ثالثاً: من فِطنة الشيخ القنوجي رحمه الله تعالى،تعليمه الطلاب ضرورة تلخيص المسائِل الأُصولية بأقصرِ عبارة وأدنى إشارة.

والتلخيص وسيلة للفهم وادراك المسائل المُعضلة والطويلة.

وقد كان دائم الكتابة والتهذيب والتلخيص كما في صدر كتابه:” الحِطة في ذِكر الصِّحاح السِتة”(ص/5)،و” رحلة الصديق إلى البيت العتيق”(ص/162).

والتلخيص ليس المقصود به تشطير الجُمل والعِبارات كما يَفهمُ كثير من الناس،فهو عند المحقِّقين يُرادُ به التالي:

الأول : التحرير : وهو كتابة المسائل والتهميش على المتون والكتب ، والنظر فيها والصبر على ذلك.

الثاني : التقرير : معرفة وفهم الأدلة والشواهد ومواضع النِّزاع في مباحث العِلم ،والسهر على ذلك.

الثالث : الموازنة بين أقوال العلماء ومناهجهم ومعرفة حُججهم .

الرابع: النقد : تميِّيز الأقوال واختيار المناسب منها ، بحسب ما يترجَّح عند الناقد والمتأمِّل ، ممن له خِبرة بسبر المسائل.

الخامس : العمل : وهو التطبيق العملي والإفادة مما تمَّ تحريره وتقريره وموازنته ونقده ، مع استشعار الإخلاص لله تعالى في ذلك ومراعاة شرعه وأمره ونهيه ، مع التعظيم والإجلال لله سبحانه.

والعمل بالمسائل الأُصولية ليس للمجتهد فحسب ، بل العامي والداعية وطالب العلم ، يلزمهم العمل بثمراتِ هذا العلم ،كُّل على حسب مقامه ووسعه .

والدليل على هذا ما أخرجه أصحاب السُّنن بإسناد صحيح ، عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة : ” أن أبا قتادة دخل فسكبتُ له وضوءاً ، فجاءت هِرةٌ فشربت منه ، فأصغى لها الإناء حتى شربت ، قالت كبشة : فرآني أنظر إليه ، فقال : أتعجبين يا ابنة أخي ؟ فقلت : نعم ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  إنها ليست بنجس ، إنها من الطوَّافين عليكم والطوافات ” .

فيستفاد من هذا الحديث للعمل به : أن تعليق الحكم بوصف مناسب ، يقتضي العِلية ، ولا تُشترط المناسبة في ترتيب الحكم ، وهو الراجح .

وقِس على هذا جميع مسائل الأصول .

ويُستفاد مما سبق أن مما يُقوِّي الهمة : المدارسة ثم المطارحة ثم المباحثة ، والخبر السابق يدلُّ على ما تقرَّر.

وهذا المعنى أيضاً ظاهر في كتاب القنوجي القيِّم “حصول المأمول من علم الأُصول”.

والأبواب والمسائِل التي لخَّصها هي : تعريفات الأُصول ،المبادىء اللغوية،تقسيمات الألفاظ،معاني الحروف،الأحكام التكليفية والوضعية ،الأحكام الأصولية لكتاب الله تعالى، الأحكام الأصولية للسُّنة ،الأخبار،الإجماع،الأوامر والنواهي وما يتعلَّق بها من أحكام،العموم،الخاص والتخصيص والخصوص،المطلق والمقيد،المجمل والمبين،الظاهر والمؤول،المنطوق والمفهوم،النسخ ،القياس واتلازم والاستصحاب وشرع من قبلنا والاستحسان والمصالح المرسلة.ومسالك العلة،والإستدلال،والإجتهاد والتقليد،والتعادل والترجيح،وخاتمة مقاصد الكتاب.

وخلاصة الأبواب التي لخَّصها:أن الأُصول المتفق عليها أربعة: الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس. والأُصول المختلف فيها ستة:شرع من قبلنا،والاستحسان،والاستصلاح ،والاستصحاب،والاستقراء،ومذهب الصحابي.

ويشترك الكتابُ والسُّنة في النسخ،وهو رفع الحكم الثابت بخطاب متقدِّم بخطاب متراخٍ عنه.ولا يُعرف النسخ بدليل عقلي ولا قياس،بل بالنقل وبدلالة اللفظ أو بتاريخ ،أو موت راوي أحدهما قبل اسلام الآخر.

ويشتركان في الأمر، والنهي، والعام. والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والمفهوم، والنص والظاهر واليقين ، والمشترك والمترادف، والحقيقة والمجاز، والألفاظ، والتواتر.

ويختصُّ الكتاب المجيد بأحكام: أنه متواتر ومعجز في لفظه ،وهو حجة،وفيه المحكم والمتشابه ،وليس فيه ما لا معنى له ،ولا يجوز تفسيره برأي ولا اجتهاد.

وتختص السُّنة النبوية بأحكام: فمن السنة المتواتر والآحاد،ومن السُّنة ما أُضيف إلى زمن النبوة،ويُقبل مُرسل الصحابي في الجملة.

وآخر مسائل الأُصول هي :الإجماع والقياس والإجتهاد والترجيح.

وهذا السرد المتتالي للموضوعات والمسائل الأصولية له ثلاث فوائد : الأولى: معرفة المسائل الأصولية على وجه العموم ،الثانية: تأمل ترتيبها وعلاقة بعضها ببعض ،الثالثة: معرفة ما يصلح للإستنباط والعمل ،وما لا يصلح.

ومن مقوِّمات التلخيص : فهم المسألة والدليل والمِثال، ومعرفة الثمرة.

وبدون هذه المقوِّمات الأربعة لا قيمة للتلخيص ولا غاية من ورائِه.

والذي أفدتُ منه عن القنوجي رحمه الله تعالى، أن يكون لكل سطر تكتبه في قرطاسك، أثرٌ على علمك وعملك وعبادتك وفهمك واستنباطك.

وهذه فائدة جليلة ليت المعلِّمين والباحثين يعتنون بها عند التعليم وعَرض النُّكت العِلمية على المستفيدين.

رابعاً:لا قيمة للأُصول إن لم تُقرن بالفِقه ومسائل الواقع:

القنوجي عاش في بيئة هيمنَ عليها الإستعمار الإنجليزي ،وكانت شعائر الدِّين غير ظاهرة ،والمسلمون أقلية وليسوا أكثرية.

فكان الواجبُ يحتِّم عليه الإفادة من المسائل الأُصولية المقترنة بدليها الصحيح ،في الحياة اليومية.

والأمثلة على هذا كثيرة جداً عند القنوجي.وهذه نماذج يستطيع الطالب والباحث الإفادة منها والنسج على جادتها إن رغب في الإستزادة من فهم المسائِل الأصولية :

1-إذا كانت الصلاة كاملة فتكون مُجزئة لا تُوجب القضاء ولا الإعادة.

ويمكن الإفادة من هذه المسألة في فهم مسائل الأداء والقضاء إلا ما استثناه الدليل.

2-أهل الحل والعقد هم العلماء وهم أهل الإجتهاد.

ويمكن الإفادة من هذه المسألة في فهم أحكام الفتوى والإجتهاد.

3-العامي لا عبرة بقوله أو فهمه في مسائل الإجماع،والعبرة بقول أهل الفقه.

ويمكن الإفادة من هذه المسألة في فهم الإجماع المعتبر وغير المعتبر.

4-ليس كل ما اشتهر يكون متواترا ،فقد يكون منحولا مثل القول المروي: ” ولدتُ في زمن المَلك العادل”،فهو موضوع لا يعتد به.

ويمكن الإفادة من هذه المسألة في فهم المنقولات والأخبار.

5-الغريب نوعان: غريب مطلق وهو ما انفرد به الصحابي أو التابعي ، وغريب نسبي وهو ما انفرد به من عداهما. والغريب من الآحاد يُعمل به عند وجود القرينة التي تقوِّيه .

ويمكن الإفادة من هذه المسألة في فهم أحكام الآحاد .

6-الأخذ بالأخفِّ: وهو من أنواع البرآءة الأصلية.وهو حجة عند الشافعية.وللعمل به شروط عند الأصوليين.

ويمكن الإفادة من هذه المسألة في فهم النوازل ومباحِث العلم التي لا الزام في قول معيَّن بالأخذ بواحد منها.

7-الإستحسان:اعطاء المسألة حكماً يُخالف حكم نظائرها لدليل راجح.

وقد يكون الاستحسان اجماعاً وقد يكون نصاً وقد يكون ضرورة،وقد يكون بالقياس الخفيِّ ، وقد يكون بالعُرف .

والعالم أو المجتهد هو من يستطيع معرفة الاستحسان المناسب.

ويمكن الإفادة من هذه المسألة في التوسيع على الناس في أمور الحياة بما لا يُخالف النصوص الصريحة .

8-المناسبة: تعيين العِلة في الأصل بمجرد ابداء مناسبة من ذات الأصل ،لا بنص ولا غيره.وتسمى الإخالة ورعاية المقاصد والمصلحة والاستدلال.وهي تصلح لأمور الدِّين والدنيا.ويمكن معرفة الملائم منها في أبواب المعاملات وأحوال الناس وأخلاقهم وأعرافهم بحسب قواعد الشريعة العامة.

ويمكن الإفادة من هذه المسألة في حل المسائل المشكلة في الدين والدنيا وتحقيق مصالح الناس وتحقيق العدل بينهم .

9-الحيلة: ويُقصد بها تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حُكم شرعي وتحويله إلى حكمٍ آخر،من غير نقضٍ لأصل الأمر والنهي.

ويمكن الإفادة من هذه المسألة في رفع الحَرج عن الناس، بما لا يُخالف أصول الشريعة.

10-سدُّ الذرائع: منع وسائل الفساد وحَسم مادته.

ويمكن الإفادة من هذه المسألة في الإحتياط لأمور الدِّين والدنيا.

وانظر أيضاً:” ظفر اللاظي” للقنوجي(ص/70- وما بعدها).

والقنَّوجي رحمه الله تعالى أقبل على المسائِل الأُصولية تعلماً وتفقهاً ،مستفيداً منها في الاستنباط والعمل ،مع ربط أمثلتها بالحياة اليومية ليكون تأسِّيس المسائِل عالقاً بالذِّهن .

وعِلم الأُصول لا يكادُ يستغني عنه طالبُ العلم في أيِّ زمان ومكان، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما حذَّر أمته من الدجال، كما في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه ، عند سؤال الصحابة عن مدة مُكث الدجال في الأرض، فقالوا: “وما لُبثه في الأرض؟” فقال: “أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم” قلنا : “يا رسول الله: اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة ؟ ” قال: “لا، اقدروا له قدره”. أخرجه مسلم.

ففي هذا الحديث تفهيم من الرسول صلَّى الله عليه وسلم ، لضرورة معرفة الحكم التكليفي والوضعي مع العمل بالعلم على حسب وسع كل مسلم.

 ومن ذلك مراعاة إقامة الصلاة ومعرفة أوقاتها بأسبابها الشرعية.

 وقد أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالترجيح وتحقيق المصلحة والعمل بغلبة الظن ، كما في قوله: “اقدروا له قدره ” ، وكلها من مسائل علم الأصول كما لا يخفى على الفَطِن .

وفقه الحديث: أنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه وبين الظهر كل يوم فصلُّوا الظهر، ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر فصلُّوا العصر، وإذا مضى بعد هذا قدر ما يكون بينها وبين المغرب فصلُّوا المغرب، وكذا العشاء والصبح ثم الظهر ثم العصر ثم المغرب. وهكذا حتى ينقضِ ذلك اليوم وقد وقع فيه صلوات سَنةٍ.

أفاده النووي رحمه الله تعالى كما في شرحه للحديث،  في صحيح مسلم.

وعند دراسة علم الأصول – وأُقيِّد هذا عن خِبرة علمية وعملية – يجبُ تحديد الخِلاف العملي في المسائل والمباحث ، كما يجب توضيح الخِلاف النظري الآيل إلى اتفاق .

والخلاف الأُصولي ثلاثة أنواع : نوع له ثمرة فقهية وهذا مهم جداً ، ونوع لا ثمرة فقهية له ، وهذا يُدرَّس على سبيل المطالعة وشحذ الذِّهن أو للجدل أحياناً ، ونوع مختلف فيه ، وهذا مجاله النظر والترجيح.

أما طرق المدارس الفقهية فكلها نافعة ، لكن طريقة المتكلِّمين تمتاز بتقرير القواعد بحسب الدلائل بدون التفات للفروع الفقهية.

أما طريقة الحنفية فتمتاز بتقرير القواعد بحسب ما نصَّ عليه عُلماء المذهب في الفروع الفقهية ، فهي على هذا الأساس أقوى وأرسخ للطالب لأنها تربط الأُصول بالفروع ، وفي كل خير .

ولو تدبَّر الطالبُ في المصنفات الأصولية ، فإنه يلحظ أن الخِلاف في المسائل له ثمرة عملية ،في اثنتي عشرة مسألة وهي :

الفرق بين الفرض والواجب ، الخلاف حول الواجب المخير ، الخلاف في الواجب الموسع وتعلقه بآخر الوقت ، إذا نُسخ الوجوب هل يبقى الجواز ؟ ، الزيادة على أقل الوجوب ، هل المندوب مأمور به حقيقة ؟ ، هل المباح مأمور به ؟ ، تكليف الكفار بفروع الشريعة ، هل المخاطب يعلم كونه مأموراً به قبل التمكن من الإمتثال ؟ ، الخلاف في النسخ قبل ورود الخبر ، الخِلاف في الإحتجاج بالحديث المرسل ، الخلاف فيمن يُسمَّى صحابياً .

أما المسائل الأُصولية التي لا ثَمرة عملية لها ، لكن يُستفادُ منها في البحث والنظر ومعرفة موارد الأدلة ، فهي احدى عشرة مسألة وهي:

الخِلاف في حُكم  ما لا يتم الواجب إلا به ، تحريم واحدٍ لا بعينه ، اطلاق الصحة في العبادات ، المتروك لعذر مع لزوم القضاء هل يكون واجبا ؟ ، الخلاف في واضع اللغة ، نسخ الشرائع شرعاً وعقلاً ، هل يدخل النساء في جمع المذكر السالم  أو ضمائر جماعة الذكور ؟ ، هل للمفهوم عموم ؟ ،القياس في الأسباب والشروط والموانع ، الخلاف في نوع دلالة النص هل هي لفظية أم قياسية ؟ ، الخلاف في الإحتجاج بشرع من قبلنا.

وهذا الحصر للمسائل التي لها ثمرة والتي ليس لها ثمرة ، لا يصح الاشتغال به إلا بعد المرور على جميع المسائل الأصولية وتربية النفس بها ومعرفة الأحكام والفوائد العلمية والعملية ، حتى يحصل التهذيب للمادة في آخر المرحلة بعد أن أشبعت النفسُ حظَّها من معرفة المسائل فلا يغيب عنها من المفيد شي ، فيستريحَ الفؤادُ من كثرة البحث في المصنفات ، لأنه لا طائل من ورائها ، ويبقى الاشتغال بالأصلين هو الأرجح .

وبهذه الجادة العلمية المتينة يمكن ضبط علم الأُصول وفهمه وتصحيحه والإفادة منه في فهم الوحيين ، وغيرها من العلوم .

ويمكن اجمال الخطوط العريضة للمسائل الأُصولية التي يجب أن تُصحّح من أجل ضبط أطراف هذا العلم في النقاط الآتية

1- فهم المسائل الأصولية من المتون فقط ، والتصحيح : فهم الأدلة الشرعية والعقلية ، والنظر في المصطلحات الاصولية وربطها بالنوازل المعاصرة .

2- البحث في المصادر الأصولية ، والتصحيح : فهم مصنفات اصول أهل السنة والجماعة . وما تبقى في المصنفات الاخرى ، فهو حشو وتطويل ومسائل كلامية لا تُسمن ولا تُغنِ من جوع .

3-رفع دلالة الحكم الشرعي بالعقل أو بالقياس، والتصحيح : أن رفع الحكم الشّرعي بالإجماع أو بالعقل أو بالقياس لا يصح ، لأنه تشريع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإذا وجد النّص بطّل القياس .

4- معرفة أحكام النوازل الأصولية بالتفكّر، والتصحيح: مراجعة فتاوى المجامع الفقهية بصفة دورية، لفهم النوازل المستجدة وحكم الشرع فيها .

5-تقديم الاجماع على النص ، والتصحيح : أن الاجماع إذا كان قطعياً قُدّم على النص، إذا كانت دلالة النص ظنية ، وكذلك إذا كان الظن الحاصل بالإجماع أقوى من الظن الحاصل بالنص ، فيُقدَّم القطعي على الظني

6-الترجيح بين الأدلة قبل الجمع بينها ، والتصحيح : الجمع ثم الترجيح.

7- الترجيح بين دليلين متعارضين بلا دليل ، والتصحيح : لا يجوز لأنه تخيُّر بالتّشهي ،وهو باطل .

8-العمل بالدليل الظني الذي لا يُعلم رجاحته ، والتصحيح : لا يجوز العمل به .

 9- الإنكار في المسائل الاجتهادية والخلافية ، والتصحيح : الإنكار في المسائل الخلافية غير الاجتهادية ، وكل من خالف سنةً أو اجماعاً ، يُنكر عليه عدم العمل بهما .

10- الاستحسان بالعمومات ، والتصحيح : إذا وافق الاستحسان دليلاً صحيحاً بلا تأويل، جاز العملُ به ،وإلا فيحرم ، لقول الإمام الشافعي (ت:204هـ ) رحمه الله تعالى : “من استحسن فقد شرّع” . 

انتهى الدرس الثاني ويليه الدرس الثالث إن شاء الله تعالى.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

1441/7/8