مذاكرة حول حكم إهداء الكفن للمريض

وردني سؤال على مُدوَّنتي حول حكم إهداء الكفن للمريض ، وهي من الأعمال التي بدأت تظهر في المشافي والمصحَّات .

 ومن نعم الله  أن هناك من يذكِّر بالآخرة في عصر اتسعت فيه الغفلة وطال أمدها  .

  والتحقيق أن طلب الأجر موقوف على تحري التقوى وحسن القصد ، فعن عطية السعدي ” أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال  : ” لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به  ،حذراً لما به البأس”  أخرجه الترمذي بإسناد حسن   .

لكن يجب التفريق بين إهداء الكفن للمريض على ضربين :  جهة القربة والإتباع ، وجهة التذكير بالمعاد  . وهذا أُسُّ المسألة  .

فلو تتبعنا الهدي النبوي للرسول صلى الله عليه وسلم مع المريض لوجدنا أنه : يدنو ، يدعو ، يمسح على الرأس ، يرقي ، ونحو ذلك من أنواع الرحمة والعطف وتطييِّب النفس ، من غير زيادة تعبدية  .

فإذا كان إهداء الكفن للمريض يقصد به القربة وطلب الأجر والإحتساب لعمل الخير ، فهو عمل مبرور،  ولكن ليس هذا محلُّه  . وفي صحيح مسلم مرفوعا ً : ” هلك المتنطعون ”  .

ولا يصح شرعاً قول إن إهداء الكفن للمريض مندوب إليه ، لأن شرط المندوب  عند الأصوليين أن يكون الفعل فيه أرجح من الترك ، وهذا الإهداء لم يقل به أحد من السلف إلى يومنا هذا  ، فيبطل القول المتقدِّم  .

فلم يبق في دائرة البحث إلا أن يكون إهداء الكفن للمريض من المباحات . والمباح ليس حكما تكليفياً عند المحققين من العلماء ، وإدخاله في الأحكام التكليفية من باب المسامحة وإكمال القسمة كما قرَّره العلامة الشنقيطي( ت: 1393 هـ. ) رحمه الله تعالى  .

والإمام ابن تيمية (ت:  728هـ )رحمه الله تعالى يميل إلى كون المباح مأمور به إذا كان المقصود به أهل الصلاح والتقوى والمنقطعين للعبادة ، وهذه المنزلة لا يقوى عليها إلا القليل من الناس اليوم ، فلا يجوز القياس عليها لعموم الناس   .

ولا يستدلُّ هنا  بمطلق الإباحة ، لأن الإباحة حكم تكليفي ويشترط له ثلاثة شروط كما قرَّر ذلك العلامة الفتوحي (ت: 972هـ )رحمه الله تعالى  .

وهذه الشروط هي : وجود السبب ، ووجود الشرط ، وانتفاء الموانع .

فلم يلزم الرسول صلى الله عليه وسلم زائر المريض بإهداء الكفن ، ولم يُعلِّق وجود الكفن على وجود المريض . بل إن القربة ودعاء الملائكة  لا تتحقَّق بإهداء الكفن للمريض . فليفهم هذا فإنه نفيس .

 

ومن يريد معرفة الحكم الشرعي في الأمور الملتبسة المستغلقة فلينظر إلى العلة الشرعية والمصلحة التي تناسب الحال ، والحكمة التي أرادها الله وشرعها  .

فعيادة المريض الحكمة من مشروعيتها : تطييِّب نفسه ورفع الحرج عنه وإدخال السرور إلى قلبه بحصول العافية ، لا العكس .

ولهذا نجد في القرآن أن الله تعالى حمى المريض من استعمال الماء لأنه يضره ، كما في آية سورة النساء . فيتضح أن الله تعالى أرشدنا إلى الأكمل لحال المريض والأصلح لمقامه ، لا العكس  .

 وفي جامع الترمذي مرفوعاً : ” إذا دخلتم على المريض فنفِّسوا له في الأجل ، فإن ذلك لا يردُّ شيئاً، وهو يُطيِّب نفس المريض ” وإسناده ضعيف .

لكن يقوِّيه ما جاء في البخاري مرفوعا ً : ” لا بأس طهور إن شاء الله ”  .

أما إن كان إهداء الكفن للمريض يُقصد به تذكيره بالمعاد ، فهذا قول وجيه وله حظٌّ من النظر ، ومحلُّه أن يكون المريض يشتكي من مرض لا يُرجى برؤه ، ويعلم بدنو أجله من حاله وقرائن مرضه ،فيكون إهداء الكفن رسالة له بحسن الظن بالله والتجرد إليه ، وتذكر الآخرة والتزود بما تيسر من عمل صالح في آخر أيامه المعدودة   .

وقد ألمح القرآن إلى هذا المعنى في قول الله تعالى : ” كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموتُ إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين ” ( البقرة : 180 )   .

لكن من تأمل أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم مع المرضى عامة وأطال النظر فيها ، وجد أنها تعتني بالدعاء للمريض وتعاهد ثقته بربه وحسن الظن به  وكتابة وصية من يخاف على ماله من الضياع والشقاق ،كما في حديث أم الفضل رضي الله عنها ، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما المشهورين . فما زاد عن هذه الآداب يُعدُّ عبادة توقيفية ، وعلى المدَّعى الدليل المثبت لدعواه . والله الهادي   .

وأختم بفائدة عن فقه ابن عباس رض الله عنهما – في تصحيحه لأفعال الناس – – وهي ردُّه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه : ” من حمل جنازة فليتوضأ ” مُعلِّلاً بأن الوضوء لم يثبت شرعاً من حمل عِيدانٍ يابسة ، معتذراً من وهم أبي هريرة رضي الله عنه .

هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات   .

8/24 1435هـ