من المصنفات المنسية اليوم عند فئات كثيرة من أهل العلم ، مُصنفات العلَّامة محمد الأمين الشنقيطي (ت: 1393هـ) رحمه الله تعالى ، ففيها من الكنوز ما لا يُمكن وصفه ، وليس الخبرُ كالمعاينة .

وقبل أيام قرأ عليَّ بعضُ الطلبة كتاب آداب البحث والمناظرة للعلاَّمة الشنقيطي رحمه الله تعالى ، وهو كتاب دسم ومليٌء بالعِلم ، وقد علَّقتُ عليه تعليقات مقتضبة أرجو أن ينفع الله تعالى بها ، وآمل أن تصل لمن يهمُّه أمر الكتاب ، لأن هناك مسائل تجدر الإشارة والتنبيه عليها كما سيأتي أدناه .

وهذا الكتاب طُبع قديماً في حياة مصنِّفه رحمه الله تعالى ، وكان مذكِّرات موجزة تُدرَّس على طلبة الجامعة الإسلامية قبل نصف قرن تقريبا ً، ثم طُبعت عام ( 1388هـ ) ،ثم طُبعت أيضاً طبعات كثيرة ، آخرها طبعة مجمع الفقه الإسلامي عام ( 1426هـ) التي أشرف عليها الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ت: 1429هـ)رحمه الله تعالى.

وقد وجدتُ فيها مواضع مُنتقدة ، طباعية وغيرها ، واستدركتُ عليها ملاحظات علمية .
فلم يعتنِ المحقِّق لها وفقه الله تعالى ، بمصطلحات الكتاب ولا بالتعليق على المواضع المنطقية المهمة ، إلا البعض اليسيرجداً ، ولم يُبيِّن منهج الشنقيطي رحمه الله تعالى في تصنيف الكتاب ، ولم يتعقَّب الشيخ في المسائل المنطقية على وجه العموم ، وهو معذورٌ في ذلك ، والحمد لله على كل حال .

وليس هذا موضع الاستدراك على الشنقيطي رحمه الله تعالى ولا على المحقِّق ، لكنني عن خبرة بالكتاب وتدريسي له ، فقد وجدتُ فيه من المواضع والفوائت المهمة ما تجبُ الإشارة إليه والاعتناء بمسائله ، وهو أمر ضروري جدا ً ، وقد راجعتُ من أجله خمسين كتاباً في المنطق ، بما فيها منظومات منطقية قديمة ، ترجَّح عندي أنها من موارد الشنقيطي رحمه الله تعالى ، ولم يُشر إليها المحقِّق الفاضل .

• موضوعات الكتاب :
الكتاب عبارة عن قسمين : المقدِّمة المنطقية ، وآداب البحث والمناظرة ، لكنه عند التحقيق كتاب واحد وهو المقدِّمة المنطقية وأصول الجدل .

ولعل سبب تسميته بآداب البحث والمناظرة : نُفرة أهل العلم في بلاد الحرمين ، من مصطلح المنطق وسوء ُسمعته ، وعدم أهلية طلبة العلم للتعامل مع قضاياه ، فناسب أن يُسمِّي الشيخ كتابه بالبحث والمناظرة ، بدلاً من أصول المنطق والجدل . وهو محقٌ في ذلك ولا لوم عليه ، بل هو من الفقه في دين الله تعالى .
الكتاب عميق جداً ولا يفهمه إلا الخاصة من طلبة العلم ، وقد اشتمل على المسائل الآتية :

أنواع العلم الحادث ، التصور والتصديق ، التصورات الأربعة ، الموضوع والمحمول ، الفكر والنظر ، الدلالة وأنواعها ، أنواع الدلالة الستة ، العقل والوضع والطبع ، المفهمات الأربعة ، الخط والإشارة والنصب والعقد والنصب ، أقسام الدلالة اللفظية الوضعية ، المطابقة والتضمن والالتزام ، الزوجية ، أنواع اللوازم ، خلاف البيانيين والأصوليين في الدلالات ، اللفظ المركب والمفرد، الكلي والجزئي ، الفرق بين علم الجنس واسم الجنس ، الجزء والجزئية ، النِّسب الأربع ، المخالفة والمقابلة ، العدم والملَكة ، الكليات الخمس ، أقسام الجنس القريب والبعيد ، أنواع المعرفات ، شروط المعرفات ، القضايا وأنواعها ، أنواع المبالغة ، الكم والكيف ، أقسام السور ، التناقض ، العكس وأنواعه ، الحد وأنواعه ، القياس الاقتراني ، القياس الاستثنائي ، المقدمة الكبرى والصغرى .
الكُلي وجزئياته ، التقسيم الجعلي والقطعي ، الكل والكلي ، التعريف اللفظي والتنبيهي ، التعريف الحقيقي والاسمي ، القضايا الخارجية والحقيقية ، التصديق البديهي والنظري ، التصديق الجلي والخفي ، الحدسي والمتواتر ، المكابرة ، التنبيه ، الغصب ، السند اللِّمي والقطعي والحلي ، النقيض والدعوى ، وظائف المعلل ، النقض وأقسامه ، المعارضة وأقسامها ، المؤثر وأقسامه ، تصحيح النقل ، الرابطة ، القوادح ، المنع ، فساد الوضع والاعتبار ، التقسيم ، القول بالموجب ، صفات الله تعالى والرد على مُنكريها ، لوازم مذهب الخلف .

• منهج الشنقيطي والملاحظات عليه :
الكتاب مفيد وحافل بالدُّرر، لكن لا يمكن للقارىء العادي ولا طالب العلم المتوسِّط أن ينتفع به إلا بمعرفة منهج الشيخ في تصنيفه .
ومنهجه فيه يُمكن ايراده في الآتي :

1- يذكر المسألة المنطقية ويشرحها في اللُّغة والاصطلاح .
2- يُدلِّل على المسألة من الكتاب العزيز أو من أشعار العرب أو من واقع الناس .
3-ي تعقَّب ويستدرك بعض المنطقيين على حسب المناسبة .
4- أمثلة الشيخ متوسِّطة في كثير من المواضع ،وفيها استطراد مُمِل لبعض المسائل ، ولعل السبب أن المذكِّرة كانت خاصة بالطلبة ، فهي منهجية بالدرجة الأولى ، فعليه يجب قراءة الكتاب على معلم حاذق لتحصيل درره وفوائده .
5- الأدلة من السنة الشريقة نادرة جداً ، وهذه من مآخذ كتب المنطق عموماً .
6- يوجد اغراق ومبالغة في مناقشة بعض المسائل المنطقية مما سبَّب حشواً يحول بين الكتاب والعناية به . فالكتاب يقع في أربعمئة صفحة ، ويمكن للذكي اختصارهُ وتبسيطه في مئة ورقة فقط .
7- الشيخ رحمه الله تعالى على جلالة قدره ، لم يتلقَ علم المنطق على مشايخه أثناء الطلب ، إنما طالعه ودرسه ذاتياً ، فقد مكث ستة أشهر لا يخرج من البيت إلا للصلاة حتى فهمه ،كما شهد بذلك ابنه عبد الله ، وهذا مشهور ومتواتر عنه .
فيجب موازنة ترجيحاته واستنباطاته بموازين من نقض المنطق ، لمعرفة مواضع القوة والضعف فيها ، وهذا من الدِّيانة والأمانة .
8- الكتاب لا يكفي للإحاطة بمسائل المنطق والجدل ، فيجب قراءة استدراكات العلماء والمحقِّقين على الأدلة المنطقية والأُصولية لمعرفة مواضع الخلل عند الأصوليين والمناطقة ، لكن من حسناته أنه يعتني بفقه المسائل ، وهذه من فرائد الشنقيطي بلا خِلاف .
9- توجد في الكتاب مبالغة في تصوير مسائل المنطق من ناحية التفخيم والتوسيع للحدود والألفاظ المنطقية ، فيجب تنبيه المتلقِّي لهذا العلم لهذه الفائدة المهمة .
10- من عزم على قراءة كتاب الشنقيطي ، فأنصحه قبل البدء بضرورة فهم سُلَّم الأخضري ، ثم فهم كتاب آداب البحث والمناظرة لمحي الدين عبد الحميد ، فإنهما مهمان جدا لتبسيط مسائل الفن.

• نقد المصطلحات المنطقية في الكتاب :
كل كتب المنطق القديم منها والحديث لا يمكن التسليم بمسائلها ومباحثها ، فهو في الأصل علم يوناني مُترجَم له وعليه ، وهذه الملاحظات على المصطلحات المنطقية في جُّل كتب المنطق ، فيجب ملاحظتها عند تأمل المسائل :

-1- أشار أرسطو الى أنواع القياس الاستقرائي والجدلي والخطابي، لكنه اعتنى بالقياس الكُّلي الشُّمولي الصُّوري ، وقد سمَّاه القياس البرهاني .
وطريقة ارسطو في استخدام هذا القياس تتمثل في : الاستقراء من الجُزء إلى الكل ، ثم جمع الجزئيات للظاهرة الواحدة وتحليلها وتمحيصها ومقارنتها ، ثم الاستنتاج منها وبذلك يخرج لنا النتيجة أو القياس الكلي البرهاني .
وقد أشار أرسطو إلى قاعدة مهمة في كثير من كتبه وهي : ضرورة ممارسة القياس الإستقرائي مع الصغار وأحياناً مع العوام ، أما القياس الصُّوري الإستنباطي فيكون مع المختصين فقط .
وهذه مغالطة وقع فيها أرسطو ونقلها عنه المُتفلسفة من المسلمين والمستعربين ، وهي أن جميع أنواع الأقيسة فطرية في البشر لا تحتاج إلى قانون لتنظيمها بين أصناف الناس في العادة لسببين ، الأول : أن أنواع القياس مُرتبطة ببعضها ، لأن العلاقة بين القياس الصُّوري والإستقرائي علَاقة فرعٍ بأصلٍ ونتيجةٍ بمقدمةٍ ، فالصُّوري فرعٌ من الإستقرائي ونتيجة لمقدمته .
الثاني : أن موضوع الفِكرة أو البحث هي التي تُحدِّد نوع القياس ، فالعمرُ أو المهنةُ أو جِنسُ الإنسانِ أو صِّفتهُ لا عَلاقة لها بتحديد الأقيسة .

-2- أرسطو يُدلِّسُ ويَخلطُ لأسبابٍ مذهبيةٍ وعلمية بين القياس الإستقرائي والصُّوري ، فالأول هو من الأقيسة الجزئية التي تقومُ عليها كُّل العلوم ، والثاني نتيجةٌ من نتائج القياس الجزئي .
وقد زعم أرسطو أن القياس الصُّوري هو من المُقدِّمات الكلية ، لأنه يعتقد أن الكليات نتيجة للقياس الجُزئي ، وهذا خطأٌ أقرَّ به حتى عُلماء الغربِ اليوم في جامعاتهم وبحوثهم .
والصحيح أن القياسَ يجبُ أن يكون بمعرفة الكُليِّ والجزئيِّ معاً ، لا تقديم أحدهما على الآخر في الذِّهن كما يُقرِّره أرسطو في مصنفاته .

والقاعدة المشهورة التي يُردِّدُها المناطقة : ” لا عِلم إلَّا بالكليات ” قاعدة مَغلوطة تلقَّفها المناطقةُ من التأسيس السابق دون تمحيص وتهذيب لمعناها ومغزاها ، فَضَّل بسببها فِئامٌ كثيرةٌ من أهل المذاهب .
فالصحيح العلِمُ بالجزء ثم العلم بالكُّل . ولهذا نجد في القرآن أدلةً كثيرةً على تقديم الجُزء على الكُّل ، كقول الله تعالى : ” عالِمُ الغيب لا يعزبُ عنهُ مِثقالُ ذرة ٍفي السمواتِ ولا في الأرضِ ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبر” ( سبأ : 3 ) ، وقوله سبحانه : ” وما تكونُ في شأنٍ وما تتلو منهُ مِن قُرآن ٍولا تعملون من عملٍ إلا كُنَّا عليكم شهوداً ” ( يونس:61).
فربُّنا سبحانه يخاطب الخلق أنه يعلم ما يعملونه وما يُشاهدونه ، سواءٌ كان محتقراً عندهم أو عظيماً في عُيونهم وقلوبهم .
ومما يؤكد ما سبق أن صناعة المهن مثلا تبدأ بجزء صغير ثم تكبرُ رويداً رويداً حتى تكتملَ ، كالبِناء والخِياطة وحفرِ البئر وسقي الزرع وكَنس القُمامة ، ونحوها من المِهن والمشغولات .

-3- أرسطو لا يجيز الإستقراء إلا إذا كان بحس وحواس لأنه يعتقد أنه من الكليات ، وأنه أبين وأكثر إقناعاً . وهذا الحكم إفتئاتٌ على أنواع القياس الأخرى وتحجيم وإستصغار لها . والصحيح أن الإستقراء وغيره من أنواع الأقيسة تصح إذا كانت بتأمُّل ورويَّة ونظرٍ ثاقب .

-4- أرسطو جعل المِعيار بين الحق والباطل هو إتقان علم الجدل دراسةً وفهماً ، بغضِّ النظر عن الحقيقة من وراء ذلك ، وسببُ ذلك أنه يعتقدُ أنَّ الجدل علِمٌ ظنِّي لا يُوصلُ إلى النتيجة الصحيحة ، وكان يُسمِّيه مَنطقُ الإحتمال.

وهذا التقعيد من أرسطو مُخالفةٌ لشيخة أفلاطون الذي كان يعتني بالجدل وينظرُ له نظرةً يقينية عالية، وهو عنده من الضروريات للوصول إلى الحقيقة ، وكان يصفهُ بأنه الرافع للعقلِ من المحسوس إلى المعقول .

-5- أرسطو خالفَ تأسيسَ قواعد القياسِ التي قعَّدها أفلاطون لتلاميذه وطُّلابه التي رويت عنه واشتهرت ، والتي كانت تُسَّمى القِسمة الثُّنائية الأفلاطونية وهي :أن الجدل نوعان صاعدٌ ونازلٌ .
فالصاعد يبدأٌ من الإحساسِ إلى الظنِّ، إلى العلم الاستدلالي ، الى المعقول ، الى أن يصل إلى العِلم بالكُليِّ ، والنازلُ ينزل من أرفعِ الكليات الى أدناها ، بتحليلها وترتيبها الى أجناس وأنواع .

-6- أرسطو في مُقدِّماتِه للقياس الصُّوري أو البرهاني كما يُسمِّيه ، استفاد من فلسفة السُّوفسطائيين الذين سبقوهُ في تعليم الناس التلاعب بالألفاظ ، واستخدام المغالطات لإفحام الخصوم ، ولهذا سَمَّى المُحقِّقون هذا القياس بالقياس الصُّوري ، فهو شكلي لا مضمون حقيقي له ولا لقيمتهِ في الميزان العلمي .
وسبب ذلك أنه اعتنى بمعرفة العِلةٍ أولاً وآخراً ، ووصفها بالأمر الكُليِّ، وأغفل ما عداها من قضايا حالية أو كيفية ووصفها بالأمر الجزئي ، ففي ميزانه يكون البرهانُ الأقوى هو الكُلي .

وهذا التدليس المُتعمَّد – الذي أبان عنه باحثون غربيُّون اليوم– من أرسطو القصد منه جعل الجزئيات من نتائج أقيسة الكليات ، والصحيح العكس كما تشهد به العقولُ الصحيحةُ والفِطرُ المستقيمة .
ومثال ذلك الزرعُ اليابسُ الذي يُضربُ به المثل في القرآن في هَوان الدُّنيا وسُرعة إنقضائها ، أوَّله حبةٌ فماءٌ يسقيها ، ثم خُضرةٌ وبهجةٌ ، ثم يبُسٌ وتكسُّر وتفتُّت وزوال.
فهذا المثَلُ الكُّلي جاء من القِياس الجُزئيُّ الذي يعرفه أهلُ الألباب المدركة الواعية .

-7- الأقيسة التي يتشدَّق بها المناطقة ويتكلَّفون لها من عهد أرسطو الوثني ، ثم أبي نصر الفارابي (ت: 339هـ) المُتفلسِف ، مروراً بابن سينا(ت :428هـ) الباطني المتمنطق ، ثم ابن رشد (ت: 595هـ ) المُقلِّد، ثم أبي جعفر الطُّوسي (ت: 672هـ) الرافضي ، هي في الأصلِ لا وجود لها في الأذهان إنَّما وجودها في الأعيان ، فلا يمكن ضَبطُها ولا حَصرُها ولا تحديدُ معالمها ، وهذا يؤُكد زيفها وكونها مُهلهلَة لا ثباتَ لها في القلب ولا في العقل ، فكيف إذن يتم تعميمُها وجعلها أصلاً للنظر والتفكير .

ولو فتشَ عَاقلٌ فَطنٌ عن أسانيد هذه الأقيسة – إن وجدت – لوجدها منقولةً عن المتُفلسفة عن الصابئة عن الوثنييِّن عن المشركين ، الذين فاق شِّركهم شِّرك العرب ، عياذاً بالله تعالى.

-8- الله تبارك وتعالى وهبَ البشر الحواس الثلاثة الرئيسة للمعرفة والعلم والإدراك واليقين ، ويستوي في هذا الكبيرُ والصغير والذكيُّ والأحمق والقادرُ والأخرق ، لكن تَلك الحواس تَضعفُ أو تتوسطُ أو تَقوى من فئةٍ دون أخرى . ويُشترطُ للإفادة من الحواس الثلاثة الرئيسة فهم اللُّغة ومُخالطة الناس ، والتروِّي والتعقُّل في الأقوال والأفعال . وقد ثبتَ أن رجلاً كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان يُخدع في البيوع ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ” إذا بايعتَ فَقل لا خِلابة “. متفق عليه .
ولما جاءه رجلٌ أقرَّ على نفسه بالزنِّى ، قال له : ” أبِك جُنونٌ ؟ ، فقال : لا ، فأمرَ بِرجمهِ “. متفق عليه .

-9- اشتراط مُقدِّمتينِ للبُرهانِ بصورة مطلقة غيرُ صحيح ، فقد ثبتَ بالمعقولِ والمنقولِ وجود براهينَ بخمسِ مقُدِّمات مَنطقية وربما أكثر ، مثل حديث جبريل عليه السلام المشهور في الإيمان والإسلام والإحسان وأشراط الساعة ، ومثل حديث النجاشي مَلِك الحبشة رضي الله عنه ، مع رجال قريش ، ونحوها من الأحاديث الطويلة ، وهي صحيحة ومشهورة .

-10- لو أن الطالبَ أطال النظرَ في تفسير القرآن المجيد وعلوم العقائد وعلوم العربية ، لكفاهُ ذلك عن كثيرٍ من كُتب المنطق والجدل . والأولى والأسلم للمُطالعِ والطالبِ والباحثِ ، أن تكون مُذاكرتُه لهذا العلمِ بقدر الحاجة ، فما أسكر كثيرهُ فَقليلهُ حرام .
• المواضع المنتقدة على الطبعة المحقَّقة :

1- لم يُنبِّه المحقِّق وفقه الله تعالى على بعض الموارد المهمة التي رجع إليها الشنقيطي رحمه الله تعالى ، وقد ثبت عندي إفادته من : لقطة العَجلان للزركشي (ت: 794هـ )رحمه الله تعالى ، والمقولات لابن رشد ، والمقولات للفارابي ، وبعض المنظومات النادرة في المنطق مثل : تحفة المحقق لابن بونة الشنقيطي رحمه الله تعالى (ت: 1220هـ )، والمنظومة الشمسية للغزي (ت: 1339هـ) رحمه الله تعالى ، ومنظومة ابن الشهاب رحمه الله تعالى ( ت: 1341هـ ).والله أعلم.

2- في مبحث التصور والتصديق لم يُشِر الشيخ رحمه الله تعالى إلى أن التصور يجب أن يسبق التصديق ، وهذا مهم لفهم العلم وترتيبه في العقل واستظهار الحجج والأقيسة .

3- ورد في الكتاب ( ص/ 18) قول الشيخ رحمه الله تعالى : ” الدلالة محصورة في ستة أقسام لا سابع لها ” . قلت هذا الجزم فيه نظر ، ففي كتب المقولات أنها عشر، والخلاف في هذا يسير .

4- ورد في الكتاب ( ص/ 20) قول الشيخ رحمه الله تعالى : ” دلالة التضمن هي دلالة اللفظ على جزء مسماه في ضمن كله ” . قلت : يستدرك على هذا قول المناطقة : ” سميت بذلك لتضمن المعنى لجزء المدلول أو على لازم معناه الذهني ، سواء لزم في الخارج أم لا ” . والله أعلم .

5- لم يُنبِّه الشيخ رحمه الله تعالى – في مبحث الدلالات -على الفرق بين الدلالة الطبيعية والدلالة العقلية ، فكلاهما ليستا اختياريتين ، لكن الدلالة الطبيعية يُمكن تغيرها بعكس العقلية ، كما نبَّه عليه السنوسي في مختصره . والله أعلم .

6- أشار الشيخ رحمه الله تعالى إلى مسألة الفرق بين الذاتي والعرضي ، ورجَّح أن بينهما فروقاً ثلاثة ذكرها في (ص/ 51- 53) . وهذه المسألة استدركها ابن تيمية على المناطقة كما في كتابه (الرد على المنطقيين ص/ 1/94 ) وقال إنها تستلزم الدور ، فلا فائدة من اثبات حدِّها ووصفها. والله أعلم .

7- أشار الشيخ رحمه الله تعالى (ص/ 76) إلى مسألة العِناد في طرفي الشرطية المنفصلة ، وفي شرحه للمسألة اضطراب . والصحيح أن العِناد هو القياس الذي ينتج عنه المجيب مقابل المقدِّمة التي يطالبه السائل بتسليمها .
أو يقال : التبكيت فعل السائل والعِناد فعل المجيب . ويمكن أن يحدث العِناد والتبكيت بقياس الخُلف ، بأن تُضاف المقدِّمة المقصود ابطالها إلى أخرى ظاهرة الصدق أو الشهرة ، فينتج عنها ما هو ظاهر الكذب . والعناد نوعان : تام وناقص ، وأحكامه مبسوطة في كتب المنطق المطوَّلة . والله أعلم .

8- أشار الشيخ (ص/ 81) إلى الاستدراك على السنوسي (ت: 895هـ)رحمهما الله تعالى ، في مسألة تحديد معنى الكلية والجزئية ، ولم يتعقَّب المحقِّق كلام الشنقيطي ولم يوضِّح مراد السنوسي .
فالشنقيطي يقصد أن الجزئية : هي الحكم بالمحمول على بعض أفراد الموضوع لا كلها . أما السنوسي فقد قال : هي ما موضوعها كلي وحُكم فيها بالتبعُّض . وسبب الخلاف بينهما هو الاستقراء لمعنى الجزء بين الشنقيطي والسنوسي .
ولا ثمرة عملية تترتب على معرفة ذلك ، لكن لزم التنبيه . والله أعلم .

9- أشار الشيخ رحمه الله تعالى إلى مسألة غلط الأصوليِّين في قولهم : إن المتواتر لا ينسخ الآحاد (ص/ 93) ، ولم يبِّين المحقِّق من هم الأُصوليون الغالطون في المسألة . والجواب أنه الآمدي (ت: 631هـ )رحمه الله تعالى ، صاحب كتاب (الإحكام في أصول الأحكام ) ، ومن تبعه من علماء الشافعية وغيرهم . والله أعلم .

10- أشار الشيخ رحمه الله تعالى إلى مسألة الأحوال عند المتكلِّمين وأبطلها ، وقد أطلق عليها لقب ( الحال ) وهي مشهورة ب( الأحوال ) ( ص/ 151) .

ويمكن مراجعة نقضها عند الإمام ابن تيمية ( ت: 728هـ) رحمه الله تعالى في ( منهاج السنة 1/ 459) و يطلق عليها أيضاً مسألة الصفات المعنوية عند الأشاعرة . والله أعلم.

11- أشار الشيخ رحمه الله تعالى إلى مسألة التعريفات وأهمِّيتها للمناظِر والمجادِل ( ص/ 171) ، ولم يُشر لمسألة ضرورية وهي : أن المعتبر في التعريفات هو دلالة التضمُّن والمطابقة وهو قيد مهم لهذه المسألة عند المناطقة ، وأن العلماء قدَّموا التعريفات على الحُجج ،لأن المستفاد بالتعريفات هي التصورات ، والمستفاد بالحُجج هي التصديقات ، والتصورات تأتي قبل التصديقات . والله أعلم.

12- أشار الشيخ رحمه الله تعالى إلى مسألة الاعتراض على التعريف عند الخصم ( ص/ 186) وذكر أنه يستلزم الدور السبقي . ولم يُبيِّن المحقِّق المقصود به . والدور السبقي هو الدور القبلي الذي يذكر في العِلل وفي الفاعل المؤثِّر .
وقد وضَّحه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه ( الرد على المنطقيِّين 2/ 18 ) فليراجع فإنه مهم . والله أعلم .

13- في حاشية الصفحة ( ص/ 198) اضطراب في الإحالة ، فقد أحال المحقق على موضع لا وجود له ، ولا وجه له، فيجب التنبُّه والإحاطة .

14- أشار الشيخ رحمه الله تعالى ( من صفحة 291إلى 355) إلى مسائل أصولية مهمة متعلقة بقوادح العلة ، وقد أطال النفس فيها ، وفي بعضها استطراد زائد ، ومراجعتها في كتب الأصول أنفع لمريد الضبط والتجويد لأصولها ، لكنها مفيدة في معرفة كيفية بناء الفروع على الأصول . والله أعلم .

15- هناك مسألة مهمة لم يشر إليها الشيخ رحمه الله تعالى في كتابه رغم أهميتها ، وهي مسألة الرد على من احتج بالاستصحاب بنوعيه : استصحاب حال العقل ، واستصحاب حال الإجماع ، وقد أفرد لها الشيرازي رحمه الله تعالى فصلا في كتابه ( المعونة في الجدل ) وأجاب عن طريقة الرد على الخصم فيهما ، فلتراجع. والله أعلم .
والمقصود أن هذا الكتاب مفيد جدا ، وتصح تسميته في نظري بفقه الجدل ، لتنميته ملكة الجدل ومعرفة أصولها عند العالم والمتعلم . والله الموفق وعليه التكلان .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

1438/11/24