ملاحظات على الشيلات الشعبية

سألني بعض المحبِّين عن القول الراجح في حكم الشيلات الشعبية التي انتشرت في الأعوام الأخيرة في المنتديات الشبابية ، وأصبح لها رُوَّاد وعُشَّاق مثل عُشَّاق المزمار والربابة  .

والمقصود بالشيلات : قصائد وأبيات تنُشد بتحسين الصوت ، تكون تارة مصحوبة بآلات موسيقية ، وتارة بدونها لكن بمحسنات صوتية أو بِدُفِّ .

وهذه الشيلات في مجملها تدور حول الحماس والشجاعة والكرم والتفكُّر في الماضي والبكاء على الأطلال ، ولا تكاد تخرج عن هذا الحدَّ  .

وقد قال ابن عبد البر ( ت: 463هـ ): رحمه الله تعالى : “ والشِّعر كلام منظوم حسنه حسن وقبيحه قبيح، ومنه حكمة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إن من الشِّعر لحكمة ”   متفق عليه   .

ودائما في مثل هذه المسائل التي تلتبس أحكامها لقربها من الإباحة والكراهة ينظر إلى الظن الراجح لعدم وجود النص الراجح ، ويكون ذلك بالقرائن والجمع بين أطراف الأدلة التي يقوِّي بعضها بعضاً ، كما هو متقرِّر عند الأصولييِّن   .

وتأصيل المسألة يكون من خمسة أوجه  :

الأول : أن الشيلات إذا كانت أبياتها مجردة بدون معازف وليس فيها طَرب فلا حرج فيها . والمقصود بالطرب الألفاظ والعبارات التي تخدش الحياء وتُخالف المروءة ووقار المسلم ، وفيها تكسُّر ورِقَّة .

وإذا كان الغناء بدون آلة، فهو نوعان  :
الأول : أن يكون من امرأةٍ لرجال، فلا ريب في تحريمه ومنعه، كما منعتها الشريعة من الأذان للرجال، ورفع الصوت بالقراءة في حضورهم . فإن غنَّت لنساء، بكلام حسن، في مناسبة تدعو إلى ذلك كعرس ونحوه جاز ذلك ، لموافقته لصحيح السنة  .
الثاني : أن يكون الغناء من رجل: فينظر في جنس الكلام، فإن كان بكلام حسن يدعو إلى الفضيلة والخير فقد أباحه بعض العلماء وكرهه آخرون، لا سِّيما إن كان بأجرة، والصحيح جواز النافع من القصائد والحداء، مع عدم الإكثار منه، وإن كان بكلامٍ قبيح يدعو إلى الرذيلة، ويرغِّب في المنكر، ويصف النساء أو الفواحش، ونحو ذلك فهو محرم كما لا يخفى، وحُكم استماع الأغاني مبنيُّ على حكم الأغاني نفسها ، فما كان منها محرماً فالإستماع إليه محرم ، وما كان مباحاً فالاستماع إليه مباح، والإكثار منه غير محمود.

 

الثاني : إذا كانت الشيلات بآلات موسيقية فحكمها حكم الغناء ، والغناء – بآلات الطرب – إن لم يكن حراما فهو مُنكر لا يجوز فعله.

 

الثالث : المحسِّنات الصوتية الحديثة التي تصدر من أجهزة الصوت حكمها حكم آلات الطرب والعزف إن كانت مطابقة لها في الغاية والسبب ، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ، فمتى وجدت في المحسِّنات الصوتية صفة آلات الطرب فَحكمها كَحُكمها ، سواء بسواء   .

الرابع : يحرم استعمال أدوات العزف مطلقاً – في الشيلات وغيرها -ولا يُستثنى من ذلك إلا الدُّف للنساء، لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال” ليكونن أقوامٌ من أمتي يستحلون الحِر والحرير والخمروالمعازف”  أخرجه البخاري   .
وقد حكى بعضُ أهل العلم الإجماع على تحريم المعازف إلا الدُّف للنساء   .

الخامس : إذا كان سماع الشيلات الشعبية – الخالية من المحرمات – بحدود وفي أوقات الفتور ، فلا حرج في ذلك لأنه من اللهو المباح وقد يؤجر المسلم عليه . والقاعدة عند الأصولييِّن أن المصلحة ملازمة للشريعة ، فلا ترتفع المصلحة إلا بدليل أو مفسدة راجحة   .

 ومن كان غالب وقته في سماعها فهذا مما يقسِّي القلب ويورث هجر العلم وتدبر القرآن ونسيانه ، فتكون حراماً في حقِّه . وهذا هو الحاصل اليوم عند كثير من الشباب ، والله الهادي  .

 قال الإمام النووي( ت: 631هـ ) رحمه الله تعالى  في شرح حديث غناء الجاريتين في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيدقال القاضي: إنما كان غناؤهما بما هو من أشعار الحرب، والمفاخرة بالشجاعة، والظهور، والغلبة ، وهذا لا يهيِّج الجواري على شر، ولا إنشادهما لذلك من الغناء المختلف فيه، وإنما هو رفع الصوت بالإنشاد. والعرب تسمى الإنشاد غناءاً، وليس هو من الغناء المختلف فيه، بل هو مباح، وقد استجازت الصحابة غناء العرب الذي هو مجرد الإنشاد والترنُّم، وأجازوا الحداء، وفعلوه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا كله إباحة مثل هذا وما في معناه، وهذا ومثله ليس بحرام   .

 ويستدل لهذا بإجازة الرسول صلى الله عليه وسلم سماع غناء البنات – اللاتي لم يبلغن – إن لم تصحبه آلات الطرب، ولم يخش منه الفتنة، كما في الرواية الصريحة في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت:” دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار، تغنِّيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث . قالت: وليستا بمغنيتين. فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ؟! وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله –  صلى الله عليه وسلم- : يا أبا بكر؛ إن لكل قومٍ عيدًا، وهذا عيدنا” .

قال الإمام ابن تيمية ( ت: 728هـ ) رحمه الله تعالى : ” أقرَّ الجواري عليه معلِّلًا ذلك بأنه يوم عيد، والصِّغار يرخَّص لهم في اللعب في الأعياد، كما جاء في الحديث: ” ليعلم المشركون أن في ديننا فسحة “. وكان لعائشة لُعب تلعب بهن، ويجئن صواحباتها من صغار النِّسوة يلعبن معها ”  .

وقال ابن القيم (ت:751هـ )رحمه الله تعالى :” أقرَّهما لأنهما جاريتان غير مكلفتين، تغنيِّان بغناء الأعراب، الذي قيل في يوم حرب بعاث من الشجاعة والحرب، وكان اليوم يوم عيد ”  .

فمفهوم هاتين الروايتين أن الغناء المباح- مثل الشيلات –  يُحدَّد بوقت معين لا يشغل عن عبادة ، ولا يُفوِّت فريضة ، أو حقاً واجباً ، ولا يُلهي عن أمرٍ لازم في تفويته حصول إثم وحرج  . ولا يصح سماع هذه الشيلات في مطلق وقت المسلم بلا تقييِّد  .

وختاماً أريد التنبيه على أن الشيلات الشعبية التي يُروَّج لها اليوم ليست من الحداء الذي عرفه العرب قديماً ، فإنه مخصوص بالمواسم أو في السفر ، أما شيلات اليوم فهي عامة في سائر الأوقات فلا تُلحق بالحداء ، لا عن طريق النص ولا عن طريق القياس.

هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات  .

23/  6 /  1436هـ