عِشرون نكتة في مسألة إعدام الطيار

كُّل حادثة تقع فلا بُدَّ أن يكون لها حُكم . وبعض الحوادث تقع بسوء تدبير الآدمي . وقد قال عمر بن عبد العزيز (ت: 101هـ )  رحمه الله تعالى : ” يحدثُ للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور ” ! .

ودين الله لا يُشرَّع من الجماعات ولا الحكومات ، بل بالوحي . والقاعدة عند الأصولييِّن أن المتابعة في السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل  .

وحادثة الطيار الذي وقع أسيراً قبل أيام في أيدي جماعة داعش المنحرفة ، قد اشتملت على نُكت فقهية وعلمية . وقد جمعتُ منها عشرين فائدة يحسن نشرها :

1-   أن التحالف الغربي استطاع بدهائه ومكره أن يوقع العداوة بين المسلمين وأن يُصنِّفهم إلى أحزاب وتيارات وجماعات . وقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا في حديث جابر المرفوع : ” إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون ، ولكن في التحريش بينهم ” أخرجه مسلم  .

2-   بعض الكبراء والزعماء قد يكون سبباً في فتنة الناس وطغيانهم . وقد قال الله تعالى : ” وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتِّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ” ( العنكبوت :12) . وقديماً فَتن فرعون بعض بني إسرائيل وأضلَّهم عن الحق . فيجب التفطُّن لهذه النكتة   .

3-  من قواعد الشريعة المحكمة أن الله تعالى لا يعذِّب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه ، فإن فعلوا ذلك عذَّب الله خاصتهم وعامتهم. وفتنة داعش لم تجد إنكارا عملياً ملموساً من أهل السنة والجماعة ، لضعفهم وقلة حيلتهم.

4-  صنفان من أهل النار لم يرهما الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومنهما قوم معهم سِّياط كأذناب البقر يضربون بها الناس .

 وظهور ما يفوق ذلك الوصف اليوم من نحرٍ للأسرى وحرقٍ للأحياء من علامات نهاية هذا الزمان وقرب الساعة ، بدلالة مفهوم الحديث الوارد .

5-  إذا كانت الزوجة والولد فتنة وقد حذَّر الله من وقوع العداوة بهما ، فكيف بفتنة الجماعات الضالَّة التي تتبع أهواءها بلا هدى من كتابٍ ولا أثر  . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : ” وأعوذ بك من فتنة المحيا ” أخرجه البخاري  .

6-  بعض الناس عنده إسلام وكثرة عبادة ، لكنه لا يتق شر نفسه وشر الشيطان ، وهما من أسباب خراب النفوس والبلاد . وفي المرفوع : ” اللهم إنِّي أعوذ بك من شر نفسي ، وشر الشيطان وشركه ” أخرجه أبو داود بإسناد صحيح . فليس كُّل مجتهد في العبادة يصلح للإقتداء. فيجب الحذر من هذا المنهج المنحرف  .

7-  بعض الناس يعيش ويموت ولم يُجدِّد إيمانه ولا إسلامه ، فقد يكون مفتوناً بعلمه أو بشيخه أو بجماعته أو بطائفته . وقد قال الله تعالى في مثل هذه الحال : ” وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ” ( الزمر: 47 )  .

8-  بعض الجماعات عندها خير وجهاد لكنها ليست على السُّنة ، فهذه يجب الإنكار عليها وإعتزالها ووصف أهلها بالفسق والتعدِّي على حدود الله ، لإقامة الحجة على المسبِّحين بحمدها . وفي قصة إبراهيم عليه السلام ما يدلُّ على ذلك حين قال : ” وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ” ( مريم : 48 )  .

9-  بعض الجماعات المعاصرة التي تُقاتل حمية وعصبية لتفتيت خصومها لا غير ، ينطبق عليها ما فعلته الطوائف القديمة من اتِّباع للمتشابه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” فإذا رأيتُ الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذرهم ” متفق عليه .

10- موالاة الكافرين لا تجوز ، فهي بريد الكفر ، وأعظم من ذلك من يتخذهم أعواناً وأنصاراً  . فهل من متعظ ؟!  .

11- مساعدة الكافرين على المستضعفين من المسلمين ، من الظلم الصريح والعدوان البيِّن الموجب لسخط الله وعقوبته ، وقد تكون سبباً في تسلُّط الكافرين على ثروات المسلمين  .

12- في قول الله تعالى : ” فأغويناكم إناَّ كُنَّا غاوين “( الصافات : 32 )  . دليل على أن بعض الناس قد يكون سبباً في ضلال غيره وهلاكه . ولما قَتل الكفار ” المنذر بن عمرو الأنصاري ” أنشدت أخته : تغاوت عليه ذئاب الحجاز ..الخ . في قصيدة مشهورة  . واليوم ذئاب العراق  والشام أغوت وأهلكت من لا يعلمهم إلا الله بذنب وبغير ذنب ، فهل من متأمِّل ؟!  .

13- إذا كان القتال بين فئتين مسلمتين – ولو في ظاهرهما – فالواجب تحرِّي الحق والعدل في الحكم عليهما ، لأن حكم الله لا يقع إلا بهما . وقد قال الله تعالى : ” وكذلك فتناَّ بعضهم ببعض ” ( الأنعام : 52 ).

14- الفِتن التي تدور رحاها حالياً بين الجماعات الإسلامية لا يجوز الدخول فيها ولا الفرح بها ، سواء بين الجماعات والحكومات ، أو بين الجماعات بعضها ضد البعض الآخر . وفي المرفوع : ” تكون فتنة تستنظف العرب قتلاها في النار ، اللِّسان فيها أشدُّ من وقع السيف ” أخرجه أبو داود بإسناد حسن . فالواجب الإعتزال وكفُّ الِّلسان .

15- كل من استطاع أن يقي نفسه من دماء المسلمين في السِّلم أو في الحرب ، فقد وفقه الله وعصمه وأراد له خيراً كثيراً . لأن أمر الدماء حسابها عسير يوم القيامة  .

16- الإحسان إلى الأسير واجب حتى ولو كان يهودياً .و عندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم  أسرى بني قريظة في الشمس نهى عن ذلك وقال لأصحابه : “لا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ وَحَرَّ السِّلاحِ، قَيِّلُوهُمْ حَتَّى يَبْرُدُوا” رواه السُّهيلي بإسناد حسن   . والقاعدة عند الأصولييِّن أن الإجتهاد يكون ساقطاً مع وجود النص . فمن عامل الأسير بغير حكم الله سقط اجتهاده  .

17- مآل الاسير  محصور في قول الله تعالى :”فإمَّا مناً بعدُ وإمَّا فداء”( محمد: 4 ) فلا بد من أحد خيارين لا ثالث لهما ؛ وهما المنُّ أو الفِداء، والمن أن يُطلق سراح الأسير دون مقابل، أما الفِداء فأن يطلق سراحه مقابل مال أو خدمة . ويجوز قتل الأسير لكنه مقيَّد بالمصلحة ، لا لكونه أسيراً  .

18- حرق الأسير حياً لا يجوز ، وفاعله آثم وظالم ، لأن ذلك من حقوق الله ولا يجوز لغيره مشاركته فيها ، حتى ولو كان الأسير معتدياً وظالماً . والقِصاص يكون بإزهاق روحه بالإحسان ،كما أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم . والإستشهاد بفعل الصحابة في التحريق ليس بحجة في دين الله  ، لأنهم غير معصومين عن الخطأ ،إنما الحجة في الوحي. وما يُروى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قد أحرق “الفجاءة السلمي” حيًّا غير صحيح ، وباطل لا سند له؛ لأن مدار الرواية على “علوان بن دَاوُدَ البجلي” وهو رجل مطعون في روايته، قال الحافظ بن حجر في لسان الميزان: “قال البخاري: علوان بن داود- ويقال بن صالح- منكر الحديث”، كما علَّق الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد على هذه الرواية بقوله : “رواه الطبراني وفيه علوان بن دَاوُدَ البجلي وهو ضعيف .وهذا الأثر مما أُنكر عليه”، وروى العقيلي في “الضعفاء الكبير” عن يحيى بن عثمان أنه سمع سعيد بن عفير يقول: “كان علوان بن داود زاقولي من الزواقيل” والزواقيل هم اللُّصوص  ! .

 

19- كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول : ” اللهم لا تُدركني سنة ستين ولا إمارة الصبيان ” رواه ابن حجر في الفتح وحسَّنه . وهذا من فِقه الصحابي رضي الله عنه ، فإنه علم أنه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم اختلطت المسائل واشتدَّت الفتن وأصبحت الإمارة تُعطى لغير أهلها الأكفاء  . فكيف بزماننا ؟!

20- من تدبر أول سورة الكهف علم أن لا نجاة من الفتن الحاضرة والمستقبلة إلا بالُّلجوء والإعتصام بالله تعالى ، لا بأُمم الشرق ولا بأمم الغرب . وحين تحدث فتنة المسيح الدجال سيعرف الناس قيمة التضرع الى الله تعالى في وقت الرخاء قبل استفحال الفتن .

وأخيرا .. بعد سنوات شِّداد نحمد الله تعالى ونشكره ،فقد وقف العلماء وأهل الحل والعقد  أمام فتنة داعش ، بكل قوة معنوية ومادية، حتى انكسرت شوكتهم وزالت دولتهم، نسأل الله الهداية وصلاح الحال والمآل.

هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات   .

1436/4/17هـ