لم يمت حمدون حتى علا المكفوف !
بالأمس في هزيع من الليل سمعتُ عبر المذياع ترجمة للأديب القيرواني : عبد الله بن محمد النحوي (ت : 308هـ ) رحمه الله تعالى ، صاحب مدينة ” سُرت ” ، وقد كان يرُحل إليه من جميع إفريقية والمغرب ، وقد كان ضريراً مشهوراً بالحفظ والضبط والفصاحة.
وكان يُجالس محمد بن إسماعيل الملقب بحمدون النعجة) ت: بعد المائتين) رحمه الله تعالى ، أحد مشاهير النحوييِّن والأدباء في عصره ، ومن حُفاَّظ كتاب سيبويه .
لم تأسرني الترجمة – مع التقدير للعَلَمين المترجَمين -بقدر ما أسرتني مقالة الزبيدي (ت: 379هـ ) رحمه الله تعالى حين قال معلِّقاً على ترجمتهما: ” لم يمت حمدون حتى علا المكفوف ” ! .
- وهذه المقالة فهمت منها الدروس الآتية :
1- الألقاب العلمية والرناَّنة من الفتن التي أُبتلي بها العالم الإسلامي منذ قرون إلى يومنا هذا ، والعبرة بالعلم مع لزوم السنة. والإعتماد على المؤهَّل العلمي أو التزكية العلمية أو كثرة الأتباع ، من أسباب الجمود في الترقِّي في العلم والعبادة ، وهذا مشاهد ويعرف بالاستقراء والتجربة. وقد قال الله تعالى : ” ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنَّ الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ” ( العنكبوت : 3 ) ، ولو تمَّ نخل من يحمل الألقاب العلمية بميزان القِسط لرأينا عجباً من الغرائب. والله لطيف بعباده . وقد تقرر عند الأصوليين أن الوصف المناسب إذا لم يدل الدليل على اعتباره فإنه يسمى غريباً فيجب طرحه وعدم اعتباره . وقد قال الناظم :
فقدم الأخصَّ ،والغريبُ
ألغى اعتباره العليُّ الرقيبُ .
2- الإعاقة الحركية والبدنية من النِّقم التي ينُعم الله بها على بعض خلقه لتزكية نفوسهم وتهذيبها ورفع مراتبهم على غيرهم من الأسوياء . وكم من مُعوَّق في بدنه فتح الله عليه فتوحات من العلوم والمعارف الإيمانية ؟! .
وفيي الإعاقة تدبير لطيف من الله لتفهيم الخلق معاني التعلُّق بالله تعالى.
وفي ترجمة حسان بن ثابت رضي الله عنه تأصيل لهذا المعنى ، فقد كان في بعض مراحل حياته كفيفاً ، وأُصيبت يده بالمرض فلم يقدر على استعمالها لتضرره من ذلك ، لكن الله أنعم عليه بنور البصيرة وقول الحكمة والتمييز بين الحق والباطل .
3- ملازمة النابهين من أسباب شحذ الهمم وتربية الذات والسمو بالنفس لمعالي الأخلاق . وإذا تعذَّرت الملازمة لفساد الناس في زمن من الأزمان ، فالعزلة أوجب وأحوط مع التعلق بأسباب الرجاء وإدمان النظر في المصحف .وقد قال الله تعالى : ” يوم تجدُ كُّل نفسٍ ما عملت من خيرٍ مُحضرا ” ( آل عمرن : 3 ) . وإذا كان أمر الصبيان مندوب لشحذ الهمم ، فإن الملازمة آكد وأولى كما في قول الناظم :
والأمر للصبيان نَدْبه نُمي
لما رووه من حديث خَثعمِ
4- مدرسة سيبويه (ت: 180هـ ) رحمه الله تعالى مدرسة تُربِّي الهمم لمن تأمل . فهو رجل فارسي استطاع بتوفيق الله ثم بعزيمته هزيمة الإحباط واليأس الذي اعترض بعض مراحل حياته . فقد كان سيبويه في أوَّل حياته بليداً وفي لسانه حُبسة ، واتجه إلى دراسة الفقه والحديث حتى خطّأه حماد بن سلمة البصري( ت: 167هـ) رحمه الله تعالى ، ثم قصد تعلم النحو ولازم مجلس حَمَّاد الذي كان يستملي عليه سيبوبه الأثر المروي : ” ليس من أصحابي أحدٌ إلا لو شئتُ لأخذت عليه ليس أبا الدَّرداء” ، فقال سيبويه: ” ليس أبو الدَّرداء” ـ
فقد ظنّه اسم ليس، فصاح به حمَّاد : لحنتَ يا سيبويه، ليس هذا حيثُ ذهبتَ، إنما هو استثناء، فقال سيبويه: لاجَرَم والله لأطلبن علماً لا تُلَحِّنَنِّي فيه أبداً .
5- الفقر والحاجة محطة يتعَّلم منها الإنسان أن الإرادة الصلبة لا يقف أمامها عوائق أو مصاعب . والتربية الحديثة اليوم لم تلتفت إلى هذا الأصل ، ولهذا يعجز كثير من الناس اليوم عن بلوغ الهدف لاستغنائهم بالنعيم والملذات . والواجب الشرعي يُحتِّم على المسلم أن يُجرِّب الكدَّ والمشقة ويترك التنعم والرفاهية أحياناً ،لتدريب النفس على ملاقاة المتاعب وسبر أغوارها . وبعض الناس لا يعرف نعم الله عليه حتى يذوق أضدادها ! .
6- بعض العلوم والمسائل لا يرسخ فهمها إلا بالسفر والرحلة . فقد ثبت بالتجربة أن الحركة الدؤوب تفتق أبكار المعضلات ، ولله في ذلك حكمة . وكتب المشيخات والرحلات دليل على صحة هذا الإتجاه . وصدق الله تعالى : ” ولمن جاء به حِمل بعير ” ( يوسف: 72 ) .
7- الموت رسالة للإنسان أن قيمة المرء بعمله وهمته ومقصده . وكتب الوفيات والتراجم دليل على هذا المعنى . فتجد في أنساب العلماء : الخراز والنجار والجصاص والساعاتي ، وهي مهن ووظائف لهم ، لكن خلَّد ذكرهم العلم والفقه لاشتغالهم به وتبليغه .
8- مجالسة أهل العلم طريق للمسابقة إلى الخيرات والفتوحات الربانية . وفي التراث الإنجليزي ترد هذه العبارة اللطيفة :
First come . first served .
ومعناها : من يسبق يستحق الضيافة ! .
وهي تشبه المثل العامي الشهير القائل : من يسبق يأكل فستق ! .
وهؤلاء الأعلام اسيقظوا حين نام غيرهم ، وصعدوا في سماء العلم وبقي آخرون في أسفلهم لم يرفعوا رأساً ولم يصنعوا مجداً .وكلاهما يقول : إنا وجدنا آباءنا على أُمَّة ! .
9- سبب شهرة الأعلام قديماً حبهم للعلوم مع نية صادقة لغيرهم مع إحسان الظن بالله تعالى . وشهرة الأعلام حديثاً – في الغالب – بعكس هذا ، والواقع ينطق بما في الضمائر .ولهذا ظهرت عقوبة الله على بعض خلقه بكثرة الكتب وقلة البركة في العلم لفساد النيات ، عياذاً بالله تعالى . والسلف الصالح طلبوا العلم بنية التقرب فصار واجباً بهذا الاعتبار في حقهم ، والخلف طلبه بعضهم لا للمدح ولا للذم بل لكونه مباحاً ، فلهذا ارتفعت بركته . وهذا المعنى متقرر عند الأصوليين .
10- من ثمرات التحقيق الأصولي لتراجم الأعلام أن يفهم المسلم أن العزة والسيادة ليست بما يبذله المرء من جهد ، بل ببذله ما ينفعه وينفع غيره من خير وتوطئة للناس لتقوية عزائمهم للنصح لدين الله والعمل به . فترك الفاضل والإشتغال بالمفضول ضلال في المنهج ونقص في العقل . ومن مات على خير يبذله للسنة وأهلها فاسمه باقٍ وإن زال رسمه . وقد كان الخليل الفراهيدي ( ت: 170هـ )رحمه الله تعالى يقول : “إنِّي لأُغلق عليَّ بابي، فما يُجاوِزُه هَمِّي ” . وهذا هو تخريج المناط بعينه في معرفة حق النفس وقدرها .
والمقصود أن التسلح بسلاح الفقه في أول العمر وآخره من علامات كمال العقل ، وهو حصانة من الزيغ في النوازل والمسائل ، وسبيل إلى حسن الخاتمة ،. وبالله التوفيق .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
1/ 8/ 1435ه