بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..

قبل أسابيع مضت اتصلت بي إحدى طالبات العلم المجتهدات ،من ذوي الهمة العالية ،تطلبُ أن تقرأ عليَّ في الهاتف،كتاب” لُّب الأصول “للعلامة زكريا الأنصاري(ت:926ه) رحمه الله تعالى.

ولسان حال هذه الأخت الأصولية يقول:

لأستسهلن الصعب أو أُدرك المنى.. فما انقادت الآمالُ إلا لصابر.

وبحمد الله تعالى وتوفيقه قرأت عليَّ الأُخت الكريمة في الهاتف كتاب ” لب الأصول “كاملاً ،مع التصحيح والمراجعة للمتن في أسبوعين كاملين،وقد أجزتُها بتدريسه وبيان فوائده لطالبات العلم.

ولعل هذا العمل من الوقف الذي لا ينقطع أجره إن شاء الله تعالى.

وهذه القراءة من الأخت الكريمة يسميها المحدثون ” العرض ” ، وهي من أقسام تحمُّل الرواية ،والغرض منها التصحيح ومراجعة المعاني وضبط الفهم، والرواية بها صحيحة وجائزة عند جمهور العلماء،سواء كان القارىء يقرأ من حِفظه أو من الكتاب الذي بين يديه. وشرطها أن يكون الشيخ المقروء عليه حافظا ًضابطاً ،أو يطالع أصلاً صحيحاً لا مرية فيه .

وطالب العلم الذي لا يقرأ على أهل الفن ولا يجرد الكتب المهمة على أهل الشأن،طالب بليد عاقبته ليست حميدة إلا أن يشاء الله تعالى.

قال يحيى بن معين رحمه الله تعالى:” أربعة لا تأنس منهم رشداً: حارس الدرب،ومنادي القاضي ، ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث” .(علوم الحديث:246) .

والإفادة من مواقع التواصل الحديثة في الفهم تقوم مقام الرحلة في غالب أمرها ، والقراءة الصحيحة  على الشيخ من التصحيح ،ويقصد به ما يُصحِّحه القارىء على الشيخ حين العرض عليه أو السماع منه، من فهم ضابط أو تجلية معنى أو شرح مبهم ،وقد فصَّل العلماء في صوره وأحواله ،كما في (تدريب الراوي:2/82) .

كتاب” لُّب الأصول” للعلامة زكريا بن محمد الأنصاري(ت:926هـ) رحمه الله تعالى، من مهمات المتون الأصولية في المذهب الشافعي ، وهو في الأصل مختصر لكتاب “جمع الجوامع ” لعبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي ابن السبكي(ت: 771هـ) رحمه الله تعالى.

و” جمع الجوامع ” مستخرج من مئة كتاب أصولي، حلاَّه مؤلفه بتقريراته وترجيحاته وترجيحات والده رحمهما الله تعالى .

وعند إمعان النظر نجد أن ابن السبكي اختصر وزاد ورجَّح وهذَّب من كتب الأصوليين  والفقهاء والمحدثين والمتكلمين. فكان كتابه ” جمع الجوامع ” زبدة لكل أصولي يرغب النهل من موائد الشريعة .

وقد تناول المؤلف في لبِّه المسائل الأصولية في مقدمة  وخاتمة ،وسبعة أقسام وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس والإستدلال والتعادل والترجيح والإجتهاد .

والمقدمة رقم فيها معنى الأصول والفقه والحكم ،والفرق بين الفرض والتكليف ،ونحوها من المصطلحات المهمة التي يجب فهمها وتصورها قبل التعريج على المسائل الرئيسة . َ

أما الخاتمة فقد تناول فيها معنى التصوف وأحوال المكلف الظاهرة والباطنة ، وما يتعلق بذلك من محاسبة ومراقبة ونحوها من المعاني الشرعية .

ومناسبة التذكير بآداب التصوف في آخر المتن الأصولي يقصد به أمران: الأول: أن مسائل وقواعد الفروع في جملتها لا تكون وسيلة إلى زيادة الإيمان والطاعة ،فلا بد من محرك لتغذية الضمائر بنور الوحي،ولا يكون ذلك إلا بالرقائق والنصائح النبوية اللطيفة .

الثاني: يجب على طالب علم الأصول أن يراعي أحوال قلبه ونفسه ، كما يراعي أحوال ذهنه وفكره. وهذا الأسلوب من الشيخ زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى ، أسلوب تربوي ونفسي لا يتفطن إليه إلا القليل من أهل العلم الربانيين .

ولأهمية الكتاب عند مؤلفه وعند أهل زمانه ،فقد شرحه في كتابه ” غاية الوصول إلى شرح لب الأصول”، بيَّن فيه الغامض وقرَّر القواعد والأدلة بأسلوب لطيف بديع، قد لا يوجد في غيره من المؤلفات الأصولية .

فلب الأصول بلا شك ،له قيمة علمية لا تخفى على الدارسين والمتأملين ،ففيه زبدة الكتب الأصولية الطويلة، وبه خلاصة المسائل التي في الشروح والحواشي.

ولو جمع الطالب بينه وبين شرحه فقد نال الغاية القصوى في فهم المسائل الأصولية ومعرفة ثمراتها ومناط الأحكام فيها.

ومؤلف الكتاب كغيره من علماء عصره ،لم يستطع نبذ المصطلحات الكلامية والمنطقية في متننه رغم التهذيب والإختصار مثل: الجوهر والعرض والمعدوم والاسم والمسمى والجوهر الفرد والعرض ،وفساد الاعتبار وفساد الوضع والقول بالموجب والكسر وعدم العكس وعدم التأثير والمركب والموضوع والأمر النفسي .

وهذه المصطلحات لها علاقة وفائدة في الرد على الطوائف والفرق المضلة،لكن الإغراق في مسائلها يلهي ويشغل عن مسائل الشريعة وأدلتها والفوائد المستنبطة منها، وهذا يعرفه كل مشتغل بأصول الفقه قديماً وحديثاً. .

وقد اعتنى المؤلف رحمه الله تعالى في كتابه” لب الأصول” بقضية التصحيح والترجيح،فلا تطالع صفحة أو فقرة كاملة إلا وتجد فيها ميلاً إلى قول معين صحَّحه أو رجحه على غيره من الأقوال .وقد كرَّر كلمة ( الأصح ) في متنه (223) مرة.

واختيارات زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى في كتابه ” لب الأصول ” بلغت (14) اختياراً، في المسائل الأصولية والفرعية والعقدية .

وقد أشار في أول المتن إلى أنه اختصر ” جمع الجوامع ” رغبة في تحصيل المعتمد من الأقوال،وحذف غيره من الضعيف والشاذ.وأبان في ” غاية الوصول ” إلى أنه سلك في الترجيح للمسائل الأصولية  تقريرات العلامة جلال الدين المحلي(ت:864هـ) رحمه الله تعالى،من خلال كتابه ” البدر الطالع في حل جمع الجوامع” .

والشيخ رحمه الله تعالى يقرر القواعد والضوابط في محلها المناسب،وهي كثيرة في اللب مثل: قاعدة الحسن والقبح وقاعدة الفرق بين التصور والتصديق وقاعدة المرسل وقاعدة ما يبُنى عليه الفقه ،وقاعدة ما لا يضر جهله وتنفع معرفته ،وقاعدة تعاقب أقوال المجتهد ، وماذا يقدم منهما ؟ ،ونحوها من القواعد العملية كما في مسائل القوادح. وقد أورد الشيخ ضوابط المصطلحات والحدود الأصولية مثل ما رقمه في أول المتن عن المقدمات الضرورية في علم الأصول ،وما رقمه في كل مسألة لها تعلق بالمفهوم والإصطلاح ،وهي كثيرة جداً في لب الأصول.

وفي المتن عناية بالدليل النقلي والعقلي ،كما في مسائل المجمل ،فقد استدل بالكتاب والسنة ،وبين المعاني المتعلقة بالوحي،وكما في  مسائل التقليد ، وكما في آخر سطر في المتن فقد ختمه بآية كريمة من سورة النساء (آية : 69).

وفي مسائل المنطوق والمفهوم ومسائل القوادح  ومسائل الاستصحاب ومسائل الإستدلال ،استدل الشيخ بأدلة العقل في الربط بين الدلالات والقياس بين الأصل والفرع ،والإفادة من ذلك في معرفة الأحكام واستخراجها .

وفي لب الأصول وصايا وتنبيهات لطلاب علم الأصول ،كما في أول مسائل  الكتاب العزيز ،القرآن الكريم ،فقد أوضح أنه لا يجوز ورود ما لا معنى له في الكتاب والسنة ، وفيه تذكير لأهل المناظرة للوصول إلى الحق ، كما في أول مسائل القوادح ، وفيه تذكير بأهمية تعظيم الشريعة ،كما في تكفيره لمن جحد معلوماً من الدين بالضرورة كما في آخر مسائل الإجماع .وفي آخر المتن في مسائل تطهير الباطن،رقم الشيخ وصايا تكتب بماء الذهب،وهي من نفائس هذا الكتاب المبارك .

وفي متن لب الأصول تمرين لطلاب علم الفقه والأصول بالأمثلة،لفهم الأدلة واستخراج دلالات الأحكام ، مثل قوله:” علي عشرة إلا ثلاثة”و” قطعت أصابعه من الخنصر إلى الإبهام”و”بحثتُ فلم أجد موهم مناسبة” و”الجمعة صلاة مفروضة فلم تفتقر إلى إذن الإمام كالظهر” ،وقد بين دلالاتها  ومعانيها، وغيرها من الأمثلة المختصرة التي ضمَّنها بين معاني المسائل.

والشيخ زكريا  رحمه الله تعالى يُقرر المسائل الأصولية على مذهب الأشاعرة المتأخرين،وقد أثنى في لب الأصول على الإمام أبي الحسن الأشعري (ت:  324هـ )رحمه الله تعالى ،وأثنى على الإمام أبي القاسم الجنيد (ت: 297 هـ )رحمه الله تعالى،فالأول عند الأشاعرة عمدة في الأصول العقدية، والثاني عمدة في الأصول القلبية التربوية.

وفوائد الكتاب ونفائسه كثيرة جداً،وليس من رأى كمن سمع! . وسيصدر بتحقيقي  قريباً ،إن شاء الله تعالى طبعة جديدة من ” لب الأصول ” محققة على مخطوطة مقروؤة على زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى.

والشيخ زكريا رحمه الله تعالى إمام وعالم ،كان قدوة يجمع بين العلم والعمل ، وكان مجداً مجتهداً في طلب العلم ،رغم ضعف حاله وفقره في أول حياته، فقد كان يأكل قشور البطيخ التي يجدها عند أماكن الوضوء ، من شدة جوعه وقلة ذات يده.

وإنني أوصي طلابي دائماً بالإفادة من كتب الأشاعرة ،كما أوصي بالإفادة من كتب أهل الحديث ،مع ضرورة التمسك بمصنفات السلف ، والتلطف مع الموافق والمخالف ،فإن هذا الدِّين متين ،فأوغلوا فيه برفق ، وأوصي بتوقي الزلات العقدية في كتب العلماء، مع الثناء والدعاء لهم ،مع ضرورة مراجعة كتب العقيدة على مذهب أهل الحديث،وما لا يُدرك كله لا يترك جله .

نسأل الله أن ينفع طلاب العلم بهذا الكتاب المبارك ،” لُّب الأصول “،وأن يسكن الشيخ زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى ،الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يحفظ علمائنا جميعاً، وأن يهديهم ويسددهم للحق والخير.وأن ينفعنا بعلومهم ووصاياهم ،وأن يجعلنا من أتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم المتمسكين بسنته العاضين عليها بالنواجذ ،وأن يحيينا ويميتنا على السُّنة الصحيحة ،وهذا أغلى أمانينا .

هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

1442/4/19