من الطرائق التي قصَّر فيها بعضُ طلبة العلم اليوم: استظهار المتون والكتب المهمة ،التي تُعين على فهم القواعد والأدلة.
وكلما تشاغل طالبُ العلم عن هذه المهمة ،لحقه النقصُ من حيث يدري أو من حيثُ لا يدري، كما قال الشاعر:
لا تبخلن فإن الدهر ذو غِيرٍ…والذمُّ يبقى وزاد القوم في حُور.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال : الحرب خُدعة، كما في الصحيحين ، فإن التسويف أيضاً خُدعة، لكنه للنفس الكسولة المتراخية عن طلب الهِمم العالية.
الشيخ عبد الواحد شابٌ هندي ألمعيُّ، زارني قبل جائحة كورونا بقليل، كان يقرأ عندي كتاب مرقاة الوصول لابن فراموز (ت: 885هـ) رحمه الله تعالى.
هذا الشاب الهُمام يدرُس في الحرم المكي ،ويعمل أحياناً في فنادق مكة عند أحد التجار الهنود المستثمرين.
من نوادر هذا الشاب الذكي أنه درس الفقه والأصول دراسة متوسطة في الهند عند أحد المعلمين المحتسبين في حيدر آباد .
وحين طلب القرآءة عندي ،استأذنته أن اختبره في مسائل علم الأصول ،على مذهبه.فإن كان قليل الخبرة طلبتُ منه قراءة المختصرات، وإن كان العكس أفدته بما يرغب الإفادة منه من المطوَّلات.
فابتسم لي وقال باللهجة المحلية الدارجة: خذ راحتك يا شيخ . فوجدته ذكياً مستحضراً لهذا العلم وكلياته وقواعده وملماً بمهماته.
وقد سألته عن سبب تفوقه وسر سرعة تحصيله مع صغر سنه،فقال لي: السبب هو طريقة الدراسة عندنا في إحدى قرى الهند وهي كالتالي:
تقسيم كتاب مرقاة الأصول على ستين مجلساً ،كل مجلس ثلاث صفحات،وكل صفحة منها نكررِّها ثلاثين مرة ،وهكذا حتى ننتهي من الكتاب كله.
ثم نبدأ في الشرح وهو مرآة الأصول لابن فراموز نفسه ،كل يوم ثلاث صفحات نكرر معانيها ثلاثين مرة، ثم يبدا المعلم أو الشيخ بتبسيط المعاني مع الأمثلة والأدلة
حتى تستقر في أذهاننا ونهضم مقاصدها وفوائدها.
يقول : وبعد الفراغ من الكتاب نبدأ بالفقه بنفس المنهجية السابقة في الأصول، نبدأ بمختصر القدوري ونفهم معانيه وأدلته ،ونستعين بما تعلَّمناه في الأصول حتى نلحق الفروع بالأصول.
وقد سألته كم عدد الطلاب الذين يصبرون على هذه المنهجية في الهند ؟ ، فقال: قلَّ من يتراجع أو ينسحب من هذا الميدان ،إلا من كان مريضاً أو خطفه الموت،لأن من شروط هذه المدرسة الصبر والحزم ،والممارسة العملية والعلمية لفنون العلم.
لقد استطاع عبد الواحد أن يستظهر علم الأصول في مذهبه في شهر واحد حفظا ًًوفهماً أولياً ،بسبب اجتهاده وألمعيته ،واستطاع في شهرين أن يقرأه على معلِّم ضليع بالفن ،وهذه نعمة يُغبط عليها من وفقه الله تعالى لهذا العمل.
من الطرق المحكمة والمفيدة التي تعلَّمها عبد الواحد في الهند وأفادته كثيرا في علم الأصول : شراء دفتر كبير ،وتقسيم كل صفحة من صفحاته إلى ثلاثة أقسام: أعلى الصفحة ووسطها وأسفلها.
ففي الأعلى يكتب ثلاثة أسطر من المتن،وفي الوسط يكتب المعنى الإجمالي، وفي الأسفل يحرر الدليل والتعليل والقاعدة على وجه الإيجاز.
هذه الطريقة ممتازة ونافعة جداً، وهي مشهورة في بلاد الهند وباكستان وموريتانيا ،وغيرها من بلاد الإسلام.
لقد رأيتُ في أخي عبد الواحد الجدَّ والإجتهاد والورع ،وحبَّ العلم وأهله،مع أدب وسماحة نفس.زاده الله وزادنا من فضله وإحسانه.
أما الأسئلة التي اختبرته من خلالها فهي ستة: ما وجه الإستدلال بقول الله تعالى:” يُبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً”( الممتحنة: 12)؟ ، فأفاد بأن حرف على في الآية تدل على الشرط .أي ما بعدها شرط لما قبلها .
وسألته عن مراتب الخفاء فأفاد بأنها أربعة: الخفي والمشكل والمجمل والمتشابه.
وسألته عن حكم قراءة القرآن بالفارسية،فأفاد أن القادر على العربية يحرم عليه القرآءة بغيرها،وقد تراجع أبو حنيفة(ت: 150هـ ) رحمه الله تعالى عن قوله بجواز قرآءة القرآن بالفارسية مع القدرة على القرآءة بالعربية.
وسألته عن حديث الوضوء بماء البحر من أي أنواع الحديث؟ ،فأفاد بأنه من المتواتر.
وسألته عن موانع العلة فقال إنها ثلاثة: ما يمنع انعقاد العلة وما يمنع تمام العلة وما يمنع ابتداء الحكم. ونسي الرابعة وهي : ما يمنع دوام الحكم.
وسألته عن الترجيح بين قياسين كيف نعمل بهما ؟، فأفاد أنه لا بد من الترجيح ،فإن تعذَّر الترجيح نعمل بشهادة طمأنينة القلب،وهو صحيح ،لكن الأصح العمل بالبرآءة الأصلية .
الشيخ عبد الواحد لا يحفظ القرآن،وقد عاتبتهُ في ذلك،فاعتذر بسرعة النسيان وتفلُّت كلام الرحمن. لكنه مواظب على القرآءة والتدبر لآياته كل يوم.
وقد أوصيته بثلاث وصايا وشدَّدتُ عليه فيها : حفظ القرآن المجيد ، وأن يقرأ العقيدة الطحاوية على معلِّم ضليع ، حتى يجمع بين الأصلين: أصول الدين وأصول الفقه،وأن يطالع كتاب زبدة الوصول للكرماستي(ت: 906هـ) رحمه الله تعالى.
فإن اشتغل بهذه الوصية وعمل بها ،فسينال من خير الدنيا والآخرة ما لا يمكن التعبير عنه من الفلاح والنجاح ، إن شاء الله تعالى.
والمقصود من هذه القصة أن بين أظهرنا من الشباب المسلم من يتوقَّد ذكاءاً وفهماً وألمعية، فيجب علينا تشجيعهم والإقتداء بهم، لعل الله تعالى ان يجعل على أيديهم فتحاً عظيما لأمة الإجابة.
وهذه الهِمة لا تكون إلا بالتدقيق ، وقد أعجبني قول ابن السُّبكي(ت: 771هـ ) رحمه الله تعالى حين قال: ” إن الأصوليين دقَّقوا في فهم أشياء من كلام العرب ،لم يصل إليها النحاة ولا اللغويون”.
وانظر إلى قول أبي عمر الجرمي(ت: 225هـ ) رحمه الله تعالى، حين استولى النحو على قلبه وخواطره : ” أنا أُفتي الناس منذ ثلاثين سنةً من كتاب سيبويه” !.
يقصد أنه يستعين بمعانيه وقواعده على تصحيح الفتوى.
والمتون الأصولية الحنفية وشروحها من أنفس ما تشاغل به طلبة العلم اليوم،لجمال ترتيبها وكثرة فوائدها،لكن العلماء مغمورون وأهل الجهل مقموعون،فنسأل الله أن يرزقنا وإياهم حياة القلب ولذة العِلم وحلاوة مناجاة الحي القيوم ،وما ذلك على الله بعزيز.
هذا ما تيسر تحريره ،والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
1441/2/27