توقفنا في الدرس الفارِطِ عند التعقيب على الفوائد النظرية والتطبيقية في مسائل الأُصول عند مذاكرة مباحثها ، وأنه لا يصح للطالب العجلة في اقرار مسألة إلا بعد نظرٍ وتأمُّل طويل .
سادساً : أركان المَلكَة الأُصولية :
قبل أن أدلف إلى شرح مهارات البحث في الأصول ، أحب أن أُعرِّج على أركان المَلكة الأصولية لتكون مدخلاً لفهم المهارات البحثية .
فمن يريد أن يعرف متى يتأخر الشرط عن المشروط ويتقدم المشروط على الشرط ؟ ، ولماذا لا يكون إجماع من قبلنا من الأمم حجة ؟، ومتى يُعلَّل الحكم الشرعي بعلة واحدة ومتى يعلل بعلتين ؟،
وغيرها من المباحث ، فيلزمه تفقد ملامح المَلكة الأصولية في نفسه وذهنه وقدراته .
وسبق أن أشرتُ في الدرس الأول إلى أن أركان الملكة الأصولية خمسة: الإستعداد النفسي والإجتهاد ومعرفة الأدلة وفهم المصطلحات وتحرير القواعد.
وهنا بيان المراد منها مع الأمثلة :
1-الإستعداد النفسي :
يُقصد به الميل الفطري والسجية النفسية لحب العلم والمعرفة ، والرغبة في الوقوف على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ، مع التعبد والإخلاص لله بذلك ليجمع المسلم بين العلم والعبادة.
ويلحق بهذا حب البحث والمغامرة في الرحلة لإستكشاف المسائل واقتناء الكتب ولقاء العلماء مهما بَعُدت أماكن ذلك.
والإستعداد النفسي يُولد مع الإنسان ويعظم مع الأيام والليالي ، لكنه لا يثبت في النفس ويقوى إلا بالدعاء والتقوى وإصلاح النِّية .
وفي قصة موسى والخضر عليهما وعلى نبينا أزكى الصلاة والسلام – كما في سورة الكهف – ما يدل على حب العلم والإستعداد النفسي له والحرص عليه واقتحام المخاطر والمهالك في سبيله ، وهي سنة مهجورة في كثير من أبناء زماننا .
ومن أراد أن ينتفع بقصة موسى والخضر وما فيها من اللطائف والعجائب التي تشحذ الفؤاد وتقوي البصيرة ، فليطالع رواياتها في كتاب الرحلة في طلب العلم للخطيب البغدادي (ت: 463هـ) رحمه الله تعالى ، ففيها فرائد وفوائد لا تجدها في كتب التفسير.
ومن نوادر القصص في الإستعداد النفسي للعلم ، رحلة الفقيه الأصولي المحدِّث بقي بن مخلد (ت: 276هـ) رحمه الله تعالى من الأندلس إلى بغداد ، ليقرأ على الإمام أحمد (ت: 241هـ)رحمه الله تعالى ، فقد قطع الآف الأميال للسماع من إمام أهل السنة والجماعة في زمانه ، في وقتٍ كثُرت فيه الفتن مع قِلة الزاد والمزاد.
وقد سبق هذه الرحلة لبقي بن مخلد التفكير في مآلاتها والإستعداد النفسي والمادي المحدود لها ، مع الصدق والتوكل على الله تعالى .
ولما دخل بقي بن مخلد كابد حتى وصل بغيته وأمله، والتقى بالإمام أحمد بعد جهد ومشقة ، وسلَّم عليه وفرح بلقائه ، فقال له أحمد : أين موضعك ؟ فرد بقي عليه : المغرب الأقصى ، فقال أحمد : إفريقية ؟ فقال : أبعد من ذلك ، أجوز من بلدي البحر إلى إفريقية : الأندلس ، فقال إن موضعك لبعيد ! .
وعبارة ( إن موضعك لبعيد ) من الإمام أحمد لبقيّ عبارة عميقة، تلخص هذه المَلكة العلمية والإستعداد لها بكل مراحلها ، بما فيها من صبر وظفر وحصول مأمول .
وقد مكث بقي مدة من الزمن يقرأ ويحفظ ويُحِّقق المسائل في العراق ،في وقت فتنٍ كانت ببغداد ، ثم رجع إلى أهله في الأندلس .
وهذا الفقيه الألمعي من مناقبه أنه شهد سبعين غزوة في سبيل الله . وهذا من توفيق الله له أن هيَّأ له أسباب العلم وأسباب الجهاد ، طلباً لمرضاته .
وهذه القصة صحيحة وثابتة ، وقد وهِم بعضُ أهل الرواية في تضعيفها .
انظر : ( مقدمة مسند بقي بن مخلد للدكتور أكرم العُمري ص/ 39- وما بعدها ).
2-الإجتهاد :
بذل الجهد ، وهو الرغبة في العلم وتحرِّي الحق والصبر على الأذى فيه .وهذا الركن مكمِّل لما قبله ، وإذا ضعف أحدهما
ضعف الآخر .
ويُضمُّ إلى معناه : المذاكرة والتحضير والحفظ والتكرار والتلخيص .
فحَملُ القلم بين السبابة والإبهام لتلخيص الكتب وفهمها لا يحصل إلا بتوفيق الله ، ثم بالصبر والجهد والتعب والسهر والمشي والسفر وبذل المال ، ونحو ذلك من المطالب العالية .
وقد قال المتنبي(ت:354هـ) رحمه الله تعالى يحضُّ نفسه على تحصيل المعالي :
تُريدين ادراك المعالي رخيصةً
ولا بد دون الشَّهد من إبر النَّحل .
ومسائل العلم عموماً والأصول خصوصاً، لا يتصدَّ لها إلا قلة قليلة ممن شحذوا هممهم وشمَّروا وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل تذليل الصِّعاب.
وانظر إلى هِمَّة العلامة القرافي (ت: 682هـ ) رحمه الله تعالى ، فقد مكث عشرين سنة يتحرَّى الجواب في مسألة أُصولية لغوية وهي مسألة : أقل الجمع ـ كما سطَّر في كتابه العقد المنظوم (2/161):
” إشكالٌ عظيم صعب، لي نحو عشرين سنة أُوْرِدُهُ على الفضلاء، والعلماء بالأُصول والنحو، فلم أجد له جواباً يُرضيني، وإلى الآن لم أجدْه، وقد ذكرته في شرح المحصول، وكتاب التنقيح، وشرح التنقيح، وغيرهما، مما يسَّره الله تعالى عليَّ من الموضوعات في هذا الشأن “.
ولا غرابة في هذه الهمة العالية ، فإن من ذاق حلاوة العلم هان عليه كل صعب وعسير، وانقاد له كل ثقيل وشديد ، بعون الله وتسديده وتوفيقه.
وعِلم الأصول من أفضل نفائس الأعلاق، وأحق ما رُمق بالأحداق وصُرفت له همم الحُذَّاق .
فأين أهل الهمم وأين طلاب العلم والقمم ؟!.
ومن اجتهاد أهل العلم ، جهاد الفقيه الأصولي خليل المالكي (ت: 776هـ)رحمه الله تعالى في تحرير كتابه المختصر، في نحو عشرين سنة ، يُهذِّبه وينقِّحه ويُراجعه حتى استوى على سوقه يُعجب الزُّرَّاع نباته .
وقد أسهب العلماء في الثناء عليه حتى قيل حوى ألف ألف فرعٍ منطوقاً ومثلها مفهوماً .
كل ما سبق تحقَّق بفضل الله تعالى ، ثم بفضل الإجتهاد عند أولئك الرجال ، والصبر على مرارة التعب والكدِّ والسهر ، لتحصيل المعالي في الدنيا والآخرة.
3-معرفة الأدلَّة :
المقصود بمعرفة الأدلة : العلم بالمتفق عليه والمختلف فيه من الأدلَّة عند الأصوليين، وأحوال الأدلة وما يتعلق بها من أحكام،
فيجب الوقوف على كل ذلك ، ويكون هذا بتدبر كتاب قديم في الُأصول مع كتاب معاصر في الأصول ، حتى تفهم العبارات والجُمل التي يستغلق فهمها .
وأسماء المتون الأصولية يختارها المعلِّم المتقن ، الذي يكون منهجه على خير ٍوتقوى وصلاح . والمتون الجيدة كثيرة ومتوفرة ولله الحمد .
وليس المقام هنا مقام استيعاب لسرد مسائل الأدلة ، إنما المقصود الإشارة لضرورة الإحاطة بمعرفة الأدلة ، حتى لا يلجأ الباحثُ في بحثه وفهمه ، إلى ما يُضعف حجته ويرد استدلاله ، كما قال الشاعر :
إذا أعيا الفقيهَ وجود نصٍ.. تعلَّق لا محالة بالقياسِ
وهناك منهجية جيِّدة لفهم الأدلة ومدلولاتها أشرتُ إليها في كنابي ( الخريطة الأصولية ) .
وملخصها أن تستخرج المقصود بالدليل وموضوعه ووجه الإستشهاد به بشكل موجز ، وتكون في دفتر خاص أو كراسة ملحقة بالمتن أو الشرح الذي تطالعه أو تدرسه ، وتكون مفهرسة ومجدولة .
فإذا احتجت إلى مراجعة دليل عرفت مناسبته ووجه الإحتجاج به في وقت يسير . وقد جرَّبتُ ذلك فوجدته نافعاً جداً .
والدليل النقلي من ناحية السند عند الأُصوليين له أربع حالات:
أ-قطعي الثبوت قطعي الدلالة.
ب-ظني الثبوت ظني الدلالة .
ج-قطعي الثبوت ظني الدلالة.
د-ظني الثبوت قطعي الدلالة.
وهذه الحالات الأربعة تُبحث في كتب المصطلح في الغالب ، لأنها متعلقة بحال السند ورجاله .
أما من ناحية دلالة الدليل على الحكم ، فإن الدليل النقلي قد يكون قطعي الدلالة وقد يكون ظني الدلالة .
فقطعي الدلالة هو الذي لا يحتمل سوى ذلك المعنى المراد ، مثل قول الله تعالى : ” ولكم نصفُ ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد ” ( النساء: 12) .
ففيه دلالة على استحقاق الزوج نصف ميراث زوجته عند عدم وجود ولد لها .
أما ظني الدلالة فهو ما يحتمل الدلالة على الحكم مع معنى آخر مساوي أو مقارب له .
مثل قول الله تعالى : ” والمطلقات يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قُروء ” ( البقرة: 228) .
والقُرء يحتمل الحيض والطُّهر بحسب المفهوم الُّلغوي .
أما الإجماع فدلالته قطعية ، وما سواه كالقياس والمصالح المرسلة والإستحسان فالدلالة ظنية في كثير من الصور ،كما هو متقرر عند كثير من الأصوليين .
وهنا فائدة مهمة قد تخفى على كثير من الباحثين وهي أنه يرد في كتب الأصول عبارة : دليل هذه المسألة ( الإستدلال ) .
والإستدلال هو دليل ليس بنص ولا إجماع ولا ولا قياس .
وهو أنواع : التلازم بين الحكمين من غير تعيِّين علة وإلا كان قياسا ً، مثل : كل وضوء عبادة وكل عبادة تفتقر الى نية فيلزم منه :
كل وضوء يفتقر إلى نية . ثم الإستحسان ثم المصالح المرسلة ثم شرع من قبلنا ثم استصحاب الحال.
فيكون الإستدلال مُنطبقاً على قول الصحابي والعرف وسدِّ الذرائع .
وقد كان شيخي عبد الكريم النملة (ت: 1435هـ )رحمه الله تعالى ، يُكثر من الإحتجاج بالإستدلال المشار إليه ، في كثير من كتبه وتحقيقاته ، ولا يُورد نصاً ولا إجماعاً ولا قياساً يعضد حجته ، مما سبَّب له نقداً واستدراكاً عليه، من كثير ممن يجهل دقائق علم الأصول ، فليته نبَّه على هذا في ثنايا مؤلفاته وتحقيقاته، فليحرَّر هذا المعنى فإنه نفيس جداً.
والسُّنة عند الفقهاء هي كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن من باب الفرض ولا الواجب . أو ما يثُاب على فعله ويعاتب على تركه ولا يعاقب.
أما عند الأصولييِّن فهي ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير القرآن من قول ، ويُسمَّى الحديث ، أو فعل أو تقرير.
والدليل العقلي مهم عند الإستدلال به ، لكنه مرتكز على الدليل النقلي ومنضبط بقواعده الشرعية.
والدليل العقلي يكون بنظر المجتهد مثل : القياس ، الإستحسان ، المصالح المرسلة ، الإستصلاح .
ويمكن الإفادة من كتاب الموافقات للشاطبي(3/21- وما بعدها ) لمعرفة كيفية الإستدلال بالدليل العقلي وأسباب الإستدلال به.
وإذا سار الباحث في العلوم الأصولية على هذه الجادة بلا كلل ، فإنه إن شاء الله تعالى سَيحكم أطراف المسائل ويُبرم طاقاتها ويفتلها ، فتكون بين يديه سهلة منقادة مخبتة لا عِوج فيها .
4-فهم المصطلحات :
المقصود بفهم المصطلحات : التصور الصحيح لمعاني المصطلحات الأصولية على المعنى الشرعي المراد عند أهل الصنعة الموثوق بعلمهم، مع ربط دليل المصطلح وثمرته بأبواب ومسائل الأُصول.
وأهل الثقة هم أهل السنة والجماعة ممن لهم باع في هذا الفن وشهد لهم كثير من العلماء بالتقوى والعلم والتمكُّن والنصح .
وأهل العلم من الأصولييِّن المتقنين لهذا الفن إذا كان عندهم أخطاء في العقيدة ، فيستفاد من مصنفاتهم لكن من خلال معلم متمكن أو طالب علم فطن ، ولا يصح نبذ مؤلفاتهم بالجملة ، لكن يؤخذ ما فيها من الفوائد والدُّرر وينبَّه على الخطأ الوارد برفق وحكمة مع الدعاء لهم بالمغفرة .
والمصطلحات مثل : الاستحسان، البراءة الأصلية ، التكليف ..الخ.
والأحسن والأكمل فهم المصطلحات من الشروح المعتبرة أو من تقريب المعلِّم المتقن لهذا الفن، مع المثال والتلخيص بقدر الإمكان.
وفهمها من المعاجم الحديثة كما يفعل الكسالى ، لا يكفِ ولا يشفِ، لأن المعاجم تميل إلى الإيجاز أو القصور العلمي ، من غير ربط بالأمثلة في كثير منها.
ويتم فهم المصطلحات في كل باب من أبواب الأُصول على انفراد ، ثم تُراجع ويتم ربطُ بعضها ببعض عند الحاجة إلى ذلك ، كما في الأمثلة التالية:
أ- الأخذ بالأخفِّ : يتم فهم معناها وهو : اعتماد الدليل الأدنى من الأقوال في المسألة حتى يدل دليل على الأثقل .
وهو حجة عند الشافعية . ويلزم ربط هذا المصطلح بالبرآءة الأصلية لأنه ضربٌ منها ، مع الأمثلة والإستدلال بالدليل النقلي والعقلي .
مثل دية الكتابي والخلاف في تقديرها ، فلا يصح مساواتها بدية المسلم ولا بنصف ديته ، بل بالثلث . والثلث هو أقلُّ ما قيل أو الأخذ بالأخف.
ثم مع المراجعة والمذاكرة يُنظر هل هذا المصطلح : دليل نقلي أو عقلي ؟ ، هل هو حكم تكليفي أم وضعي ؟ ، هل هو من أحوال الأدلة : النسخ والتعارض والترجيح ؟،
هل هو من دلالات الألفاظ وطرق الإستنباط ؟.
ثم على ضوء الجواب للمسألة يتم معرفة الثمرة بمراجعة كلام العلماء باختصار من غير تطويل .
ففي هذه المسألة نقول: الأخذ بالأخفِّ من ضروب الإستصحاب وهو من الأدلة المختلف فيها ، وهو محلُّ اجتهاد وترجيح عند العلماء بحسب المسألة. لكن يستفاد من ثمرة المصطلح حديثياً وفقهياً على ضوء ترجيحهم ومذهبهم.
(انظر : المغني لابن قدامة 8/527، وبداية المجتهد 2/376، وإرشاد الفحول / 244).
ب- العزيمة : الحكم الثابت بدليل شرعي خالٍ عن معارض راجح.
مثالها : الأحكام التكليفية الخمسة . وقصرها الآمديُّ في الإحكام على الواجب فقط . دليلها : كل نصٍ فيه حكم تكليفي .
ربط المصطلح بالأبواب والمسائل : يتعلق بالحكم التكليفي والوضعي . ثمرة فهم المسألة : وجوب الإمتثال لكل ما أمر الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم – به ، و الكفِّ عن ما نهى الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – عنه .
(انظر :شرح المحلِّي على جمع الجوامع بحاشية العطار1/65).
ج- المباح : هو الجائز والحلال والمطلق ، وما لا يُثاب على فعله ولا يعاقب على تركه ، وهذا القيد موضع خلاف
عند بعض العلماء.
دليله :” أُحل لكم صيدُ البحر ” ( المائدة: 96). وكل نص أفاد الإباحة وعدم الجناح وعدم الإثم .
ربط المصطلح بالأبواب والمسائل : يتعلق بالحكم التكليفي والوضعي ، وله تعلُّق بالأدلة المتفق عليها والأدلة المختلف فيها ، وله تعلُّق بمقاصد الشريعة والسياسة الشرعية وسلطة ولي الأمر .
(انظر : شرح المحلِّي على الورقات مع حاشية النسمات ص/ 20- وما بعدها ).
ووصيتي مطالعة الشروح المختصرة ثم المتوسِّطة ، حتى يمكن استيعاب المصطلحات وربطها بأدلتها وأمثلتها ، ففي ذلك نفعٌ كبير على الباحث ومريد ثمرة المسائل للعمل بمقاصدها .
5-تحرير القواعد :
المقصود بتحرير القواعد : التعليق على القواعد المقرَّرة في مصنفات علم الأصول ، مع ربطها بالفقه والعلوم المتعلقة بها.
فكل قاعدة ترد في المتن أو الشرح الأُصولي أو عند تعليق المعلِّم أو الشارح ، يجب تقييِّدها وبيان المعنى العام لها .
وهذا يكون بالقلم على المتن أو الشرح نفسه ، بالطريقة البيانية أو التشجيرية ، أو حسب ما يتيسر للطالب مما يُحبِّبه للفقه وأصوله .
والباحث يمكنه استثمار القواعد الأُصولية أو الفقهية في المذاهب عامة استثمارًا نافعًا بالطرق الآتية:
الأولى: النظر إلى حِكم الشرع ومقاصده المتضمنة في تلك القواعد، كما نبَّه على ذلك العلامة القرافي (ت: 684هـ) رحمه الله تعالى في كتابه الفروق في مقدِّمته.
الثانية: أن ضبط المذهب يكون من خلالها لأنها معالم ثابتة تلمُّ شتات المسائل كما نبَّه على ذلك ابن رجب (ت: 795هـ) رحمه الله تعالى في كتابه القواعد في مقدِّمته.
الثالثة: أنها وسيلة لمعرفة مفردات المسائل والأشباه والنظائر كما نبَّه على ذلك السُّيوطي (ت: 911هـ) رحمه الله تعالى في مقدِّمة كتابه الأشباه والنظائر.
الرابعة: التدرُّب على الاستقراء وتقوية الفِطنة لإعمال الذهن وإدامة النظر في الفروع الفقهية، وليس كما قيل الغُمر يضرب في حديد باردٍ.
فهي تقوي الهِمَّة وتنشِّط العقل لجرد المصنفات والتنقير فيها، فليت الباحثين يعتنون بذلك لتنمية مَلكاتهم الأصولية.
وهنا فائدةٌ مهمةٌ لعل كثيرًا من الباحثين لا يتفطَّنُ لها، وهي أنه: إذا وقع حادثٌ ليس فيه نصٌّ فقهيٌّ، ولم يذكر الفقهاء حكمه، وكانت المسألة جديدة ليس لها نظير، فحينئذ يجوز استنباط الحكم من القاعدة الفقهية.
ولكن كأدلة قضائية وحيدة لا يجوز الرجوع إليها؛ لأن العلماء صرَّحوا بأنه لا يجوز بناء الحكم على أساس القواعد، ولا ينبغي تخريج الفروع عليها؛ فإنما هي شواهد يُستأنس بها في تخريج الأحكام الجديدة على المسائل الفقهية المدونة.
قال ابن نجيم (ت: 970هـ) رحمه الله تعالى: ” إنه لا يجوز الفتوى بما تقتضيه القواعد والضوابط ، لأنها ليست كلية بل أغلبية “.
“وحُكاَّم الشرع ما لم يتفقوا على نقل صريح لا يحكمون بمجرد الاستناد إلى واحدة من هذه القواعد”.
انظر : (غمز عيون البصائر للحموي1/17- وما بعدها ، ودرر الحكام 1/10- وما بعدها ).
فهي منهج لتسهيل القياس والبناء عليه وتصور المسائل وفهمها . والله أعلم.
انتهى الدرس الثالث ، ويليه الدرس الرابع إن شاء الله تعالى.
هذا ما تيسر تحريره والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
1441/1/18