قصة السمكة .. ومناط القبول  !

قبل ثلاثين عاما ًكان أستاذ الفصل رحمه الله تعالى يشرح لنا قصة السمكة الشهيرة . وهي حكاية متواترة يرويها  أدباء العصر عن مؤرِّخي خراسان في ترجمة أحمد بن مسكين أحد الزهاد في القرن الثالث الهجري .

وقصة السمكة طويلة موجزها : أنه كان في البلدة رجل يُدعى أبا نصر الصياد ، يعيش مع زوجته وابنه في فقر شديد  .
وبينما كان مهموما مغموما ً، يسأل الله تعالى الفرج والرزق الحلال، مرَّ على شيخه أحمد بن مسكين يشكو له فقره ، فقال له اتبعني إلى البحر   .
فانطلقا إليه وقال له الشيخ  راغباً في لجوء تلميذه  إلى الله تعالى : صلّ ركعتين   واسأل الله تعالى الرزق الحلال الطيِّب ، فصلَّى ، ثم قال له : سم الله. ثم رمى الشبكة ، فخرجت بسمكة عظيمة ، وقال له : بعها واشتر بثمنها طعاماً لأهلك  .
فانطلق إلى السوق يبيعها ، واشترى فطيرتين إحداهما باللحم والأخرى بالحلوى ، ثم رجع للشيخ ليعطيه من الطعام  .
فردَّ الشيخ الفطيرة قائلاً : هي لك ولعيالك ، ثم أردف : ” لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة ” . والقصة طويلة ، وهذه خلاصتها .

وهذه القصة تشبه قصة تُعزى لشقيق البلخي (ت:194هـ ) وإبراهيم ابن أدهم (ت:  162هـ )رحمهما الله تعالى ، وهما من المشهورين بالزهد والصلاح ، وخلاصتها أنه قدم شقيق البلخي مكة وإبراهيم بن أدهم بمكة ، فاجتمع الناس ، فقالوا : نجمع بينهما . فجمعوا بينهما في المسجد الحرام ، فقال إبراهيم بن أدهم لشقيق :
يا شقيق ! على ماذا أصَّلتم أصولكم ؟

فقال شقيق : أصَّلنا أصولنا على أنا إذا رُزقنا أكلنا ، وإذا منعنا صبرنا .
فقال إبراهيم بن أدهم : هكذا كلاب بلخ ! : إذا رزقت أكلت وإذا منعت صبرت    .
فقال شقيق : فعلى ماذا أصَّلتم أصولكم يا أبا إسحاق ؟
فقال : أصَّلنا أصولنا على أنا إذا رزقنا آثرنا ، وإذا منعنا حمدنا وشكرنا
قال : فقام شقيق وجلس بين يديه ، وقال : يا أبا إسحاق ! أنت أستاذنا  .

القاعدة عند الأصوليين أن الملة واحدة والشرائع مختلفة ، ولهذا وجبت معرفة الحق من كل طريق جاءت به الرسل عليهم السلام .

واستقراء الأدلة ونخل المؤلفات يعين على فهم مراد الله تعالى ، لأن العبرة بالمعاني لا بالمباني  .

   لو نظرنا في الكتاب العزيز لوجدنا أن الله تعالى يعلِّق القبول على التقوى لا على مجرد البذل والعطاء والقيام بالفعل أو القول  .

 والتقوى اسم جامع لكل خير مع حسن المقصد وتجريد النية للغني – سبحانه – الذي لا تنفذ خزائنه  .  

قال الله تعالى : ” إنما يتقبل الله من المتقين ” ( المائدة : 27  )  . وقال سبحانه : ” لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ” ( الحج : 37  ) .

وقال سبحانه عن ابني آدم عليه السلام : ” فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ”  ( المائدة : 27 ) والذي لم يتقبل منه هو قابيل لأنه تقرب بمال رديء ونفسه به متعلِّقة ، فعاقبه الله لسوء مقصده  .

ولهذا قال الحبيب صلى الله عليه وسلم : ” إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان لـه خالصاً وابتُغي به وجهه ” . رواه الإمام النسائي بإسناد صحيح  .

 

ولهذا أعظم القُرب التي يتقرب بها إلى الله تعالى هي الفرائض التي أوجبها الله سبحانه ليختبر بها حسن مقاصد العباد من ضدها .

فالصيام مثلاً من الفرائض الواجبة وهي ركن من أركان الإسلام ، فإذا صامه العبد وقامه مؤمنًا محتسبًا ما عند الله من الغنائم والأجور مؤثرًا شهواته وحظوظ نفسه ، ممسكا عن الآثام الظاهرة والباطنة ، فإنه يكون محقِّقاً لمراد الله تعالى .

والقاعدة القرآنية أن كل فريضة يتجرد المؤمن للقيام بها مع كمال الذُّل والخضوع فإن صاحبها يعد عند الله من المقبولين . فقد قال الله تعالى عن العاملين المستسلمين لأمر الله : ” أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ”  ( الأحقاف: 16 )  .

وهذه الآية فيها جواز التوسل بالتوبة إلى الله والإنقياد له بالطاعة ، وهي من علامات القبول  .

وبعبارة عصرية مبسطة  القبول يكون بالضبط المعنوي والحسي للقول والعمل والإرادات ، تحقيقا لقول الله تعالى : ” فاعبد الله مخلصاً له الدِّين ” ( الزمر : 2 )  . فكل عملٍ أو قول يظهر بنية صالحة على هدى من الله فهو مقبول ، ولو كان صاحبه من أحقر الناس  .

ولهذا بلغ بلال الحبشي رضي الله عنه منزلة عالية في الجنة بفضل صدقه وتعظيمه لله تعالى وطاعته للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولو كان له مقاصد أخرى لما بلغ ما بلغ  .

ولهذا لما ذم الله تعالى الكفار ووبخهم ، قرنهم بالبهائم التي لا تعقل خبراً ولا إدراكاً ، ” إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل ” (  الأنعام : 44  )   ، لأن الكفار ظاهرهم شر ومقاصدهم سيئة . وهذه سنة الله فيهم  لخبث مقصدهم  .

في مؤلفات القادة العسكريين يروى أنّ أحد الساسة الأجانب وجّه إليه سؤال حول سبب إلقاء القنبلة الذرية على مدينتي (هيروشيما ) و(ناكازاكي) اليابانيتين ، ممّا أدّى إلى مقتل مائتي ألف إنسان بريء ، وإصابة بالعاهات لكثير من الناس ، فقال: نحن فعلنا ذلك من أجل السلام! ولو لم نفعل ذلك لطالت الحرب أكثر، ولذهب ضحيتها عدد أكبر من القتلى!   .

علماء الغرب في العصر الحديث – رغم قلة زادهم –  أقاموا الحجة علينا وعلى أنفسهم بتقريب التقوى بالدلالة إلى أسبابها التي تخفى على كثير من الناس ، فقد حلَّلوا المادة واكتشفوا الذرة والنواة ، حتى قال ألكسيس كاريل : ” إن جميع ما حققه العلماء من تقدم فيما يتعلق بدراسة الإنسان ما زال غير كاف، وإن معرفتنا بأنفسنا ما زالت بدائية في الغالب ، وعلينا أن ندرك أن علم الإنسان هو أصعب العلوم جميعاً ”   .

وهذا المعنى بعمومه صحيح لأن الله تعالى ربط بين معرفته وعبوديته بقوله : ” وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون ” ( الذاريات : 20 ) .

وفي هذا إشارة إلى أن التسلح بالعلم النافع من علامات القبول عند الله تعالى  .

لو عكف مسلم على دراسة خلق الله في النفس والكون لأورثه ذلك من التقوى والخوف من الله ما لا يعلمه إلا الله وحده ، وكان سبباً في قبوله ورفع درجاته عند ربِّه  . ولهذا يوجد عند الفلكيين والأطباء من تعظيم الله ما لا يوجد عند غيرهم في الغالب  .

ختاماً فإن الضب والحوت لا يجتمعان ، كما أن  العمل لله ولغيره لا يجتمعان . وقديماً قال الأصوليون : لا يجوز تأخير الواجب إلى آخر وقته إلا بشرط العزم على فعله .  والله الهادي  .

هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات   .

8/30/ 1435هـ