
“ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل ؛ فلا يُمثِّلون صفات الله بصفات خلقه ، كما لا يُمثِّلون ذاته بذات خلقه ، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ؛ فيعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العليا ، ويحرفوا الكلم عن مواضعه ، ويلحدوا في أسماء الله وآياته .
وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل ؛ أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق ، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات ؛ فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل ؛ مَثَّلوا أولا ، وعطَّلوا آخراً ؛ وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته ، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم ، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى ” .
انظر : ( مجموع الفتاوى 26/ 27) .
وانظر : جلاء العينيين في محاكمة الأحمدين / نعمان الآلوسي .
وهذا الكتاب قيِّم جداً ، أنصح بمطالعته لمن أراد معرفة الشُّبه التي نُسبت إلى الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى والجواب عنها .
7- زعمه أن ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول بتأثُّر الله بخلقه ( ص/ 30) :
هذا توهُّم وظُلم بيِّن ، ولا دليل عليه إلا فهم فودة أن ابن تيمية يريد تقرير التجسيم للتوصُّل إلى حلول الله في خلقه ، تعالى الله عن ذلك .
ولو كان ابن تيمية يقصد ذلك لنبذه تلاميذه وطلبته وأهلُ العلم الراسخين منذ سبعة قرون إلى اليوم . انظر فقره ( 1) أعلاه .
وانظر : جلاء العينيين في محاكمة الأحمدين / نعمان الآلوسي .
8- زعمه أن ابن تيمية رحمه الله تعالى يجيز اجتماع الأضداد في ذات الله تعالى ( ص/ 30) :
لم يستدل فوده على كلامه ، ولم يسبقه لهذه التهمة أحدٌ فيما أعلم ، وحجته هي القياس العقلي لعدم فهمه لأصول السلف في تنزيه الله وإثباته ، وتقديمه العقل على النقل . وهو مُقلِّد للغزالي في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد وللرازي في كتابه أساس التقديس ، حيث أوجبا تقديم العقل على النقل ووجوب تأويل النقل أو تفويضه .
انظر : الُأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات / عبد القادر صوفي فهو مهم جداً في كشف هذه التهمة وأمثالها .
9- اتهامه لابن تيمية رحمه الله تعالى بأن كلامه فيه مشابهة لكلام الفلاسفة ( ص/ 36) :
لم يذكر دليلاً على هذا ، وهذه حَيدة وضعف من فودة ، لأنه عجز عن مقارعة حجج ابن تيمية رحمه الله تعالى ، ولأنه لم يجتهد في فهم كلامه بمنظور السلف بل بمنظور أهل المنطق والكلام.
انظر : انظر : جلاء العينيين في محاكمة الأحمدين / نعمان الآلوسي .
10- تحريفه لكلام الإمام مالك رحمه الله تعالى في الاستواء ( ص/ 40- 43) :
حَرَّف فودة بالقياس العقلي قول الإمام مالك رحمه الله تعالى : “الاستواء معلومٌ ، والكيف مجهولٌ ، والإيمان بـــه واجبٌ ، والسؤال عنه بدعة ” .
والجواب أن معلوم: أي: معناه في لسان العرب ، ومن ظن أن معنى ” معلوم ” أي: موجود مذكور في القرآن فهو جاهل ، كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى ” .
الكيف مجهول : فيه اثبات الكيف لكنه مجهول بالنسبة لنا .
والإيمان به واجب : الإيمان بالكيف .
والسؤال عنه بدعة : أي : السؤال عن الكيف.
انظر : الرد على الجهمية / لعثمان الدارمي .
11-افتراؤه على عقيدة عُلماء السعودية ( ص/ 132):
الجواب أن فُودة يتبع سُّنن من قبله من الجهمية ، فقد صح عن أبي حاتم رحمه الله تعالى (ت: 277هـ ) أنه قال : ” علامة الجهمية تَسميتهم أهل السُّنة مشبِّهة ” .
والحق أن علماء السعودية على عقيدة الإمام أحمد ابن حنبل (ت: 241هـ)رحمه الله تعالى وعقيدة السلف قبله ، فمن غَمز عقيدته فهو جاهل أو في قلبه هوى ومرض . وعلماء السعودية منهجهم العدالة والخيرية ، وهي الوسطية التي أمر الله تعالى بها .
انظر : عقيدة السلف أصحاب الحديث / لأبي إسماعيل الصابوني .
• خاتمة :
يا سعيد فودة هداك الله إلى رشدك ، تُب إلى ربِّك قبل الندم ، والزم عقيدة أهل الحديث ، وانبذ عقيدة الجهمية التي تقربها للناس على أنها أشعرية ، فكتابك نقض الرسالة التدمرية فيه نفي لصفات الله تعالى وانكار لعلو الله تعالى على خلقه ( انظر : 50 ،62 ،87، ،94 ، 100، 103، 132).
وتذكر أن الصفات أو الألفاظ التي لم يأت الكتاب والسنة بنفيها ولا إثباتها، لم يتعرض لها السلف لا نفياً ولا إثباتاً، والقاعدة في ذلك أن يُستفصل قائلها، فإن أراد مُثبتها معنى صحيحاً وافقناه على ذلك المعنى الصحيح، ولم نوافقه على استعمال ذلك اللفظ، وإلا فلا، والأولى هو الإعراض عن هذا اللفظ على كل حال.
ونحن نعرف من خلال تأمل كتاباتك وتسجيلاتك أنك تنقل عن المتكلِّم الرازي (ت: 606هـ )أفكاره وعقيدته ، لِيُصغي لك العوام وضِّعاف الطلبة ، ودروسك في الكويت وتركيا أعرفها وأعرف من يُرتِّبها لك وما المقصود منها . نعوذ بالله من الخذلان .
نسأل الله الهداية والتوفيق والسداد .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
1438/12/16