مفاتيح الاستدلال بالاستلال

في دفائن المصنفات الاسلامية لون بديع من مهارات الاستدلال الذي يظهر حِذق العلماء الأوائل في استخراج المعاني الدقيقة من ألفاظ النصوص المعتبرة . فقد مهر فطاحلة العلم قديما في استلال الشوارد التي تُبنى عليها كثير من الأحكام والقواعد والدلائل ، وأظهروا صحة مقولة : لا يستطاع العلم براحة الجسد . وقد عبر الامام الشافعي( ت:204هـ ) رحمه الله تعالى عن تلك المهارة وظفره بها بالبيت الشهير :
وصريُر أقلامي على صفحاتها أشهى من الدَّوكاء والعُشَّاقِ

وكان الخليل بن أحمد الفراهيدي( ت: 173هـ ) رحمه الله تعالى ، مؤسِّس علم العروض، يدرك أهمية هذه المهارة ، فقد كان يسمع صوت الغسَّالين ولضربهم نغم مميَّز، ومنهُ طرأت بباله فكرة العروض التي يعتمد عليها الشعر العربي. فكان يذهب إلى بيته ويتدلَّى إلى البئر، ويبدأ بإصدار الأصوات بنغمات مختلفة ليستطيع تحديد النغم المناسب لكل قصيدة .

والامام البخاري( ت:256هـ ) رحمه الله تعالى ، كان يغفو ثم يستيقظ ليوقد السراج ويكتب الشاردة التي خطرت في ذهنه . يفعل ذلك في الليلة نحواً من عشرين مرة .

وغوص العلماء في بحور العِلم واستخراج النوادر المكنونة ، كان بسبب استثمارهم لآلات العلم مع الجدِّ والمثابرة . ومن طالع كتاب فتح الباري للحافظ ابن حجر( ت:852هـ ) رحمه الله تعالى ، وهو من أنفس المصنفات التي عنيت بالاستدلال بالاستلال ودقة اقتناص الفوائد اللطيفة والمباحث المنيفة ، وكيف مكث في تحريره ثلاثين عاما ، بان له شغفهم بالفوائد،وسهرهم لفتق أبكارها، وأن صحائف العلم عندهم لا تسقط بالتقادم ،وليست كما قيل: بعيرهرم سائب لا يركب .

ويمكن اجمال مفاتيح الاستدلال بالاستلال في النقاط الآتية :

1- ادمان مطالعة المعاجم اللغوية : ففيها من ذخائر المعارف الدقيقة ونفائس أبكار المسائل ، ما يبهر المطالع والمتأمل . وممَّن يُقتدى به في هذا العلامة محمود شاكر( ت: 1418هـ ) رحمه الله تعالى ، الذي كان يكاد يستوعب التراث العربي بأدبه ومصنفاته وكان مرجعا لكثير من الدارسين والمثقفين ، وكان يدعو لأخيه المحدث الشيخ أحمد محمد شاكر(ت: 1366هـ ) رحمه الله تعالى ، ويذكر أنه كان يُكلَّفُه بحفظ أبيات يُحدِّدها له من كتاب لسان العرب . وكان بعد ستين سنة من جلده في قراءة كتب التراث: يستلُّ الأبيات من مُصَّنفات اللغة والادب ويعزوها الى قائليها بلا أدنى كلفة .

2- تأمُّل أطراف الأدلة في المصنفات الشرعية : كأطراف الصحيحين، ومعاجم السنة ،والمعاجم التي صُّنفت في القرآءات المتواترة والشاذة ، وربطها بالمسائل المتعلقة بها من اصول المسائل والاحكام . ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى ” وجعلنا من الماء كل شي حي “( الأنبياء: 30 )في القراءة المشهورة ، والماء المراد فيها النطفة والكائن الحيّ الذي يتغذى بالماء. وفي قراءة شاذة : وجعلنا من الماء كل شيء حيا .
ويمكن ايضاح المراد منها بالجماد الذي حياته بالخُضرة ويتغذَّى بالماء . ومن الأمثلة المليحة ايضا استدلال الحافظ ابن حجر( ت: 852هـ ) رحمه الله تعالى ، لوقت فرض الحج من قول الله تعالى :” وأتموا الحج والعمرة لله ” ( البقرة :196 ) بأنه كان في السنة السادسة، استدلالا بالقراءة الشاذة : وأقيموا الحج والعمرة لله .
والمقصود التمثيل لا الاحتجاج . وقد وقفت في تفسير الجلالين على نحو ثلاثين مثالا في استلال المعاني من القراءات القرآنية .

3- معرفة مذاهب النحويين في مدارسهم ومقالاتهم : فالمدارس النحوية المعتمدة خمس : البصرية والكوفية والبغدادية والأندلسية والمصرية . والحجة في الاستدلال في المسائل النحوية :هو شعر الجاهليين والمخضرمين وبعض شعراء الاسلاميين . أما شعراء المولَّدين فلا يُحتج بشعرهم الا الثقات منهم . والشعراء المولَّدون من ظهروا بعد الفرزدق( ت:110هـ ) وأولهم بشار بن برد (ت:167هـ ) الى يومنا هذا . وقد قال الاصمعي( ت: 216هـ ) : خُتم الشِّعر بابراهيم بن هرمة( ت:176هـ ) رحمهم الله تعالى . وفي ردود النحويين من التقريرات المهمة ما يحسن الاطلاع عليه ، كردود ابن مالك النحوي(ت: 672هـ ) على البصريين في نحو 73 مسألة ، وردوده على الكوفيين في نحو 43 مسألة ، وردِّه على البغداديين في نحو 35 مسألة . وله ردود على سيبويه( ت:180هـ )، في نحو عشر مسائل . ولابن تيمية (ت : 728هـ) استدراكات على سيبويه في نحو ثمانين مسألة . رحم الله الجميع .

4- مطالعة استدراكات العلماء وتعقباتهم : ففيها خلاصة أفهامهم في تعليلات المسائل وطرق الجواب على عويصها . مثل كتاب : (الرد على السبكي) ،و(تهافت التهافت) ، و(الرد على الدهريين) ، و(الرد على الجهمية) و(الانتقاد على الشافعي) وغيرها من الكتب المحررة . اضافة الى ما حوته المصنفات الفقهية من تعقبات حكمية . كتعقُّب ابن تيمية لمن جعل للسفر زمنا محدودا ومسافة معينة ، وكمنعه اعطاء الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله . وكتقريره أنَّ الهلال اذا ثبت في أثناء يوم، قبل الأكل أو بعده اتمُّوا ولا قضاء عليهم . وقد ُاستدرك على ابن تيمية وغُلِّط في بعض هذه المسائل . ويُلحق بها اختيارات العلامة الصنعاني( ت:1182هـ ) والامام الشوكاني(ت:1255هـ ) رحمهما الله تعالى .

5- تعاهد المحفوظات والكُنَّاشات : ويكون ذلك بكثرة النظر والاستظهار والمناقشة مع النفس أو مع صديق حاذق . وبذلك يُدرك المتأني بعض حاجته ، ويأنس بما حصَّله من قواعد وضوابط وشرائد . ويروى أنَّ الامام ابن مالك النحوي( ت:672هـ)رحمه الله تعالى ، حفظ يوم موته ثمانية شواهد . وقد انتفع الامام السرخسي ( ت:486هـ ) رحمه الله تعالى، بهذا المفتاح حين سُجن في جُبِّ بسبب فتوى صدرت عنه ، فأملى كتابه ( المبسوط ) على طُلاَّبه ،هم في أعلى الجُبِّ وهو في أسفله . وأملى قبل ذلك كتابين لطيفين . وبعض كتب الامام ابن قيم الجوزية( ت: 751هـ ) رحمه الله تعالى، صنفها في سفره من حفظه ، والحافظ الدارقطني (ت: 385هـ ) رحمه الله تعالى ،صنف كتابه ( العلل ) من حفظه . والشواهد كثيرة .

هذا ما تيسر تحريره وتصحيحه ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

المصادر :

1-اتحاف الأمجاد في ما يصح به الاستشهاد / للآلوسي .
2- الفوائد البهية / للكنوي .
3- التحقيقات شرح الورقات/ للكيلاني .
4- الأعلام/ للزركلي .
5- ردود ابن مالك على النحاة / لمطيع فارع/ رسالة لم تنشر / مطبوعة على الراقمة .
6- منهج ابن تيمية في الفقه / للعطيشان
7- منهج ابن حجر في الاستدلال بالقرآءات / لزمزمي .