بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..

فهذه تأصيلات مليحات وغُرر مُورقات،أمليتُها على طلابي في المسجد، بعد أن علَّقتُ لهم على كتاب صفة الفتوى لابن حمدان  الحنبلي(ت: 695هـ )رحمه الله تعالى.

وكان القصدُ منها تسهيل طريقة إلحاق الفروع بالأُصول ،بعد معرفة طريقة ضبط الفتوى وشروط أهلية المفتي.

ومناسبتُها أنه وردني سؤالٌ من أحد الطلبة حول جواز وصية الكافر، لو أوصى لورثته قبل وفاته، فأجبتُ بالجواز لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ” ما حقُّ امرىٍ مسلمٍ له شيٌ يُوصي فيه ، يبيتُ ليلتين ،إلا ووصيتهُ مكتوبةٌ عنده ” متفق عليه.

وهذه الفتوى مُخرَّجة عند العلماء على أن المنطوق خرج مخرج الغالب،فتجوز وصية الكافر كما تجوز وصية المسلم،لأن المفهوم هنا معتبر،والمنطوق محمولٌ على الغالب ،كما هو مقرَّر عند الأصوليين*.

*(انظر: فتح الباري :5/357).

وإلحاق الفروع بالأصول إحدى المراتب الثلاث لبلوغ درجة  الإجتهاد والإستنباط : تعلم الأصول،و تعلم الفقه ، وتعلم أحكام الفتوى والتخريج.

وثمرة هذا العلم: فهم المسائل الفقهية،والقدرة على معرفة مناط الأحكام،وليعبد المسلم ربَّه على بصيرة وطمأنينة.

ويشكو كثيرٌ من الطلاب من الضيق والضجر والحَنق ،عند دراسة علم الأصول ،وتتعسَّرُ عليهم الدِّراية بهذا الفنِّ الممتِع.

وهذه المعضلة لها سببان :

الأول : عند المعلِّم ،وهي عدم تشويقه وتقريبه لهذا العِلم المبارك لأهله الأكفاء.

الثاني : عند الطالب ،وهي إقباله على جرد الكتب الكبيرة قبل فهم وهضم الكتب الصغيرة.

والحلُّ الناجع : تصبير النفس على تفهيم الطلبة وتشويق علم الأصول لهم بأيسر الطرق،ثم تحفيزهم للحفظ والفهم على مهل وأناة لشهور، حتى تنضج المَلكَة في أذهانهم ،مع زرع الهِمَّة في نفوسهم ،حتى يُقبلوا على هذا العِلم بعزيمة وقَّادة.

والإلحاق أو البناء أو التخريج مترادفات لأصلٍ واحد ،وهو معرفة مأخذِ الحكم الشرعي وتعليله ودليله ،وكيفية بنائه.

وليس المقصود بهذا العلم الأشباه والنظائر أو الفروق،لكنهما ثمرة من ثمرات بناء الفروع على الأصول.

وإلحاق الفروع بالأصول المقصود به : العِلمُ الذي ُيبيِّن القواعد الأصولية التي بنى عليها الأئمة أو أحدُهم الأحكام الشرعية التي أفتوا بها في الفروع مع ربطها بالقواعد،وهذا يشمل الحاق الفروع بالأصول وإلحاق الفروع بالقواعد ،التي لا فتوى لها عند الأئمة*.

*( انظر: مجلة جامعة أم القرى : العدد: 45/1429هـ / مقال للأستاذ محمد بكر حبيب حول التخريج وتاريخه).

وإلحاق الفروع بالفروع هو في الأصل قياس مسألةٍ على ما يُشبهها، بعد فهم المعنى الذي من أجله كان الحُكم في المسألة الأولى، كما في كتب المذاهب الفقهية وكتب الفقه المقارن.

ويبدو أن إلحاق الفروع بالأصول اعتنى به الحنفية قبل غيرهم من الفقهاء والأصوليين ،كما في كتاب” تأسِّيس النظائر” للسمرقندي(ت: 373هـ) ،وكتابه هذا مزيج من القواعد الفقهية والقواعد الأصولية. ومثله تأسيس النظر للدبوسي(ت: 430هـ ).

ثم ظهرت كتب جيِّدة ومتينة في البناء والإلحاق والتخريج مثل: مفتاح الوصول للتلمساني(ت: 771هـ)والتمهيد للإسنوي(ت: 772هـ ) والقواعد والفوائد لابن اللحام(ت: 803هـ)، والوصول إلى قواعد الأصول للتمرتاشي(ت: 1004هـ )رحمهم الله تعالى.

وتخريج الفروع على الأصول نوعان:

الأول: إلحاق الفروع الفقهية الموجودة والمنصوصة عن الفقهاء أو أحدهم بقواعدهم الأصولية.

الثاني: إلحاق المسائل والفروع الجديدة التي ليس فيها نصٌ عن الأئمة بقواعدهم الأصولية التي بنوا عليها فروعاً تُشبهها.

والمقصود بالفروع : المسائل الإجتهادية في الفقه، والأُصول هي القواعد والأدلة.

وخُلاصة الإلحاق تكون : بتأمل الفرع الفقهي الوارد في المتن الأصولي أوالفقهي،ثم النظر في أدلته إن وجدت ،فإن لم توجد يُنظر في المعاني والقواعد ،ومعرفة التعلق بينها وبين الدلائل الأصولية،مع مراجعة الكتب الأصيلة في الفنِّ ،لاستخراج حُكم أغلبي على ضوء ما قعَّده العلماء.

مثال ذلك: قضاء المغمى عليه للعبادة إن كان بغير اختياره، فإنه لم يثبت في السُّنة السنة القطعية ،واستُدل على عدم القضاء بالقياس،كما حرَّره المحققون.

ومثال آخر: الصلاة على الميِّت في المسجد جائزة، تخريجاً على قاعدة الاستصحاب.أما الاستدلال على المنع بحديث: ” نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي، وخرج إلى المصلَّى فصفَّ بهم  وكبَّر أربع تكبيرات” متفق عليه، فاستدلال مرجوحٌ، لأن الصلاة محلُّها المسجد إلا ما استثناه الدليل ، ولم يوجد ما يمنع ذلك،بل صح خِلافه *.

*(انظر: الهداية للمرغيناني 1/78، ومجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر لزاده داماد 1/155، والتمهيد لا بن عبد البر3/290 و6/344، والموسوعة الفقهية 11/110).

والواجب على كل صاحب هِمة مُحنَّك نبيه ،حتى يُتقن إلحاق الفروع بالأصول ، فِعلُ عشرة مطالب :

الأول: دراسة متنٍ أُصولي مختصر مع شرحه على معلِّم ضليع ،ولن أحدِّد متناً أو كتاباً ،لأن البلاد والمذاهب والمدارس تختلفُ في التناول والتقديم والتأخير، في موضوع الكتب والمتون .

يلي ذلك مذاكرة وفهم الكتب المعتنية بالقواعد الأصولية والفروع الفقهية مثل: مفتاح الوصول للتلمساني ، والتمهيد للأسنوي ، وقواعد ابن اللحَّام ، وأسباب اختلاف الفقهاء للتركي.

ويكفي لهذه ستة أشهر، إن كان الطالبُ متفرِّغاً لهذا المطلب،وإن لم يجد تفرغاً فليُذاكر على مهل حتى يفرغ من الجميع بفهم واستيعاب*.

*(أشار إلى هذا المعنى الجدُّ ابن تيمية كما في المسوَّدة ص/116في مسائل العموم، وهذا المسلك كان جادَّة مطروقة، كما في الضوء اللامع للسخاوي، ففي تراجمه للعلماء يقول عن أكثرهم : قرأ فلانٌ الكتاب الفلاني: قرآءة بحث ونظر وتأمل ).

الثاني: قرآءة متنٍ فقهي بفهم مع شرحه على معلِّم ضليع في معرفة الأحكام، فإن هذا مما يُقوِّي عنده المَلكة الفقهية ، وطريقة استخراج الأحكام من أدلتها ،وسلَّماً للترقِّي في فهم الأصول الفقهية من خلال المسائل العلمية.

والمتن المناسب هو الكتاب الذي اعتمده علماء المذهب بحسب تأهيل الطالب واستعداده.

ودراسة الفقه بدون التأهل في الأصول، خطرٌ على طالب العلم، ودليل ذلك مثلاً فهم بعض الناس من حديث : ” نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلقِّي الرُّكبان” أخرجه البخاري، أن البيع هنا لا يجوز.

والصحيح صحة بيع متلقِّي الركبان، تخريجاً على قاعدة : النهي إذا كان راجعاً إلى أمر خارج عن المنهي عنه ، فإنه لا يَقتضي فساده.فإن لم يكن هناك ضرر مُتحقِّق فالبيع صحيح*.

*(انظر: شرح تنقيح الفصول 174، وفتح الباري4/374) .

ويجب على طالب العلم أن يُراجع شيخه في الفروع الفقهية التي لا يقف لها على أصل يُخرِّج عليه،وقد روى جابر رضي الله عنه أنه كان في سفر فأصاب رجلا شجَّةً في وجهه ، ثم احتلم ،فسأل عن رخصة التيمم ،فقال أصحابه : ما نجدُ لكَ رخصةً وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات “. أخرجه أبو داود بإسناد صحيح.

الثالث: تقسيم الأُصول الفقهية على الدلالات ،مثل باب الأمر تحته خمسة أصول ويكتبها أو يحفظها،ثم باب النهي ،ثم العام والخاص ، ثم المطلق والمقيد ،وهكذا باقي الأبواب حتى ينتهي من الأصول مقسَّمة على دلالاتها.

والأصول تُستخرج من كتب التخريج السابقة ،أو من كتب الأحكام التي قرَّر العلماء فيها ذلك ،وهذا بإشراف المعلِّم ومتابعته.*

*(الملاحظ الآن بحسب اطلاعي : اعتماد الطلبة على حاسة السمع أو على حاسة البصر في التكوين العلمي الأصولي،وهذا خطأ محض، ولن يتأهَّل الطالب بهذه المنهجية،لأن هذا العلم لا يُنقش في الذهن إلا بالتطبيق الكتابي والعملي،لأنهما الوسيلة الصحيحة المحقِّقة للفهم. وقد طبَّقتُ هذا المعنى مع طلابي من خلال كتابين: الورقات للجويني والتنقيح للقرافي، فوجدتُ أن المطالعة والتكرار للكتابين لا ثمرة لهما في الدراسة النظرية ، لكن عند التطبيق العملي والكتابي ،يظهر الفهم والتفريق بين الدلالات وقدرة الطالب على الإستيعاب والتحليل.وهذا المعنى مهم جداً، يحسن بالمربِّين والمعلِّمين العناية به. والرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن المعاني الدقيقة لا تُفهم إلا بالكتابة، كما في رسمه للمربع وللخطوط حوله، وهو حديث مشهور متواتر، كما في الترمذي : 2454 وإسناده صحيح .وانظر: البحر المحيط للزركشي 1/16-20، وتيسير التحريرلأمير بادشاه 2/20و245).

الرابع:  تبويب موضوعات الأصول مثل: الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس والاستصحاب والعرف وشرع من قبلنا، وغيرها من الأصول ،على القواعد التي اشتملت عليها مثل: قاعدة حجية خبر الواحد ،فهذه تحتها فرع واحد وهو تحريم صيد المدينة.ثم قاعدة حجية العمل بالمرسل وفرعها مثلاً تعجيل الزكاة قبل تمام الحول.وهكذا يفعل في جميع الموضوعات الأصولية.

والقواعد محرَّرة في كتب الأصول نفسها ، لكن تحتاج إلى ترتيب ذهني من الطالب نفسه، يكتبها بقلمه ، ويفهمها بقريحته*.

*(انظر: مذكرة الشنقيطي على روضة الناظر في جميع الأبواب، فقد حرَّرهذا المنى تحريراً جيداً،والمصفَّى في أصول الفقه لأحمد الوزير، ففيه تطبيق ماتع للمسائل).

الخامس: مراجعة أُصول الأئمة المنسوبة إليهم في كل مذهب،مثلاً: اتفاقهم على جواز نقل الحديث بالمعنى وأن المباح ليس مأموراً به، وأن الإجماع حجة قاطعة.ثم يراجع الأصول التي فيها خلاف عندهم مثل : إجماع أهل المدينة هل هو حجة ؟ ، هل يلزم المندوب بالشروع فيه ؟ ، هل الحديث المرسل حجة ؟ ، ونحوها من الأصول .وهذه المسائل مصادرها شروح المتون الأصولية وكتب الأصول الأصيلة .

السادس : استثمار الطالب لتفسير القرطبي لأهميته ، وليستمدَّ منه كيفية ربط الفروع بالأصول مثل قول الله تعالى: ” إذا نُودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله” ( الجمعة: 9).

فلو كانت هناك قراءة  شاذة مثل: ( فامضوا إلى ذكر الله)، هل يجوز التخريج عليها بوجوب القيام بحق الجمعة والتبكير إليها ؟!.

الصحيح عدم جواز ذلك.ومثله وجوب صيام التتابع على قراءة ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات)، وهي محلُّ خِلاف بين العلماء ، فيُخرَّج الفرع عليها على ضوء قواعد التفسير المعتبرة *.

*(انظر: فواتح الرحموت لابن عبد الشكور2/16،وتفسيرالقرطبي 18/102).

السابع: الإكثار من النظر في مصنفات فتاوى الصحابة رضي الله عنهم ومن جاء بعدهم من العلماء العاملين المعتبرين، ممن عُرفوا بالعقيدة الصحيحة، ففي فتاويهم تخريجات وتعليلات واستنباطات لا تُوجد في كثير من الكتب، وهو وسيلة لتعلم الدُّربة والدِّراية في موضوع إلحاق الفروع بالأصول.

ومن الفرائد في أهمية فتاوى الصحابة : ما أورده عبد الرزاق في مصَّنفه(رقم : 14165): عن ابن عباس رضي الله عنه أن جزوراً نُحرت، فجاء رجل بعناق فقال أعطوني جزءاً بهذا العناق، فقال أبو بكرٍ رضي الله عنه : لا يصلح هذا. أهـ.

والمقصود تحريم بيع اللحم بحيوان من جنسه ،تخريجاً على قاعدة حجية الصحابي*.

*انظر: ( شرح الكوكب المنير للفتوحي4/422،والمغني لابن قدامة6/90. وانظر فتوى السيوطي في التاج والإكليل 2/417 حول مسألة قِصر الليل وطول النهار وغياب علامات الفلك ).

الثامن : ربط المسائل بمتعلَّقاتها، سواء في باب الأدلة أو المسائل أو القواعد.

مثال ذلك: وضوء الجُنب ،هل يُسوِّغ اللبث في المسجد. الأكثر والمشهور عند العلماء أنه لا يجوز،وقد حكى ابن قدامة(ت: 620هـ ) رحمه الله تعالى الجواز عند بعض العلماء إلحاقاً بقاعدة التخصيص بالإجماع، وهو قول مرجوح ،لأنه تخصيص يُزاحم النص القطعي*.

*(انظر: العُدَّة في أصول الفقه لأبي يعلى2/578،والمغني1/202).

التاسع:الاعتناء بالدليل في كل مسألة ،فمن الغلط أن يقرأ الطالب او الباحث في الكتب التي لا استدلال فيها، فهذه تُبطى المَلكة الفقهية والأصولية ، وتجعل صاحبها مقيَّداً بحكم الماتن نفسه، وهذا مشاهد وملاحظ في كثير من المجالس والمدارس العلمية*.

*(انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم رحمه الله تعالى ،فقد أبدع في باب الإستدلال، لكن يجب توقِّي عثراته التي نبَّه عليها العلماء. وانظر كتابي: الخريطة الأصولية ،ففيه خلاصة للإستدلال ومنهجه وأمثلته .

العاشر: المراجعة وصدق العزيمة ،فلا يستقيم تخريج الفروع على الأُصول في القلب إلا بالمداومة على دراسته وتطبيقه على الدوام.

مثال ذلك مراجعة ابن قدامة رحمه الله تعالى ،لمسألة ٍفي مذهبه اختلف فيها العلماء ،وحرَّرها هو على الأُصول المخرَّجة في كتب الفقه والأدلة ومعاني اللغة.

وهذه المسألة هي مسألة القهقهة التي رجَّح ابن قدامة فيها أن الوضوء لا يجب معها تخريجاً على القياس والاستصحاب،وأن الأثر الوارد في وجوب الوضوء بها ،مُرسلٌ لا يُحتج به *.

* (انظر : روضة الناظر لابن قدامة 2/428، والقواعد الأُصولية المتعلِّقة بالأدلة لجبريل البصيلي 1/289،والمغني1/239 و4/79، و6/561 ).

وختاماً فهذه خُلاصة للطالب الملول ، تُشوِّقه لإلحاق الفروع بالأصول ، وهي مسلك ضروري لتنوير العقول بدلائل كلام العلماء الثقات الفحول.

هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

د/ أحمد بن مسفر العتيبي

عضو الجمعية الفقهية السُّعودية

1441/10/18.