استمتعتُ خلال سنتين مضت بلعبة شهيرة جداً اسمها ( ببجي ) (pubg) .
تملَّكني الفُضول في إحدى المرات وأنا في الطائرة ، إلى سؤال شابٍ عربيٍّ يجلس بجواري ولا يكاد يلوي رقبته عن هذه اللعبة ، التي خطفت لُبَّه قبل عينيه فقال لي : ” ببجي .. ببجي .. لا تُكلَّمني أرجوك ” ! .
في اليوم التالي بحثتُ عن التطبيق وحمَّلته على جوالي وبدأت ألعب .
اللعبة باختصار عبارة عن انزال مظلي وقتال في جبال أو جُزر بين أفراد أو مجموعات ، واستخدام أسلحة بيضاء أو نارية من أجل البقاء واثبات الذات .
اللعبة مسلية ومثيرة ، وفيها تحدِّي ومغامرة وتعقُّب للأعداء والخصوم من جميع أنحاء العالم ! .
لقد تعرَّفتُ من خلال هذه اللعبة على أصدقاء كثير من دول العالم ، من الصغار والكبار والذكور والإناث .
لقد كانت تجربة ممتازة لمعرفة ذكاء الناس وغبائهم ، وطريقة تفكيرهم ومهاراتهم في التغلب على المشكلات .
هذه اللعبة وسيلة ناجعة ومهمة للتدريب على عمل العصابات وتأسيس المافيا لاقتناص أشخاص أو أفرادٍ لهم نفوذ أو هيبة عند الناس .
لعبة ببجي ليست سخيفة كما يزعم بعضُ الناس ، بل هي لعبة تزرع الرعب والعنف في جوانح النفس وتُنشِّط روح الإنتقام للتشفِّي من الطرف أو الأطراف الآخرين .
من الفوائد التي استنتجتها من اللعبة أن حقن الأدرينالين( هرمون السعادة ) وعُلب الإسعاف الوهمية الموجودة في اللعبة ، هما سببان من أسباب الإثارة وتوليد روح الغضب والقوة وانعاش الروح والجسد للقتال حتى الرمق الأخير .
لقد كنتُ أمزح مع زملائي إذا غضبت : ليتني خُلقت إدرينالياً ! .
كان الشباب يضحكون مني عند الحماس والعنف عند اللعب واصطياد الأعداء ، ويقولون : امسك أعصابك ! .
من فوائد اللعبة التي استنتجتها : أن قتل تسعة وتسعين نفساً ( وهو قانون اللعبة الأساسي ) أصبح ذريعة للقتل ، حتى لو قتل أمثالهم عشر مرات . وهذا ما يسعى الغرب لتصديره لنا دون وعي من عقولنا وقلوبنا ! ، فمتى نستيقظ ؟! .
رؤية بقع الدم الحمراء أثناء اللعب كانت شغفاً متواصلاً ، أورث في نفسي ادماناً عقلياً على محبة رؤيته في كل ثانية من ثواني اللعبة .
هذا ما حكاه لي صديقي عن نفسه ، لكنه نادمٌ الآن على ضياع أيامه .
وقد أسرَّ لي أنه كان يلعبها في البيت والمطعم وفي استراحة القهوة وفي المطار وفي الطائرة . ضياع ما بعده ضياع . فوأسفاه ! .
أما كيف ترك صديقي لعبة بيجي فالجواب بلسانه : ” تركتُ لعبة بيجي بعد سنتين ، لأنها أضعفت ذهني وأصابني وهنٌ في عقلي وفي بدني ، وفتر بصري وأضعت بسببها كثيراً من الواجبات الدينية والدنيوية ، فعزمت على تركها من غير رجعة ” .
لعبة ببجي عند الإنصاف : دمار نفسي وتحطيم للإرادة الذاتيه ،لأنها تعتمد على إثاره الخيال بشكل خاطئ ، فلاعب ببجي يضع في خياله أنه الأفضل من بين كل اللاعبين ، وهذه يولِّد لديه العنف تجاه نفسه وتجاه من حوله ، فيتخيَّل أنه يُحقِّق إنجازات ، وهي بالفعل إنجازات لكنها وهميه وتافهة .
والسبب وراء ذلك الفراغ العقلي والعاطفي وضعف الإرادة.
هذه اللعبة تُذكِّرني بألعاب كنتُ أتسلَّى بها سابقاً، مثل : لعبة مريم ولعبة الحوت الأزرق ولعبة فور تنايت ، وغيرها من الألعاب المؤثرة على حياة المراهق أو الشاب على حدٍّ سواء .
التعلق الزائد الملحوظ بالألعاب الإلكترونية – ببجي تحديداً -أفرز عدداً خطيرا من الآثار الإجتماعية والنفسية بين أطفال المسلمين صغاراً وكبارا.
ومن تلك الآثار : العنف الجسدي والتنمُّر ، وحب الإنتقام والكسل عن الواجبات والمهمات الدينية والدنيوية .
ظاهرة استخدام الأسلحة البيضاء أصبحت مشكلة تؤرِّق الأسر في كثير من دول العالم ، ومن أسبابها – وليس السبب الوحيد – التحريض في ألعاب الفديو وفي الألعاب الإلكترونية ، وغرس روح الإنتقام والسيطرة في نفس اللاعب أو المهاجم .
ادمان الألعاب الإلكترونية معضلة انتشرت في كل بيوت العالم اليوم ، إلا النادر الذين عصمهم الله من هذه الآفة .
ويُعتبر الشخص مُدمناً للإنترنت، وفق وصف ( كيمبرلي يونج ) عالمة النفس الأمريكية، إذا تعدّى استخدامه له (38 ساعة ) في الأسبوع الواحد.
اليوم المراهق أو الشاب – العربي تحديداً- يتصفَّح الألعاب الإلكترونية أو الفديو الإلكتروني في المتوسِّط ، حوالي ست ساعات يومياً ،
وهذه نسبة تدلُّ على خلل في البرنامج الحياتي للأسرة ، يجب الفزع لحلِّه ومعالجته بأسرع وقت .
وفي تقدير ي يمكن معالجة هذه المعضلة بعشرة أسباب :
الأول : التوعية الأدبية الهادئة بخطر هذه الألعاب على الذِّهن والدماغ وبقية أعضاء الإنسان . وتكون التوعية في المدارس والجامعات ووسائل الإعلام ، من خلال محاضرات وندوات يشرف عليها مُتخصِّصون في علم النفس مع الشرح النظري والتطبيقي وليس الإنشائي .وقد قال الله تعالى : ” إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ كبير ” ( الأنفال:73 ).
الثاني : مراقبة الأبناء والشباب في البيوت والمحاضن التربوية ومتابعتهم متابعة مشفق ناصح . فكل خطأ يُنبَّه عليه في وقته وحينه من غير تعنيف أو توبيخ ، لتعلو الهمة على مراد الله وشرعه . وقد قال الشاعر:
وما استعصى على قومٍ منالٌ… إذا الإقدامُ كان لهم ركابا .
الثالث : حثُّ الأبناء والشباب على ضرورة محاسبة النفس والحذر من تضيِّيع الأوقات في غير منفعة . ومن تأمل سيرة السلف علم أننا مُقصِّرون ومضيِّعون .
فقد صح عن أبي طلحة رضي الله عنه أنه لما اشتغل قلبه في الصلاة بطائر في حائطه ، تصدَّق بالحائط كفارة لذلك ، وإن عمر رضي الله عنه كان يضرب قدميه بالدُّرة كل ليلة ويقول : ماذا عملتُ اليوم ؟ .
الرابع : سماع آراء الأبناء والشباب عن هذه الألعاب ومنافعها إن وجدت ، وبيان أضرارها الراجحة ، ثم مناقشة وتفنيد كل ذلك بالحجة والبرهان من غير إفراط أو تفريط .
الخامس : اشغال الشباب بالعمل والتسلية والأعمال التطوعية التي تُقوِّي أبدانهم وتنفعهم دينياً ودنيوياً .
السادس : يجب على الأب أو الأم في البيت اشغال الأبناء بمهمة أو القيام بمسؤولية، لإشعال جذوة الفكر في نفوسهم وبناء ذواتهم بالعلم والإبداع ، ولابعادهم بقدر المستطاع عن هذه الألعاب التي غلب ضررها على نفعها .
ومن الأمثال النافعة – مما له صلة بتحفيز الهمم للعمل – في كتب التراث أن دولة غريبة لها قوانينها الغريبة ، تقع في وسط صحراء مقطوعة ، مليئة بالزواحف الخطرة ، والوحوش الضارية ، ولكن هذه الدولة لها أسوار عالية لا يمكن أن يتسلَّقها أحد ، ولا يمكن لأحد أن يخرج منها إلا من بابها الذي لا يفتح إلا كل خمس سنوات ، وهي مدة بقاء حاكم البلد فيها ، حيث يُطرد من بابها بعد انقضاء مدته.
وغالباً يكون مصيره الموت في تلك الصحراء التي لا يوجد فيها أيَّ مظهر من مظاهر الحياة ، وفي نهاية مدة أحد حكامها وما أعقبها من مراسم الطرد ، أُعلن عمَّن يتطوع لإدارة الدولة فلم يتطوَّع أحد .
ومضت الأيام دون أن يتقدَّم أحد ، إلى أن فوجئ الجميع بشاب في مقتبل العمر يتقدَّم للجنة المشرفة على الاختبار ، ويقبل بالمهمة الصعبة ، فعرضوا عليه شروط الحكم وأفهموه كل شيء عن مُدة حُكمه ، ومصيره بعد ذلك فوافق على جميع الشروط.
وبدأ فترة حكمه بحدية ، وهمة عالية ، وكان قد اتفق مع آلاف العمال سراً ، حيث كان يخرجهم من البوابة ليلاً ليشقوا القنوات المتصلة بالعيون من داخل الدولة ، ويغرسوا الشجر المثمر بجميع أنواعه ، ويستمر العمال في العمل ولا يدخلون حتى قبيل الفجر.
وهكذا استمر في هذه الخطة حتى شارفت مُدته على الانتهاء ، فلما جاء فريق الإشراف على التعييِّن والطرد ليخبره بقرب موعد الرحيل ، لم يروا عليه ما كانوا يرونه على من سبقوه من الوجل والرعب ، بل رحَّب بقرب الموعد ، وأبدى شجاعة متناهية وطمأنينة أدهشتهم.
ولما جاء موعد الطرد ، وفتحت الأبواب تعجب الجميع من مناظر الأشجار المثمرة ، وقنوات المياه التي تتخللها ، والآبار الجديدة التي حُفرت ، حتى بدا ما هو خارج أجمل مما في داخلها ، ولما سألوا عن ذلك أخبرهم بما قام به من استعدادات ليوم الرحيل ، فأُعجبوا به أشد الإعجاب ، واتفق الجميع على أن يُولُّوه حاكماً عليهم مدى الحياة.
السابع : وضع جوائز مالية مشجِّعة للمهندسين المسلمين ، ممن يحسنون البرمجة والتعامل مع الألعاب الإلكترونية ، لتصميم ألعابٍ مُسلية لا تُخالف الِقيم والآداب العامة ولا تُسبِّبُ الإدمان إن كان ذلك ممكناً .
الثامن : يمكن الحصول على هرمون السعادة بالرياضة والمشي وتناول الأكل الصحي وتنظيم أوقات النوم ، وقبل ذلك كله تقوية الصلة بالله تعالى، لإبعاد شبح القلق والتوتر والإكتئاب .
التاسع : رياضة التأمل الفكري والسباحة في التفكر في الكون والفلك وما فيها من جمال خلق الله تعالى ، فرصة إيمانية ممتعة للإنشغال عن كل ما لا ينفع الإنسان بل يضر عقله وبدنه ، لكن ذلك يحتاج إلى التدريب والتهذيب النفسي للإفادة من هذه الرياضة .
العاشر : الإستعاذة بالله تعالى من شرور النفس مطلب شرعي لا غنى للمسلم عنه ، لأن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ، وقد صح عن الحبيب صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” اللهم إني أعوذُ بك من شر سمعي وبصري ولساني وقلبي ” أخرجه الترمذي بإسناد صحيح.
ولا يكفي تحريك اللسان بالإستعاذة ، فهذا شأن البطالين والكسالى ، بل لا بد من الصدق واعانة النفس على مجاهدة الهوى لتحصل البركة، وتظهر الثمرة للعمل الشرعي بالمراقبة والمحاسبة .
وهذا الإمام السُّلمي (ت: 74هـ) رحمه الله تعالى ، لما أراد الحج قال : ” استأذنت أُمي في الحج ,فقالت لى : توجهتَ الى بيت الله فلا يكتبن عليك حافظاك شيئاً تستحي منه غداً ” . والله أعلم .
هذا ما تيسر تحريره، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
1440/11/7