تزخر المكتبة الإسلامية بمئات الكتب والمطبوعات عن نظام الحكم في الإسلام ، أكثرها نفيس وقليل منها غثيث لا جودة فيه . وبعض المثقفين اليوم في محاضراتهم ومقالاتهم يتصدّرون لتأصيل السياسة الشرعية والأحكام السلطانية، ولا يعتنون بفقه مقاليد الحُكم الذي برع فيه ملوك الإسلام وسلاطينه وأمراؤه . والمقصود بفقه مقاليد الحُكم : طريقة تولّي الحكم ، وسيرة الحاكم . وهو باب عزيزٌ يندر من يسلكه وينبّه عليه .
وفوائد هذا المسلك في هذا العلم : أن فيه تنشيط للبليد الذي لا يفقه من نظام الحكم سوى أساليبه وطرائقه ، وتقوية لهمّة جنود المسلمين الذين يرابطون على ثغور الإسلام ، وتكميل لمن استهّل في الحكم على ولاية من ولايات الناس . وفي قصة يوسف عليه السلام إشارة إلى هذا المعنى البديع كما في قول الله تعالى : “وقال الملك ائتوني به استخلصه لنفسي فلما كلّمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين ، قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم” ( يوسف : 54 – 55 ) . فيستفاد من هاتين الآيتين أن المهارة والكفاءة العلمية أو الإدارية سبب في تحصيل المراتب العالية ، وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلمانه قال : “إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة ” أخرجه ابو داود وصححه الالباني . فالحاكم المسلم إذا كان بهذه الصفات الظاهرة و الباطنة كان حريّا أن يُقتدى به ويُوفق ويسدّد في حكمه .
وإذا أيقن الحاكم المسلم أن المُلك لله وحده ، وأنه تعالى النافع الضار ، كما في قول الحق سبحانه : ” أم اتخذوا من دونه أولياء، فالله هو الولي ” ( الشورى :9 )
وقوله : ” ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ”
(المائدة 56 ) : أورثه ذلك :هضماً لنفسه وتقرباً إلى ربّه وعطفاً على خلقه وبذلاً لما استخلفه الله من الأموال عنده . وفي قصة سليمان عليه السلام مع بلقيس المرأة الذكية الفطنة من الحِكم والفوائد ما لا يمكن الاحاطة بها في هذا الموضع ، فقد استطاعت بدهائها ونور عقلها أن ترث عرش أبيها دون غيرها من الرجال . وكان أعيان مملكة سبأ يهابونها ويعظّمونها لذلك .
ولما جاءت لسليمان عليه السلام وأسلمت ، أقرّها على ملكها ، لحسن تدبيرها وصحة رأيها . وفي القرآن المجيد شواهد كثيرة على فقه مقاليد الحُكم سوى ما تقدّم كما في قصة طالوت ، وذي القرنين ، وآل إبراهيم ، وآل يعقوب ، عليهم السلام ، ففيها نفائس عن تدبير الرئاسة والدقة في إدارة الحكم والبلاد .
والمتأمل لسيرة ملوك الإسلام كـ “معاوية بن أبي سفيان ” رضي الله عنه( ت: 60 هـ ) يلحظ التيقظ والوعي والدهاء الممزوج بنور الوحي ، وفي “سيرة صلاح الدين الأيوبي ” ( ت : 89 5هـ ) من الثبات على العقيدة ، والصلابة في رفع راية الجهاد ، وإحياء ذلك في قلوب الناس ، ما يحتمل مجلدات . وفي سيرة الملك العادل “نور الدين زنكي”
( ت: 569 هـ ) العابد المجاهد التقي ، ما يصلح أن يكون مدرسة لأبنائنا ، فقد علّم جنده الإلحاح في الدعاء مع الورع والخشية ، فقد روي عنه أنه لما رأى جموع الصليبين قبيل معركة “حارم” انفرد بنفسه تحت تلّ ، وسجد ومرّغ وجهه وتضرّع قائلاً : ” يا ربّ هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك ، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك ، فانصر أولياءك على أعدائك .. إيش فضول محمود في الوسط ، من محمود الكلب حتى ينصر ” !! يحقر نفسه ويتذلّل إلى ربّه . وفي سيرة السلطان “سليمان القانوني”
( ت : 973 هـ ) الذي حكم ( 48 سنة ) وكان خليفة لثلاث قارات ، من تعظيم السنة وقمع البدعة ومجاهدة النصارى و الروافض ، ما يصلح أن يكون منهجاً يُحتذى به في معاهدنا وجامعاتنا ، فقد كان يوم وفاته عيداً من أعياد النصارى . رحمهم الله جميعاً ، وجزاهم الله خيراً على دعوتهم وجهادهم ورفعهم لراية الإسلام .
وقد كان إمام أهل السنة والجماعة “أحمد بن حنبل ” ( ت : 241 هـ ) يستدرك على أهل زمانه من أصحاب النفوذ الذين تدنّست أيديهم بخدمة أئمة الظلم ، فقد روى المروذي أن الإمام أحمد لما سجن ، جاءه أحد عمّال السجن وقال له : يا أبا عبد الله الحديث الذي روي في الظلمة وأعوانهم صحيح؟! قال: نعم ، فقال السجّان : وأنا من أعوان الظلمة ؟ قال الإمام : أعوان الظلمة : من يأخذ شعرك ،ويغسل ثوبك ،ويصلح طعامك، ويبيع ويشتري منك ، أما أنت فمن الظلمة أنفسهم !! .
والمقصود أنّ غربلة التاريخ واستخراج فقه مقاليد الحُكم من سير الملوك والحكام ، وسبر أحوالهم وولاياتهم ، كل ذلك مما ينتفع به جنود الإسلام وأهل الثغور وأفراد الأمة . وهو خير لهم مما تلوكه بعض وسائل الإعلام في بعض البلاد من تمجيد لرموز الثورات العربية أو القومية ، ممن تلطّخوا بوسخ الفكر العربي وظلمته .
والله الهادي وهو خير الحاكمين .
أ/ أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصة .