من المؤسف والمُخزي انتشارُ الفكر العلمانيِّ والليِّبراليِّ في جزيرة العرب بهيئاتٍ ومظاهر متعدِّدة لا تناسب بينها . وهذا الفِكر المسمومُ يتمدَّد يوماً بعد يومٍ بوجوه جديدة وغير مألوفة في واقع المسلمين .
كان الفكر العلماني والليبرالي تاريخياً ينحصر في فصل الدِّين عن الدولة ، واعتماد الحرية المطلقة للإنسان في كل شيء ، لكنه في السنوات العِجاف الأخيرة أضحى فناً يُستجدى من موائد المخذولين والمحرومين من نور الحق . وبات يتغلغلُ في شؤؤن الناس العامة ، وأضحى جسوراً على ثوابت عظيمة لا يمكن البوحُ بها من قبل . ولم يُعصم منه الا من رحم الله .
والقاعدة المطِّردة : أن الفكر َالليبرالي علمانيُّ بالضرورة، وأن العلمانية أوسع من الليبرالية , فكل ليبرالي علماني ، ولكن ليس كل علماني ليبرالياً .
مناسبة هذه الأسطر التي أرقمها ، حوارٌ عابر سمعته من إحدى الاذاعات العربية يتحدث فيه أحد المفكرين الاسلاميين – كما يُسمَّون – عن التسامح في المعاملات الربوية في هذا العصر ، وضرورة العناية بالنظريات الغربية التي يصدرها الغرب الى ديارنا ، وضرورة العناية بالفنِّ الحديث ، والتشكيك في مهدي أهل السنة والجماعة ، ونقد عقيدة نزول عيسى عليه السلام ، ونقد بعض الأحاديث النبوية الشريفة المتواترة ،وامكانية نقد الصحابة والأنبياء ، وتصحيح مقولة التقريب بين الفرق الاسلامية ، ونحوها من الموبقات المعنوية والحسية .
إن تسوية الصفوف عند العلمانيين والليبراليين واضحة وجلية في جزيرة العرب ، وجهدهم في ترويض الناس على هذا الفكر رويداً رويدًا ، لا يُنكره الا أعمى البصيرة .
يبدأ هذا الفكر الخبيث بتسكين المسلمين عن فعل الخير ، ثم بزرع الشك في نفوس الناس في مذاهبهم وعلمائهم ، ثم باشغالهم بنقد التاريخ وصفحاته وأعلامه ، ثم بتمرينهم على قبول الافكار الغربية المسمومة ، واظهار عجز المسلمين عن ادراك كُنهها ، ثم باستحضار الرموز الغربية وتنصيبها في ذاكرة المسلمين بدلاً عن الرموز الاسلامية المألوفة ، ثم باشغالهم عن أمجادهم وفتوحاتهم بالفنِّ الرخيص الذي ُيجسِّد أعلام الصحابة ومن بعدهم ، ثم بالتشويش عليهم في المنابر في أحكامهم وثوابتهم ، ثم باستئصال كل مظهر اسلاميِّ في أبدانهم ونواديهم ، ثم بتأويل نصوص الوحي على أهوائهم ، ثم بترسيخ عقيدة التحاكم الى العقل في امور دينهم .
من الملاحظ في السنوات الأخيرة تكتُّل الليبرالييِّن والعلمانييِّن تحت خندق واحد وهم يهتفون : مستقبُلنا أن نكون أو لا نكون !. والقصد من ذلك المساومة على البقاء أو الفناء . وقد نجحوا في اختراق الإعلام الاسلامي والاقتصاد والقانون وبعض مناهج التعليم في بعض البلاد العربية .
واليوم لهم صولة وجولة لتطويع العلوم الاسلامية لفلسفتهم المسمومة . وقد ظهر ذلك في التصريح بنقد الذات الالهية ، و التطاول على الأنبياء والرسل، وسبِّ بعض كبار الصحابة والغضِّ من شأنهم والقدح في عدالتهم في بعض البلاد .
ومن الأسلحة الخبيثة التي يتقوَّون بها على العامة : التشكيكُ في فقه المذاهب الاربعة ، ووصفها بالاستعباد للعقلية الاسلامية المعاصرة ، وضرورة التحرُّر من فقه الائمة الحفاظ الذين ملأوا الدنيا ضجيجاً بفتاويهم، أو الفقه البدوي كما يلمزون ! سواء من القدامى أو من المعاصرين .
ومن أسلحتهم ترويع الناس من التشدُّد والغلو في فهم التعاليم الاسلامية وتطبيقها على النوازل المعاصرة ، بحجة التمدُّن والحوار مع الآخر . ومن أسلحتهم نبشُ الفتن التي دارت بين الصحابة رضي الله عنهم ومَن بعدهم ،وتنزيلها على الواقع المعاصر بحجج سياسية واجتماعية .
إنَّ الفكر العلماني والليبرالي في جزيرة العرب يستمدُّ فلسفته من موارد ملوثة وهي :
الفلسفة الغربية الحديثة ، وأعلام الالمان اليهود الذين أَّسسوا الفكر الليبرالي والعلماني ، وفلول المرتزقة المتمشيخة الذين جنَّدهم الغرب لتسميم الشباب المسلم ، والاعلام الغربي الذي يدوِّن كل صغير وكبير مستطر، لوأد الايمان من قلوب الناس ،والثقافة الاستعمارية التي يقصف بها الغربُ الطلابَ المبتعثين في الجامعات والمعاهد الاجنبية . وإلى الله المشتكى .
من الأخطاء التي وقع فيها بعض الدعاة اليوم ، عدم التصدِّي لفلسفة الفكر الليبرالي والعلماني ، بحجة ضعفه وهوانه وقدرة الناس على كسر شوكته .
إن واجب الوقت الآن يُحتِّم تغييِّر مسار الخطاب الوعظي للحدِّ من نفوذ ذلك الفكر المسموم ، فشياطين الانس لم يتركوا قرآنا ولا سنةً ولا فِقها ولا تاريخاً الا وطوَّقوا حولها حبلاً متيناً لوأدها .
إن أتباع مارتن لوثر ، وهما عَلمان ألماني وأمريكي قد نشطوا في تسويق هذا الفكر اليوم بصخبٍ وبلا حياء .
وإذا كان الحُكم على الشي فرعٌ عن تصوره ،فإن فهم ذلك الفكر المسموم والتحذير منه وتوقِّي انتشاره من الرشد الذي وعد الله تعالى أصحابه بالفوز والفلاح : ” فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا ، وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا “( الجن : 14-15) .
إن سائمة الليبراليين والعلمانيين وجدت مرعاً خصباً ، لتطويع الدِّين لمصالحهم وشهواتهم ، وهم كما قال الله تعالى : “وإن يروا سبيل الرشدِ لا يتخذوهُ سبيلاً وإن يروا اسبيل الغيِّ يتخذوه سبيلا ” ( الاعراف : 146) . ورضي الله عن ابن مسعود حين قال كلمته المتينة : ” عليكم بالأمر العتيق فقد كُفيتم ” ورحم الله عِظام الحسن البصري حين قال :” رأس مال المسلم دِّينه، فلا يُخلِّفه في الرِّحال ولا يأتمن عليه الرجال ” !
هذه خطوط عريضةٌ واللبيب من الإشارة يفهم ، والله موعدنا وهو حسبنا ونعم الوكيل .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .