طلب مني بعض الدعاة أثناء زيارتي لهم في السودان ،أن أكتب مقالاً مختصراً عن ضعف البصيرة عند شباب المسلمين مع بيان الأسباب والعلاج ، وهذا الموضوع من أهم المهمات ’لأن مقاصد الشريعة هي وجوب حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال . والمقصود بالبصيرة : قوة الاستبصار وشدة المراس والحنكة والقدرة على تخطي العقبات بالتفكير والوعي الصحيح مع الالتزام بشرع الله تعالى .
وشواهد القرآن المجيد تطلق البصيرة على نور القلب الذي أصله العلم واليقين . قال الله تعالى : ( قل هذه سبيلي أدعوا الى الله على بصيرة ) يوسف: ١٠٨ ، وقال سبحانه : ( بل الانسان على نفسه بصيرة ) القيامة 14 . تنطق جوارحه بعمله ، فلا حجة له إذا جوزي بعمله يوم القيامة .
ومظاهر ضعف البصيرة عند شباب المسلمين جلية لاحت واستهلت لذوي البلاهة والفطانة على حد سواء ، ومن أمثلة ذلك : الإغراق في الدعوة قبل التأهل ، والتصدر في المنابر قبل التأصيل العملي ، والرد على العلماء والفقهاء قبل الاستواء ، والتعالم في المسائل العقدية والعلمية قبل النضج ، وتصنيف الدعاة إلى طبقات وجرحهم بما يناسب طبقتهم ، والنفرة من المذاهب الفقهية المخالفة ، والتعصب لعلماء ودعاة إقليم معين ، والسعي إلى الشهرة قبل اكتساب أسبابها المشروعة ، وتخطئة المخالف قبل معرفة حجته ، والخروج على الحاكم المسلم الجائر ، والميل إلى الدعة و الراحة ، والتسويف بالأماني .
هذه المظاهر الاثنا عشر وغيرها من المظاهر العويصة أعتمت نور الصحوة الإسلامية العزيزة على نفوسنا جميعاً، فأصبحت عليلة كليلة كما في الحديث المرويّ : “إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى”.
والصحوة التي نقصدها هي : الإلتزام بمنهج السلف الصالح ،من غير غلو في الدِّين.
لقد عابَ أهلُ العِلم وأهل الفِطر السليمة على كل من لا ينظر في العواقب ، ومن لا يعقل نفسه عن المحارم ، ومن اتبع هواه فأوقعه فيما لا تحمد عقباه ، وقد قال الإمام الزهري (ت 124ه) : إذا أنكرت عقلك فاقدحه بعاقل ، وقال بعض الحكماءً: قطيعة الجاهل تعدل صحبة العاقل ، وأول شرف العقل أنه لا يشترى بالمال .
وضعف البصيرة يتسع ويضيق بحسب حال صاحبه ، ومن ذلك : إتباع الهوى، والركون إلى الشهوات ،وعدم تعاهد الإيمان في القلب ، والغفلة عن أصول الشريعة ، ونبذ كلام أهل العلم ، والتعلق بالذوات والأعلام ، وقلة التربية والتزكية للنفس ، والإعراض عن فقه الأولويات ، والاعتماد على الأسباب المادية وإهمال الأسباب الشرعية ، وضعف التعلق بالله تعالى .
بعض التجمعات الشبابية يغلب عليها طابع المرح والهزل ’وتوزيع الطرائف والنكت التي يستغرق فيها الجهل الممجوج المستهجن ، وهذه أورثت عند البعض نقصاً في العلم وخيانة في الطبع وثلمة في الوقار .
ليس المقصود أن يضيق المسلم على نفسه في أنواع المباحات ، إنما المقام مقام بناء وتربية وشحذ همة وتقوية إرادة ، وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفسافها) . أخرجه الطبراني وصححه الألباني .
إن بعض المحاضن التربوية المعاصرة لا تعتني بالتربية الإيمانية الصحيحة التي تؤهل قلب صاحبها إلى الخوف من الله تعالى والخشوع والتضرع له ، وهي مقصرة في تقوية عتبة العبودية .
كما قال الإمام ابن تيمية (ت 728 هـ ) : “من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية” . ويقصد رحمه الله أنه يجب على المسلم بناء نفسه على توحيد الله تعالى والاعتصام بحبله واللهج بذكره والتعلق به سبحانه وتدبر كتابه ، فحينئذ يخرج النور من وجهه ولحمه وعظمه وشعره وبشرته وأعضائه كما قال الله تعالى : ( أومن كان ميتاً
فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها )الأنعام: ١٢٢ ، وكما قال سبحانه : ( أفمن شرح الله صدره للاسلامِ فهو على نورٍ من ربِّه فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله )الزمر: ٢٢ .
وعمى القلب الوارد ذكره في قول الله تعالى : (فإنها لا تَعمى الأبصارُ ولكن تَعمى القلوبُ التي في الصدور ) الحج: ٤٦ ، لا يرفعه إلا العلم الشرعي المبني على الوحي ، وأعلى درجات العلم : الفقه بنوعيه : فقه الإيمان وفقه الأحكام ، وهذان العلمان لا يلتمسان بمطالعة الصحف أو الكتب ، بل يجب طلبهما على العلماء المربين أو بسؤال أهل العلم .
ومن المثالب التي لمستها في بعض رحلاتي الدعوية’ تقصير طلبة العلم من أبناء الصحوة في طلب علوم الآلة تقصيراً جلياً ، وقد أورثهم ذلك نقصاً في فهم دلالات النصوص واستخراج القواعد والضوابط الأصولية من مظانها، كما قال الناظم :
وبعضهم يفتي وهو جاهل
إعراب بسم الله عنه ذاهل
فليس من أهل اللسان العربي
وفي الأحوال ماله من أدب
وكلمة ابن مالك في الكافيه
إذ قال بيتين وهي كافيه
وبعد فالنحو صلاح الألسنة
والنفس إن تعدم سناه في سنه
عليك بالنحو فإن النحوا
لحن الخطاب لفظه والفحوى
قال ابن القيم (ت 751هـ) : “من الناس من يفهم من الآية حكماً أو حكمين ، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك ، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره ، وأخص من هذا وألطف : ضمه إلى نص آخر متعلق به ، فيفهم من اقترانه به قدراً زائداً على ذلك اللفظ بمفرده” .
ومما يقوي البصيرة ويصقلها مجالسة كبار السن ممن عركتهم سنين الحياة فأورثتهم الخبرة والدربة على فهم مسائل الحياة وعواقب الأمور ، فأغلبهم – ولو كانوا عواماً- برعوا في فهم تقلبات الأيام ، ففي مخالطتهم :الأنس بنصحهم والافادة من معرفتهم .
ومما يقوي البصيرة ويزيدها مداومة التعلق بالله تعالى والخوف من غضبه وسخطه كما قال شجاع الكرماني (ت786هـ) : “من عمر ظاهره باتباع السنة ، وباطنه بدوام المراقبة ، وكفَّ نفسه عن الشهوات ، وغض بصره عن المحارم ، واعتاد أكل الحلال ، لم تخطئ له فراسة” .
ومما يقوي البصيرة ويصقلها مطالعة كتب المخالفين ومعرفة شبههم ودعاويهم والرد عليهم من علماء السنة والجماعة ، ولا يكون ذلك إلا للحاذقين من الطلبة والمعلمين .
ومما يُقوي البصيرة ويُنمِّيها التأمل في تراجم الملوك والأمراء والعلماء والأعلام الذين تركوا أثراً بعدهم ، فإنها تفيد في حسن التدبير واستعمال الحزم وتفادي التفريط ، وفيها تأديب للمتسلط وعبرة للمتذكر ، وشحذ لصوارم المعقول وروضة للمتنـزه في المنقول .
ومما يقوي البصيرة ويصقلها اليقين بوعد الله ووعيده ، والصبر على طاعة الله وعلى الذود عن دين الله كما في قول الله تعالى : (وجعلنا منهم أئمةً يهدون بأمرنا لمَّا صبروا وكانوا بآياتنا يُوقنون ) السجدة: ٢٤ ، ومن ذلك أيضاً التفكر والاعتبار بهلاك الظالمين ومصرع الطغاة والمتجبرين قديماً وحديثاً ، كما قال الله سبحانه : ( وفي الارض أيات للموقنين )الذاريات: ٢٠ ، وكما في قوله سبحانه : ( وجاء فرعونُ ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذةً رابية )الحاقة: ٩ – ١٠ ، فيا شباب الأمة ، ويا جند الإسلام ، لا ينبغي لمن امتلأ فؤاده بنور الوحي أن يدب في الأرض كالسائمة العجماء ، بل عليه أن ينهض بعزيمة صلبة كما قال حافظ إبراهيم (ت 1351ه)
في حائتيه :
شمِّر وكافح في الحياة فهذه
دنياك دار تناحر وكفاح
وانهل مع النهال من عذب الحيا
فإذا رقا فامتح مع المتَّاحِ
وإذا ألح عليك خطب لا تهن
واضرب على الإلحاح بالإلحاحِ
إن العمل والجد والاجتهاد من الأمور المشروعة في نصوص الشريعة ، وما تنشره بعض وسائل الإعلام من تحزين الشباب على واقعهم ومستقبلهم الإجتماعي ، كندرة المسكن وقلة موارد الاقتصاد والغلاء ، إنما هو من وساوس إبليس لنقض الإيمان من قلوب أوليائه ، قال الله تعالى : (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم ) البقرة: ٢٦٨ .
لقد سكن أجدادنا في الخيام وبيوت الطين قبل مئة سنةٍ ، وذاقوا شظف العيش ومرارة المخمصة ، ولم يوهن ذلك عزائمهم في طاعة الله وحسن الظن به ، فعاشوا وعاش أبناؤهم وأحفادهم ، وحفظ الله لهم دينهم وأهلهم وأمنهم . قال الله تعالى : ( يا أيها الذين امنوا ان تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم )الأنفال: ٢٩، وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : “من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له . أخرجه ابن ماجه واسناده صحيح .
اللهم افتح بصائرنا وزدنا علماً وإيماناً ، والحمدلله رب العالمين .
ا/ أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصة .