توقفنا في الدرس الفارط عند سَرد جُزء من الأخطاء المِئة التي تقع عند دراسة المسائل الأصولية ، وفي هذا الدرس نستكمل ما يتيسر منها:

26-خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لا تثبت إلا بدليل صحيح، ولا تثبت بغير ذلك. والخصائص هي الفضائل والأُمور التي انفرد بها النبي صلى الله عليه وسلم وامتاز بها عن اخوانه الأنبياء ،وعن غيره من البشر من أمته.

وتعرف الخصائص النبوية بالدليل الصحيح كالنصِّ على ذلك مثل قول الله تعالى ” خالصةً لك من دون المؤمنين”(الأحزاب: 50).

وكالإجماع على أن هذا من خصائصه ،مثل الإباحة له بنكاح أكثر من أربع نساء.

27-الإجماع هو اتفاق مجتهدي عصر من الأمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على أمر ديني ،والقول بأن الذي يُحتج به من الإجماع هو إجماع الصحابة أو هو المعلوم من الدِّين بالضرورة ، وأنه لا إجماع غيره، وأن الإجماع الذي يدَّعيه بعض الأصوليين لا يمكن الجزم بوقوعه في الجملة، قولٌ قويٌّ في جُملته وله وجاهة ، وهذا ما يُفهم من قول الإمام أحمد في القول المشهور عنه في الإجماع ، وهو إحدى الروايتين في المذهب عنه .

لكن إذا استند الإجماع إلى نص واجتهاد واستنباط وقياس صحيح، فإن إجماع مَن بعد الصحابة معتبر وله هيبة وقوة بين الأدلة، ولهذا قال كثير من العلماء إن الإجماع مراتب منه ما هو قطعي ومنه ما هو ظني.

28-تعميم صحة حُجية عمل أهل المدينة خطأ. والمقصود بعمل أهل المدينة : الأقوال والسُّنن والأقضية والإجتهادات التي رواها أهل المدينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وتواتر العمل بها عند قضاة وحُكاَّم المدينة.

فإجماع أهل المدينة الذي يكون إجماعاً ما نُقل وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، أما ما اجتهدوا فيه فليس بحجة.

29-ليس كل لفظة للقياس تَرِدُ عند العلماء يُقصد بها مصطلح القياس الأصولي المعروف. فبعضهم يُطلق القياس ويَقصد به الإستنباط المبنيَّ على التعليل.ومن ذلك قول الشافعي رحمه الله تعالى : ” فهذا قياس على الخبر”. فمعناه استنباط مبنيُّ على التعليل بالنص.

30-من الخطأ في باب القياس الخلط بين العِلة الصحيحة والعلة الفاسدة. فالعلة الصحيحة هي ما دلَّ عليها التعليلُ للحكم بها في نصِّ الكتاب أو السنة بأيِّ حروف التعليل المعروفة في اللغة ،أو بتعليق الحكم على الوصف المناسب للتعليل.

والعلة الفاسدة ما لم يأت تعليل الحُكم بها في كتاب ولا سنة كالشَّبه والدوران ونحوهما من مسالكهما الباطلة.

31-من الخطأ الخلطُ بين القياس الجليِّ والخفيِّ ، ولو حصل هذا فستكون النتيجة الحكمية غير صحيحة.وهذا كله باعتبار القوة والضعف.

 فالجليُ ما قُطع فيه بنفي الفارق المؤثِّر أو كانت العلة فيه منصوصاً أو مجمعا عليها.

وهذا النوع من القياس لا يُحتاج فيه إلى التعرض لبيان العلة الجامعة ،لذلك سُمِّي بالجليِّ مثل قياس إحراق مال اليتيم وإغراقه على أكله في الحُرمة.

والقياس الخفي ما لم يقُطع فيه بنفي الفارق ولم تكن عِلته منصوصاً أو مُجمعاً عليها ،مثل قياس القتل بالمثقَّل على القتل بالمحدَّد في وجوب القصاص ، وهذا النوع لا بد فيه من بيان العِلة وبيان وجودها في الفرع.

32-القول بأن القياس ليس حجة شرعية وأنه باطل مذهب الظاهرية ومن وافقهم من الشيعة.وهو قول ضعيف واهٍ.

وحجتهم أن القياس ليس ردٌّ لله ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم ،وأنه ظن وليس بعلم.

ولهم أدلة أخرى من السُّنة ساقها ابن حزم في كتابه الإحكام. والصحيح أن القياس حجة شرعية قال به الجمهور وكثير من العلماء قديماً وحديثاً.

والصحابة رضي الله عنهم احتجوا بالقياس كما في قياس الزكاة على الصلاة في قتال الممتنع منها ، بجامع كونهما عبادتين من أركان الإسلام.

ويكون القياس حجة إذا كان بشروطه وضوابطه الصحيحة .

 ولابن القيم رحمه الله تعالى ردود قيِّمة على نُفاة القياس في كتابه أعلام الموقعين، وللشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان مثلها، فلتراجع.

33-القول بجواز القياس في المعاملات وعدم تجويزه في العبادات قولٌ منسوب للحنفية ، وفيه نظر.

والصحيح جواز القياس في العبادات والمعاملات، وهذا قول الجمهور.لأن كل ما جاز إثباته بالنص جاز إثباته بالقياس ،لأنه لا يوجد في الشريعة ما يُخالف القياس.

34-لا يصح القياس في أبواب التوحيد والعقائد لأنه يُفضي إلى البدعة والإلحاد وتشبيه الخالق بالمخلوق وتعطيل الأسماء والصفات.

والمستثنى من المنع قياس الأولى .

وسُمِّي بالأَولى لأن الفرع المقيس يكون في حكمه أولى من المقيس عليه، مثال ذلك: مسألة دفع الوالدين ،فلم يأتِ دليلٌ خاصٌّ يُبيِّن تحريمها؛ أي: تحريم الدفع، فدفعهما في هذه الحالة مقيس، والتأفيف عليهما مقيس عليه، وجاء دليل خاص في بيان تحريمه “:فَلَا تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنهَرهُما “( الإسراء: 23 )؛ فيكون دفع الوالدين فرع ومقيس غير منصوص عليه، والتأفيف على الوالدين أصل ومقيس عليه منصوص عليه، والعلة الجامعة بينهما العقوق، أما الحكم: فهو تحريم الدفع كما حُرِّم التأفيف.   

وقد سُمِّي هذا بقياس الأَوْلى؛ لأن الدفع أولى في التحريم من قول “أُفٍ”؛ لذلك سمَّاه المحققون بهذا، بمعنى أن حكم المقيس أولى من حكم المقيس عليه.       

35-  من الأصوليين من لا يُفرِّق بين العلة والسبب، لكنّ أهل التحقيق من الأصوليين على التفريق بينهما، والفرق عندهم: أن العلة يُمكن أن تُدرك بالعقل كالإسكار في تحريم الخمر، ولا يمنعون من تسميتها سبباً، لكنهم يخصُّون الأسباب المحضة بما لا مدخل للعقل في معرفة حكمتها ومعقوليتها، وذلك ككون الزوال سبباً لصلاة الظهر ، وعلى هذا يُمكن أن يقال: كُّل علة سبب، وليس كل سبب علةً.

والذي تقرَّر عند الأصوليين أن كلاً من العلة والسبب علامة على الحُكم، كل منهما بنُي الحكم عليه وربط به وجوداً وعدماً، وكل منهما للشارع حِكمة في ربط الحكم به، وبنائه عليه، ولكن إذا كانت المناسبة في هذا الربط مما تُدركه العقول سُمِّي الوصف: العلة، وسمي أيضاً: السبب.

وإن كان مما لا تُدركه عقولنا سُمِّي السبب فقط، ولا يُسمَّى علة، فالسفر لقصر الصلاة الرباعية علة وسبب. وأما غروب الشمس لإيجاب فريضة المغرب، وزوالها لإيجاب فريضة الظهر، وشهود هلال رمضان لإيجاب صومه، فكل من هذه سببٌ لا عِلة، فتنبَّه ، فكل علة سبب، وليس كل سبب علة.

36-من الأصولييِّن من لا يُفرِّق بين العِلة والحكمة ، والصواب التفريق بينهما. فقالوا : إن العلة هي الوصف الظاهر المنضبط الذي يكون مظنةَ تحققِ الحكمة من وراء تشريع الحكم، بينما الحكمة هي المقصد الشرعي الذي شُرِّع الحكم لأجله .

ومثال ذلك :القصاص حكم شرعي. وعلته: القتل عمداً وعدواناً، وحكمته: حفظ النفوس.

وكذلك إباحة الفِطر في رمضان حكم شرعي. وعلته: السفر أو المرض، وحكمته: رفع الحرج والمشقة.

37-ليس كل تكليف يُعقل معناه .فالعبادات الظاهرة  غالباً غير معقولة المعنى، دلَّ على ذلك الاستقراء، فالصلاة  مثلاً  تؤدَّى على صفةٍ مخصوصة، إن خرجت عنها لم تكن عبادة، وكذلك الأمر في بقية العبادات كالصوم والحج. 

والمقرَّر عند أهل العلم أن الحكمة العامة في العبادات هي التذلل والانقياد لأوامر الله والخضوع له سبحانه وتعالى. ولذلك فالأصل في تعليل العبادة أن تُعلَّل بالطاعة والانقياد والتسليم لله.

38- لا يجوز تعليل الأحكام الشرعية بعلل قاصرة غير منضبطة مثل: الحج مؤتمر سياسي، الصيام استجمام صحي، المرأة لا تستحق الولاية لحملها وولادتها ! ،ونحو ذلك.بل تعلل بما جاء به النص أولا ثم يُضافُ إليها ثانياً ما يُمكن استنباطه بالقياس أو بالتدبر.

39-لا تُعلَّل الأحكام بالمصالح المتوهَّمة أو الملغاة ولذلك خطَّأ المحقِّقون من أهل العلم ،الفقيه الأندلسي الذي أفتى أحد الملوك بأن الواجب عليه في كفارة الجماع في نهار رمضان: صيام ستين يوماً لا غير.ولما سُئل عن فتواه هذه، علَّلها بقوله: إن الخليفة قادر على العتق والإطعام، ولو أفتيناه بذلك سهَّلنا عليه، ولكن نشدِّد عليه حتى يكون في ذلك زجر وردع!

فمثل هذه المصلحة التي رآها الفقيه، وهي زجر الحاكم عن العودة إلى الوقاع في نهار رمضان، وإن كانت في نظر المتأمل مصلحة، إلا أنها مصلحة مُلغاة لا يصح التعليل بها؛ لأن هنالك مصالح شرعية أكبر منها، وهي: العتق، وإطعام المساكين، وسدِّ حاجة المحتاجين.

40-الإقتصار على التنبيه على المصالح المادية أو الدنيوية في الشريعة مثل حفظ الدماء والأموال والأنفس والأبدان والفروج لا يكفي لحفظ هيبة الدِّين وضرورة الإلتفاتِ إليه، إلا إذا تمَّ التنبيهُ على حِفظ الإيمان وتهذيب النفوس والقلوب.

وهذا خطأٌ يقع فيه كثير من الأصولييِّن، وهو تقديم مصالح التشريع المادية على القلبية والإيمانية.وهذه الفائدة مهملة كثيراً في كتب الأصوليِّين.

41-لا يصح خَرقُ الإجماع القطعي، ويكون فاعِله مُرتكباً كبيرة أو كفراً بحسب حال المسألة، إذا كان الإجماع قطعيا ثابتاً. أما خَرق الإجماع المظنون فهو محلُّ نظر وتأمل وفيه خلاف.

42-لا يصح في التعليل معارضة النصوص الصحيحة القطعية،  أومعارضة الإجماع،  إذا كان الإجماع صحيحاً ولا ريبة فيه ،فالنص سيِّد والتعليل تابع.

43-كل تعليل يعود على النص بالإبطال فهو باطل ،ولا يجوز إبطال النص إذا كان قطعياً وصريحاً، مثال ذلك من يُعلِّل من أهل التصنيف كراهة صيامِ ستة أيام من شوال ،بأنه لم يُشاهد أحداً يصومها !.

فهذا التعليل عليل ولا يُلتفت إليه ،وقد يكون قائله لم يقف على نصِّ في المسألةفيكون معذوراً.

44-لا يجوز تقديم العِلة المستنبطة على العلة المنصوصة.مثل من يستنبط من حديث الذباب ،أن كل حشرة تسقط في الإناء ففي أحد جناحيها دواء وفي الآخر دواء، أو أن الذباب لا نفس له سائلة.

45-لا يجوز ربط الأحكام بالحِكمة مطلقاً .فالحكمة لخفائها ولعدم انضباطها لم تُربط بها الأحكام في كثير من النصوص، لكن رُبطت الأحكامُ بالعِلل لانها ظاهرة وجلية ومنضبطة.

فإباحة الفِطر للمسلم عنده سفره ليست للمشقة، لأن المشقة نسبية، وإنما لِعلة السفر.

والحكمة والعِلة متلازمان وقد قرَّر هذا المعنى العلويُّ(ت:  1233هـ)رحمه الله تعالى في المراقي حين قال في نظمه:

لم تُلف في المعلَّلات علة..خاليةً من حِكمة في الجُملة.

46-ليس كل حكمة تكون علةً .فقد يُطلق لفظ العِلة ويُراد به الحكمة أو غيرها.

 فالعلة هي الوصف الظاهر المنضبط ، والحكمة هي المقصد الشرعي من الحكم.

لكن عند تعليل الأحكام يجب التفريق بينهما بحسب سِّياق المسألة، كما في الأمثلة الواردة في هذا السِّياق.  

47- لم تتفق الطوائف المشهورة على مسألة تعليل الأحكام ، فالأشاعرة والمعتزلة والظاهرية أنكروا تعليل الأحكام وقالوا لا يفعل الله تعالى شيئاً من الأحكام لعلة أصلاً، وأحكامهم مردودة ومُتعقَّبة من أهل التحقيق.

وأهل السنة والجماعة قالوا بجواز التعليل في الأحكام،وهذا قول الجمهور.

48-اطلاق القول بأن قول الصحابي ليس بحجة غيرُ صحيح، وهذا من دسائس المتكلِّمين في علم الأُصول ، وقد تتابع على نقل هذه الشُّبهة كثير من أهل العلم بدون تحقيق.

فقول الصحابي إما أنَّ له حُكم الرفع إن كان في أمرٍ لا مجال للرأي فيه ، أو يكون كالإجماع إذا اشتهر ،أو يكون حجة لعدالتهم إن لم يشتهر وكان مجالًا للرأي ولم يخالف قول جماهير الصحابة،أو يُحمل على التوقيف إن خالف القياس.

49-ما يستحسنه العالِم أو المجتهد بعقله لا يكون دليلاً للتشريع ، وما نُسب إلى بعض العلماء من القول بالإستحسان المنهيِّ عنه فهو  استحسان بالرأي ولا يصح ولا يُتابع عليه.

 أما الإستحسان المشروع وهو العدول عن المسألة إلى نظائر أخرى لها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ،فهو جائز ومتفق عليه.

50-تعميم قول إن شرعُ من قبلنا ليس شرعاً لنا فيه نظر . والصواب أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يأت في شرعنا ما ينسخه.

ودليل ذلك استدلال الرسول صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى :” وأقم الصلاة لذكري”(طه: 14).والآية وردت خِطاباً لموسى عليه السلام.

وللحديث يقية.

انتهى الدرس التاسع ويليه الدرس العاشر إن شاء الله تعالى.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

1441/3/7