بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..
فقد وقفتُ على تقرير وفتوى للشيخ مولود السريري وفقه الله تعالى،حول المنع من المسح على الجوربين،وأن الصحيح هو المسح على الخفين.
وكلامه جيدٌ وحسنٌ لأنه اجتهاد معتبر ،وله وجاهة في المذهبين الحنفي والمالكي،لكن لأن فيه إجمالاً بسبب دقة المسألة ، فيلزم التنبيه على عدة أمور :
الأول : قال الشيخ مولود : إن الجورب حقيقة عرفية، وجوابه أن الخفين لا مفهوم لهما ، فيصح المسح على كل ما غطَّى الرِّجلين من صوف أو جِلد أو ما قام مقامهما ، وقد نبَّه على هذا الأزهري (ت: 1335هـ ) رحمه الله تعالى في الثمر الداني(2/169 ) .
وقول المالكية باشتراط أن يكون الجورب مجلداً،هذا للاحتياط ،وقد رجح ابن تيمية صحة المسح على الجورب،حتى وإن لم يكن مجلداً ، إذا كان يستطيع المشي فيه، كما في مجموع الفتاوى( 21/ 214).
والعرف المناسب أن يكون الجورب صفيقاً لا يبدو منه شي من القدم،وإمكان متابعة المشي فيه، وهذا الشرطان متحققان في الجورب المعاصر،كما قرَّره ابن قدامة في المغني.
والمسح على الجورب للمشقة والحاجة والمصلحة ،ويصح التعليل بها في مشروعية الجواز،وهذا من المرجحات كما قرره الرازي في المحصول(2/605).
ولا يجوز عند الأصوليين الجمود على أقوال المذاهب إذا كانت قواعد الشريعة تساعد على الجمع بين الأدلة للخروج من الخلاف .
والفقهاء الذين يشترطون شروطاً يصعب مطابقتها على الجوارب المعاصرة، يقال لهم إن الحاجة تنزل منزلة الضرورة، كجواز طواف الحائض بالبيت الحرام،إذا كانت مع رفقة وتخشى فواتهم،أو كانت من بلد بعيدة ،ومثل ذلك دفن مسلمين في قبر واحد عند الحاجة إلى ذلك.
وقد رجَّح قاعدة الحاجة الغزالي(ت: 505ه ) رحمه الله تعالى في شفاء الغليل (ص246).وابن العربي (ت: 543ه )رحمه الله تعالى في القبس شرح موطأ مالك بن أنس(ص2/790) .
والنظر في الحقائق يكون بعد النظر في الاستدلال إما وجوداً أو عدماً،ولا يجوز تقديم الأوصاف قبل تمييِّز الأدلة وتطبيقها على القواعد لتظهر الحقائق جلية واضحة.
ومن الأدلة قول الله تعالى” يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسِكم وأرجلِكم”(المائدة:6 ).
وقد قُرئت هذه الآية بالخفض في لفظة أرجلِكم،والمعنى جواز مسح الرأس والرجلين، عند الحاجة إلى ذلك للترخص ،وهذا تفسير ابن عباس رضي الله عنه ، وصححه الشافعي رحمه الله تعالى .
وعليه فلا يجوز قصر المسح على الخُفِّ دون الجورب.
الثاني: قال الشيخ مولود: الأصل وجوب غَسل الرجلين لا مسحهما. هذا القول مجمل لأنه يحتمل معنيين ،وهو ما يوقع المكلَّف في الحيرة ، وقد ورد دليل خارجي ببيانه .
وهو أن هذا في العزيمة لا في حال الرخصة.فلا يجوز مثلاً أن نقول لمن صلَّى الرباعية في السفر ركعتين،إن الأصل أن تُصلَّى أربع ركعات،فإن الأحكام تتفاوت بحسب حال صاحبها كما هو معلوم .وقد دلت آية المائدة على جواز المسح كما في قراءة الخفض.
وفي حال المشقة والضرر فإن الرِّجلين ينتقل المكلَّف من جوب غسلهما إلى جواز مسحهما،لأن المعارض الشرعي هنا وهي الرخصة تكون أقوى من الحكم الثابت بالدليل الشرعي الذي قال به الشيخ وهو وجوب الغسل.
الثالث: قال الشيخ مولود : لم يرد ناقل عن الغسل في القرآن.
جوابه أن الناقل ثلاثة أوجه : الأول: قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم ) أخرجه البخاري .وقوله : ( عُفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). رواه ابن عبد الهادي في التنقيح وصحَّحه. ومنع المسح على الجوربين يوقع الضرر والمشقة والحرج،فيكون المسح ناقلاً باللفظ النبوي.وقد تقرر عند الأصوليين أن التنبيه أقوى من النص،وهو أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق ،وقد أشار إلى هذا الى هذا ابن مفلح في أصوله (ص4/1598) ،والثاني: فعله صلى الله عليه وسلم،كما في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين” .أخرجه الخمسة إلا النسائي، وصحَّحه الترمذي.وهذا الحديث في إسناده مقال،لكن الأرجح تحسين إسناده ،وقد صحَّحه المحدثان أحمد شاكر والألباني رحمهما الله تعالى.
والحديث أُعلَّ بمخالفة أبي قبيس لرواية الحفاظ له في المسح على الخفين،لكن ابن دقيق العيد قال: ومن يصححه يعتمد بعد تعديل أبي قبيس على كونه ليس مخالفا ًلرواية الجمهور مخالفة معارضة،بل هو أمر زائد على ما رووه،ولا يعارضه ولا سيما وهو طريق مستقل برواية هزيل عن المغيرة،ولم يشارك المشهورات في سندها.
ومما يُقوِّي هذا حديث ثوبان : ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأصابهم البرد،فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين”. أخرجه أبو داود بإسناد صحيح.
والعصائب هي العمائم ،والتساخين هي كل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوهما.
وقد استدل به النووي في المجموع . الناقل الثالث:القياس على الخفين إذا كان الجورب صفيقاً،لأنه ملبوس ساتر لمحل الفرض،ويمكن متابعة المشي عليه.
الرابع: قول الشيخ مولود: إن قول الصحابي لا يحتج به،جوابه: هذا الاطلاق فيه نظر. والصحيح أن قول الصحابي فيما لا مجال فيه للرأي والاجتهاد له حكمُ الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الاستدلال به والاحتجاج،أو يكون في حكم المرفوع لكن من باب الرواية بالمعنى كما قرَّره ابن الجوزية في إعلام الموقعين.
ثم إن قول الصحابي إذا انتشر ولم يخالفه أحد من الصحابة صار إجماعاً وحجة عند جمهور العلماء، وقد قرَّر هذا جدُّ ابن تيمية رحمه الله تعالى في المسودة.
وفي هذه المسألة : المسح على الجورب،لم يخالف قول الصحابي نصاً ولا قياساً ولا عُرفاً،فلا يصح رد قول الصحابي أو القول إنه لا يحتج به بإطلاق .
وليت الشيخ وفقه الله تعالى راجع مستند قول وفعل الصحابي قبل رد الاحتجاج بقول الصحابي،لأن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أفاد أن المسح على الجورب ورد عن ثمانية من الصحابة،وقد قال أبو المنذر: يُروى اباحة المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فما مستند هؤلاء الصحابة كلهم الذين رووا المسح على الجورب ؟!.
مستندهم إما السماع المباشر أو رؤية الفعل أو دلالة الأمر النبوي،وهي مؤكدة لقوة الاحتجاج وقوة النقل،وقد فصَّل في هذه المراتب الغزالي في المستصفى ولخَّصها ابن رشد في الضروري في أصول الفقه.
الخامس: قول بعض المالكية وغيرهم إنه يشترط أن يكون الجوربان مجلَّدين،قول ردَّه كثير من الفقهاء كابن قدامة والثوري والحسن بن صالح وابن المبارك وإسحاق وأبو يوسف ،لحديث المغيرة بن شعبة : ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين”. أخرجه الخمسة إلا النسائي، بإسناد حسن.
وفي عصرنا يكون الجورب من القطن والكتان والصوف،ويمكن المشي بها لثباتها في الرِّجلين.
السادس:سبب منع المالكية والحنفية من المسح على الجوربين،هو الاحتياط لكمال الطهارة والأخذ بالعزائم في العبادات،وهذا محمود ومشكور، لكن تعميمه على كل أحوال الناس فيه من الضرر والمشقة ما لا يكاد يخفى على كل متأمل.
ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحون على أخفافهم ويمسحون على جواربهم،فقد صح عن أنس رض الله عنه أنه كان يمسح على الجوربين. رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنَّفيهما.
وورد مثله عن ابن مسعود رضي الله عنه كما في مصَّنف عبد الرزاق.
ولو كان المسح على الجوربين باطلاً ومفسداً للعبادة،لأنكر آحاد الصحابة ذلك واشتهر،لكنه لم يقع،فكان دليلاً على الجواز.
وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم لا يُفرِّقون بين الخفِّ والجورب في المسح عند الحاجة إلى ذلك،لأنهما بمعنى واحد في عضو واحد من أعضاء الوضوء.
السابع : لا يجوز التمسك بمفهوم اللقب في الاقتصار على مسح الخفين دون الجوربين،لأن المسح ينتقل تارة من الخف وتارة إلى الجورب وتارة إلى غيرهما من المسحات الست المتقررة في النصوص الشرعية.
ولهذا لم يقصر السلف المسح على الخفين دون الجوربين،كما يتبيَّن ذلك ممن سافر مع النبي صلى الله عليه وسلم،وشاهد طهارته ووصفها كما عاينها.
والآثار في ذلك عن الصحابة مشهورة ومعروفة في مصنفات الفقه المقارن. والاستدلال بالمسند إلى الصحابة والتابعين أقوى في الترجيح من المرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم،كما قرَّره جدُّ ابن تيمية في المسودة(1/607).
الثامن : الشيخ مولود وفقه الله تعالى ،يبدو أنه تمسك برأيه في منع المسح على الجوربين استناداً إلى ما قرَّره الإمام مالك(ت: 179هـ ) رحمه الله تعالى ،من منع القياس على الرخص،وهذا من قواعد المالكية والحنفية في باب القياس،وهذا القول مرجوح ،لأن العلة معروفة ومتحققة في الفرع، وهذا قول الجمهور في المسألة. وقد قرَّر المسألة الزركشي في البحر المحيط(7/75) فلتراجع.
التاسع : بعض أهل العلم انقلبت عليه هذه المسألة ،وظن مطابقتها لمسألة المسح على النعلين،فشدَّد في مسألة غسل الرِّجلين،لأن بعض الآثار الضعيفة وردت بمسح بعض الصحابة رضي الله عنهم لنعالهم،وهي آثار لا تخلو من مقال،وليس لها مرجح خارجي ،فالحكم فيها مرجوح ،وبعضها اجتهادٌ لم يتفق عليه علماء السلف ،ولهذا لا يجوز المسح على النعال بل يجب غسل الرِّجلين،وهو قول الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى.
العاشر: لا يجوز القول ببطلان صلاة من صلَّى بالمسح على الجوربين دون الخفين،لأن البطلان يجب أن يستند إلى مقدمات يقينية تفيد القطع،وهذا غير منطبق على الصلاة مع المسح على الجوربين،لأن المسح إن لم يكن ثابتاً بدليل قطعي،فإنه قد ثبت بدليل متواتر، وهو فعل الصحابة والسلف، وفهم الفقهاء من دلالات النصوص.
والمتواتر لا يمكن رده أو ابطال الصلاة به .
فيجب على أهل العلم السكينة واطالة النظر في المسائل الدقيقة ،وعلامة الفقه الأناة ووضع الشي موضعه،وفي المرفوع:” إن طول صلاة الرجل وقِصر خطبته مئنةٌ من فقهه ،فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة”. أخرجه مسلم.
وإنما حدَّث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث لأمرين: أن أحكام الشريعة لها دلالات لا يفهمها كل الناس،فيلزم تنقيحها للسامعين ،لأن عقولهم تختلف وأفهامهم متفاوتة،والثاني: أن مراعاة السُّنة واجبة،ومثلها مراعاة أحوال الناس وحاجاتهم ورفع الحرج عنهم، من غير تفويت لمقاصد الشريعة .
فالمناسب في هذه المسألة، وهي المسح على الجوربين دون الخفين،أن يقال: غسل الرِّجلين أولى وأكمل من مسحهما،ومن مسح لحاجةٍ فصلاته صحيحة.
وأخيراً فإن الذين قالوا بعدم جواز المسح على الجوربين ، نظروا – كما يبدو لي- في الأدلة ولم ينظروا في الدلالات والمرجحات النقلية والعقلية ، ومن نظر منهم فإنه لم يجمع بين الأدلة ويرجِّح من خلالها بحسب مراتبها، فيجب على طلبة العلم أن يتنبهوا لهذا المسلك فإنه دقيق جداً ، ويخفى على كثير من المشتغلين بالعلم ، كما نبَّه عليه الغزالي والشاطبي رحمهما الله تعالى.
فلا يجوز لأحد أن يقول في هذه المسألة بتكافؤ الأدلة من أجل التخيير بينها، بل لا بد من الجمع بين الأقوال والأدلة لدفع التعارض ،وقد تُلحق هذه المسألة عند الفقهاء بالمتشابه،فترد إلى المحكم كما تقدَّم.
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
1442/7/24