معايير الجودة في المؤلفات المعاصرة
تواجه النُّخب العلمية معضلة كبيرة في التعامل مع الثورة العلمية الهائلة التي اتسعت في العالم العربي والإسلامي .

والسبب كثرة الزخم والزَّبد في المؤلفات المعاصرة في شتى فروعها ، مما يسبب للقارىء الحصيف شتاتاً في التفكير وضيقاً في الوعي وتضييِّعا للوقت والجهد .

والمقصود بالجودة : الضبط والإتقان في الصنعة العلمية لمدارك التأليف وحسن السبك ومدى الإفادة منه في الحاضر والمستقبل ، والتعرُّف على أفضل ما كُتب ويكتب بأقلام المعاصرين . امتثالاً لأدب القرآن في الإتقان : ” صنع الله الذي أتقن كل شي إنه خبير بما تفعلون ” ( النمل : 88 ) .
ُ

وقد تقرر عند الأصوليين أن الحقائق والمعاني أهم ما يطلب تحصيله في الأحكام الشرعية ، ومؤلفات المعاصرين الغالب فيها توضيح مفرداتهما ، فيجب العمل بما أوجب الله فيهما ، لا بما أوجب الناس .
وقد أعجبني ما قاله العلامة عبد الكريم الخضير غفر الله له ووفقه عن مكتبة الشيخ محمد العثيمين (ت: 1421هـ) رحمه الله تعالى : أنها مختصرة ومنتقاة وجامعة للمفيد والمحرَّر .

القارىء الجديد قد يستبشر بالزخم العلمي في الثورة العلمية ، ويظن أن ثمرات المطابع من الخير الذي لا يجوز إيقافه أو التقليل منه ، لأن الخير لا يُردُّ ! .

لكن القارىء الخبير يتألَّم لفوات الجودة في المؤلفات المعاصرة من ناحية الكم ومن ناحية الكيف ، لأن الأعمار قصيرة والوقت محدود لا يكاد يفي بالأولويات .

هذه المعضلة تولَّدت أولًا من المكتبات التي تقذف يوميًا مئات المصنفات في شتى فروع العلم والمعرفة ، وبعضها للأسف لا يُساوي الحِبر الذي طُبعت به .

أصبح الكتاب من حوالي ربع قرن سِلعة تُسوَّق في دنيا التجارة ، ليس من أجل المجهود العلمي الذي بُذل فيه ، ولا القيمة العلمية التي احتواها ، إنما من أجل الكسب المادي وتوسيع رقعة النشر للدار الناشرة ، وقد يكون موضوعه مُكرَّرا جُزافاً لا قيمة له .

وتولَّدت ثانياً من الرقيب على الكتاب الإسلامي ، فأضحى لا ينُشر في المطابع إلا ما يُرضي فئاتٍ معينة ، أو لترسيخ مفهوم معين ! ، على حساب الأمانة والذوق العام . والله المستعان .

سوق المكتبات يغصُّ بالرخيص والنفيس من المصنفات العلمية ، فقد توجد رسالة علمية من خمسين ورقة محررة ومسبوكة ، لكنها مهملة من الناشرين والقارئين ، لأن حاجة السوق لا تنُاسب نشرها والترويج لها ! .
وقد يوجد مجلد كبير فيه فوائد لكنه مكرر وغير مُحرَّر ، لكن نشره له مردود ربحي كبير ، إما لشهرة مُؤلِّفه ، أو لأنه مقرر بحثي فرضه الواقع على طلبة العلم ، أو لغير ذلك من الأسباب .

ثمرة ما تقدَّم من اتساع الزخم العلمي والزبد على الجودة العلمية ، أظهرت جيلا معرفياً يتكلَّم لكن لا يُناقش ، ويناظر لكن لا يستدل ، ويردُّ لكن لا يُؤصِّل ! .

فأضحى الحال كما هو الظاهر اليوم : ضِّيق في الأفق العلمي ، انتصار للذوات والأعلام ، غياب للدليل ، حب للتصدُّر والتشوُّف ، ضبابية في الحكم على النوازل والوقائع ، غياب للفقه العلمي ، وهلم جراً .

أصبح القارىء المسلم يعاني من الشرود الذهني ، والحيرة العلمية ، وضعف الوازع الإيماني ، لندرة المربِّي الناصح وغياب المنهج الثابت ، وكثرة الطائفية والتمزُّق في المجتمع العلمي . ولا ينكر هذا إلا جاحد ! .

*وهذه خلاصة يمكن من خلالها معرفة معايير الجودة في التآليف المعاصرة:
أولاً : المؤلَّفات الجامعة للأدلة مع مراعاة حسن الترتيب :
والمقصود الظفر بما يقرِّر المسائل بأيسر سبيل من المؤلفات المعاصرة . ومما يُحمد للإمام الشافعي (ت: 204هـ)رحمه الله تعالى اتصافه بهذه الصفة في مؤلَّفاته ، فقد أورد الإمام البيهقي (ت: 458هـ ) رحمه الله تعالى أن مؤلَّفات الشافعي انفردت بجودتها بين فقهاء الأمصار بأمور ثلاثة :
الترتيب وإيراد الحجج ومعرفة الأصول .
ولهذا قال الأديب الجاحظ (ت: 255هـ ) : ” نظرتُ في كتب هؤلاء النابغة ، فلم أر أحسن تأليفاً من المطلبي ، كأن فُوه ينظم دُّراً إلى دُّر ” .
فيكون هذا المقياس أمام القارىء وتحت سمعه وبصره ، ليحمد مسعاه .

ثانياً : المؤلفات المختصرة المحررة :
وتُعرف قيمتها ونفاستها بمنهج مقدمة الباحث وخاتمته وإيراده للمسائل وتعويله على الدليل والتعليل وملاحظته للسبر والتقسيم والتبويب ومقارعة الحجة بالحجة لا بالهوى وميل النفس . وإشباع الموضوع بأخصر عبارة .
وفائدة المختصرات ليس في كونها موجزة بل لسهولة جمع المتفرق فيها وتقسيم الكلي إلى جزيئات ، وجمع الجزئيات في كلياتها .
وهذا يساعد على الضبط ، ويكون نواة للترقِّي عند المتقدِّمين في العلم . ولأن تناول المطولات أولا ًقد يُفضي إلى نبذ البحث أحياناً ، والتحايل على النفس للخير من الفقه في الدِّين .

ثالثاً : المؤلفات المربِّية لملكة النقد والتمحيص :
بعض المؤلفات المعاصرة قد تفيد في عرض الأدلة وإدراج المسائل ، لكنها ضعيفة في تنمية الروح النقدية وتمحيص المسائل وتفنيد آراء المعارضين سواء من الفرق والطوائف أو من النخب العلمية المعاصرة . ويستعان على ذلك بكتب من أفضلها : العَلَم الشامخ لصالح المقبلي ، وآداب البحث والمناظر للشنقيطي ، ومناهج الجدل لزاهر الألمعي ، ، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود .

رابعا ً : المؤلفات المحققة للنوازل :
وفائدتها الإلمام بالوقائع وتحرير الدليل المناسب لها لمعرفة الراجح والعمل به . وهذا الباب قد قلَّت فيه الكتب المجوِّدة في فنِّه لوعورة النظر فيه . وللعلامة بكر أبو زيد (ت : 1429هـ ) رحمه الله تعالى كتاب يعدُّ من أنفس الكتب الشاحذة للهِمم للنظر فيه بعنوان : فقه النوازل .

خامساً : المؤلفات الموضِّحة للقواعد والأصول :
وفائدتها ضبط موارد الأدلة والتميِّيز بين الصواب وغيره في أدلة الخصوم ، فهي الميزان الراجح للأقوال والإحتجاج بالأدلة . وتعدُّ كتب الشيخ يعقوب الباحسين من أنفس ما كُتب في هذا الباب والتأصيل لمفرداتها وطرق النظر فيها ، وهي دسمة إذا جمع بينها وبين كتب الدِّراية .

سادساً : المؤلفات المعتنية بالمناهج والمسالك :
وفائدتها معرفة طرق النظر والتفكير وأصول الدِّيانة والعمل . ويصعب حصر أفضل ما كتب فيها ، لكن من المسبوك في هذا الباب : ” منهج الإستدلال على مسائل الإعتقاد عند أهل السنة والجماعة ” لعثمان بن علي حسن . وهو نفيس في بابه .

سابعاً : المؤلفات المعتنية بالذكريات والرحلات :
وفائدتها الإعتبار بمن حلَّ وارتحل ، ودبَّ ودرج على المعمورة .
ومن أفضلها : أدب الطلب للشوكاني ، ورحلة الحج للشنقيطي ، ورحلات حمد الجاسر ، ورحلات العبودي ، وذكريات علي الطنطاوي ، وذكريات محمد البشير الإبراهيمي ، ومقالات محمد محمود الطناحي ، رحم الله الجميع .

وليحذر القارىء من مؤلَّفات العقلانيين الخالية من الدليل والتأصيل ،كجودت سعيد ، وخالص جلبي ، ومحمد عبده ، وطه حسين ، ومحمد عماره ، وأحمد أمين ، ومن نحى نحوهم من معتزلة العصر .
وليحذر من أقلام أهل الغلو والتكفير والتصنيف ، وهم معروفون في هذا العصر، لا كثرهم الله ، لا مِرية فيهم . والله الهادي .

فالواجب على القارىء المسلم لا سِّيما من زال غضاً طريَّا لم يشب مِفرق رأسه ، أن يحرص على اقتناء ما تمَّ تجويده من مؤلفات المعاصرين وغيرهم ، لأن العلم جهاد ، وتضيِّيع العمر في الجمع بلا تميِّيز، لا يخرِّج طالباً بل عاميًا ، عالة على نفسه وعلى الناس .

وقد قال ابن عبد البر القرطبي(ت: 463هـ) رحمه الله تعالى : ” من رأى الغدو والروَاح إلى العلم ليس بجهاد ، فقد نقص عقله ورأيه ” .
ومن اللطائف أن أهل التحقيق والرسوخ في العلم في أبوابه كله لو عدَّهم العادُّ على يديه ، لنال أسماءهم لِقلتهم وندرتهم ، لكن مؤلفاتهم اليوم منسية وبعضها مركومة بغبار الجديد والملوَّن ، فمن يعي هذا ؟! .
ويمكن تلخيص ما تقدَّم من معايير في سطرين : الحرص على كل مؤلَّف أبدع في عرض القِيم والمواقف وأنماط السلوك الفردي والجماعي ، مع حُسن الدليل والمعتقد .

ولا يخفى أن هذا العصر وللأسف قد كثر فيه المتشبِّعون بما لم يعطوا ، فيجب الحذر، لأن الفتن كثرت ، والأقلام سُنَّت ، والنوايا محمومة ، عياذاً بالله تعالى . وقد تقرر عند الأصوليين أن تخلف الحكم مع وجود العلة يقدح في صحة العلة ، وعليه فإن ما لا يصلح لديننا ولا دنيانا مردود ولو كان من أعظم المتبوعين .

ولا يخفى أن التربية بالعلم لتكوين النضج العلمي لا تُنال بالمحاكاة ، بل بالمباشرة التي تورث الهدي والسمت الصالح ، وهذا لُّب المسألة . نسأل الله من فضله .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات  .

25/ 2/ 1435هـ