خواطر رأسِي بعد عَزلِ مُرسِي !
فلسفة التأريخ أو ما يُعرف بتعليل الحوادث التاريخية ، علم تصدَّر له المؤرِّخون وأهل السِّير لتوضيح سنة التدافع ، وهو يقوم عند أهل السنة والجماعة على الإيمان بالقضاء والقدر والإذعان لأمر الله ونهيه وعدله وسُننه ، وأن وظيفة الإنسان في الحياة عبادة الله وعمارة الأرض على منهج الله ،لا على منهج مَن سواه .
وإذا كان المؤرِّخون يقولون إن الحكم مَحرقة ومخرقة ، وهو بلاء يُسلِّطه الله على من يشاء من عباده ، فإن فيه عِبرا ودروسًا عظيمةً ، ومنها ما وقع أمس في الدِّيار المصرية ، فرَّج الله هم أهلها ونفَّس كربهم ويسر لهم كل خير .وقد نصَّت القاعدة الأصولية على أن ما وجب بيانه ، فالتعريض فيه حرام ، لأنه كتمان وتدليس .
• وهذه خواطر شرعية وتأريخية مؤصَّلة ،وفيها فوائد راسخة جامعة للأحداث :
1- لا يجوز تلقِّي المعارف العلمية والحكمية من غير مادة الشرع الحكيم ، لأن فيها الحكمة والعدل والتوازن ، قال الله تعالى :”لقد أرسلنا رسلنا بالبيِّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط”( الحديد: 25) ،وهلاك الناس إما بسبب مخالفة ما أنزل الله ، أو بعدم الاعتبار بما في شرع الله من دلائل ، والعبرة هي بمعرفة طريق النجاة من الفتن والمزالق .
وصدق ابن دُريد(ت:321هـ) رحمه الله تعالى حين قال في المقصورة :
لا تعجبن من هالك كيف هوى
بل فاعجبن من سالم كيف نجا
2- لا يجوز الاغترار بالقوة والسلطة : فالجميع مُذعن لأمر الله وقدرته ، فلا يجوز الاغترار بسلطة أحدٍ كائنًا من كان، قال الله تعالى : ” أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشدَّ منهم قوة ، وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليمًا قديرا “(الروم :9) .وفي سورة القصص تأصيل لهذا المعنى ، فلتراجع .
3- إن كان الإمام أحمد(ت:241هـ) رحمه الله تعالى قد قال:” ثلاثة أُمور ليس لها إسناد : التفسير والملاحم والمغازي ” ، فإن الله تعالى يسوق العِبر والسِّير والمغازي إلى العباد في حياتهم ليتفطَّنوا وليتفكروا فيها مباشرة بلا واسطة ، فلا عُذر لأحدٍ بعد إقامة الحجة عليه عيانًا بيانًا .
فما سمعته أُذناك ولم تره عيناك في أمس الذاهب ،قد يسوق الله أمثاله أمام عينيك ، ليتحقق في فؤادك أن الله هو المدبِّر وأنه لطيف بعباده خبير بهم وكل شي بقدرته وسلطانه .ومن أعظم العبر: المعاطب في الولايات والندم عليها ، وقد قيل : كل ولاية لا تخلو من المشقة، فمن لم يكن له من الله إعانة تورَّط فيما دخل فيه وخسر دنياه وعقباه، فمن كان ذا عقلٍ لم يتعرَّض للطلب أصلاً، بل إذا كان كامناً وأُعطيها من غير مسألة فقد وعده المعصوم بالفلاح .
4- نُحبُّ في الله كل من أحبَّ الله وأحبَّ دينه وعمل له ، مهما كان لونه أو جنسه ، حتى وإن ضُيِّق عليه أو حُبس أو شُرِّد . وفي الحديث :” أوثق عُرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ” أخرجه المنذري بإسناد حسن .ومن كره شرع الله فقد كره حكم الله عياذاً بالله . قال الله تعالى :”ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم” (محمد: 9) .
5- لا يجوز نسبة أخطاء المسلمين إلى الإسلام نفسه ، بدعوى الإنتماء لجماعة معينَّة له . فأحكام الاسلام كاملة وثابتة كما قال الله تعالى : ” وتمَّت كلمة ربك صِّدقا وعدلا” (الانعام: 115) . والفتن التي تسفك فيها الدماء يجب الامساك عن الخوض فيها بدون علم وبصيرة ، وهذه فتنة مصرية ، وأهل مصر أدرى بشعابها .
6- تبرئة الأشخاص لا تُساوي تشويه المنهج ، فالمنهج أعظم من الأشخاص ، والحق لا يُعرف بالرجال ولا بكثرة من قاله ، إنما يُعرف الرِّجال بقدر تمسكهم بالحق وإن كانوا من أقلِّ الناس وأضعفهم . قال عبد الله بن مسعود(ت: 32هـ ) رضي الله عنه :” الجماعة ما وافق الحق وإن كنتَ وحدك “. والحق يُعرف بمورد الوحي لا بمورد السمعة والصيت ! ، فاحفظ هذا فإنه نفيس .
7- السيادة والنَّصر والعزة والتمكين لا تتحقق إلا بالإيمان والتقوى والعمل بالأسباب الكونية والشرعية ، وبالتفريط فيها يحدث ما وضَّحه القران من حصول الإنشقاق والفتنة والتحزب . قال الله تعالى :” ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط ” ( الأنفال: 47 )وقال سبحانه :” ولكل ُأمةٍ أجل ” ( الأعراف: 34)، وقد صح في المرفوع أنه صلى الله عليه وسلم قال: “سألتُ ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألتُ ربي أن لا يُهلك أُمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يُهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها “. أخرجه الترمذي بسند صحيح .
8- السلوك الانساني عامة مجبول على كراهة ما يُخالف العادة وما ألفِهُ الإنسان في حياته ، بسبب بيئته وتأثير من حوله ، لكن الرضا بقضاء الله مُقدَّم على هذا السلوك . قال الله تعالى : ” وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم” ( البقرة:216 ) وقال سبحانه: ” فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرا ” ( النساء: 19).
9- صدق مصطفى السباعي(ت:1384هـ ) رحمه الله تعالى حينما قال : “سلامة القلب، ونظافة اليد، وصحة العقيدة، واستقامة الأخلاق، لا تكفي وحدها للنجاح في مُعترك السياسة ، ما لم يُضف إليها: ألمعية الذِّهن، ومرونة العمل، وحرارة الروح، وتفهم مشكلات المجتمع وطبائع الناس”.
وهنا مثال تأريخي يختصر المشهد وقع لابن السكِّيت (ت: 244هـ) عامله الله بعدله ، وقد كان من أكبر علماء الُّلغة ، وكان مُؤدِّبا لابني الخليفة العباسي المتوكل، وكان في الخليفة على فضله شيئ من النصب كما يُروى عنه ، فقال لابن السكِّيت يوما : أيهما أحبُّ إليك ابناي أم الحسن والحسين ؟!
فقال : قنبر ! ، فأمر الخليفة الجُند فداسوا بطنه، فمات في اليوم التالي من عثرة لسانه ، مع أنه هو القائل :
يموتُ الفتى من عثرةٍ بلسانه
وليس يموتُ المرءُ من عثرة الرِّجل
فعثرتهُ بالقول تُذهب رأســــــــــــه
وعثرته بالرِّجل تبرأُ على مَهل ! .
10- من فِقه الامام الطبري(ت: 310هـ)رحمه الله تعالى في مُصنَّفه تاريخ الأمم والملوك : أنه لخَّص ما كتبه من حوادث وأخبار في كلمات يسيرة عقدها في مُقدِّمة كتابه بقوله :” الناس أمام نِعم الله فريقان ، فريق شَكر نعم الله فزاد من شاء منهم في الحياة الدنيا، إضافة الى ما ادَّخره له في الاخرة ، ومنهم من لم يؤت شيئًا من أجره في الدنيا، بل أجَّل ذلك له إلى يوم القيامه .وفريق كفر فسلب الله من شاء منهم عنه النعمة وعجَّل له النِّقمة والهلاك ، إضافة إلى ما يناله يوم القيامة ، ومنهم من زاده الله سَعةً في الحياة الدنيا رغم كفرانه، وهذا من باب الاستدراج له ، وأخَّر عذابه إلى يوم القيامة ” . ومقصود الطبري يلُخَّص في قول الله تعالى :” “إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا” (الكهف:7) .
11- لا بُدَّ من الصبر على مرارة الحوادث التي تُخالف ما يعتقده الانسان من خير وفلاح للمؤمنين المتمسكين برضا الله ورضوانه ، والأمور بالعواقب لا بالفواتح ، قال الله تعالى :” قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين”( الأعراف: 128 ) .
12- أحكام الدِّيار لا تُستخرج من أهواء الناس ولا من ثقافتهم ولا من أقوال الطوائف المزكِّين لهم ، إنما تُستخرج من وحي الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وعقيدة الرسل التي لا تتبدَّل ولا تتغيَّر على تعاقب الأزمنة والقرون ، ، وفساد المنهج الباطل إن لم يظهر للناس حالًا فسوف يظهر لاحقًا ، وبعض الناس لا يقنع بهذا لضعف اليقين في قلبه ، وقد قال الله تعالى :” ولنبلونَّكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم “( محمد:31 ) وقد وقع في هذا الفهم المغلوط الشاعر حين قال :
إذا لم يَغبرَّ حائطٌ في وقوعهِ
فليس له بعد الوقوعِ غُبار .
وهناك قاعدة أُصولية نبَّه عليها الامام الشافعي(ت:204هـ ) رحمه الله تعالى وهي: أن الحق لا يجوز عند الله إلا أن يكون واحداً، لاستواء السرائر والعلانية عنده سواء .وهذا المعنى يزرع اليقين في قلب المؤمن بأن العاقبة لأهل الحق .
وكما قيل : العلم نفعه برفعه، فنسأل الله أن يرفعنا وينفعنا بِهداه .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات