بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله . أما بعد.
فقد أرسل إليَّ بعضُ الطلاب فتوى مرئية للشيخ مولود السريري وفقه الله تعالى وسدَّده ، حول جواز رفع اليدين بالدعاء مطلقاً، وقد طلبوا مني تعليقاً على تلك الفتوى ، ولعل الحال لم يُسعف الشيخ السريري لتحرير فتواه ،ولأن إعمال الكلام أولى من إهماله ،فقد كتبتُ هذه السُّطور رجاء الانتفاع بها ممن يقفُ عليها.
أولاً: من حسنات الشيخ مولود الكثيرة ،حرصه على بذل العلم لأهله، مع الصبر على ذلك، وهذا من الجهاد في سبيل الله، فجزاه الله خيراً على تقريب الفقه وأحكامه للطلاب، وغرس الفضائل الدينية في نفوسهم.
ثانياً: الأصل في الدعاء رفع اليدين في كل موضع مشروع ثبت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما لم يثبت عند المكلف نفسهِ ، فلا يَلزمه فيه رفع اليدين. ومن احتاط لذلك فقد برئت ذمته.
ثالثاً: مَن رفع يديه بالدعاء مجتهداً ،في موضع لم يثبت عنده فيه الرفع فليس بمبتدع ، كما يظن بعض الناس، لأنه معتضد بأصل صحيح وهو الرفع المطلق عند الدعاء ، ولا يجوز تفرقة القلوب والنفوس بسبب الرفع المتردد في ثبوته. وهذه المسألة مما اختلفت فيها أذهان الناس قديما ًوحديثاً، بسبب اضطراب أسانيد بعض الروايات وانقطاعها .
رابعاً :لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه بالدعاء بعد الصلاة مباشرة، ولم ينقل هذا أحدٌ من علماء الأمة . ويجب أن يُعلم أنه في بعض المواضع يكون الورد والاستغفار أكمل من الدعاء، وفي بعض المواضع كما في السُّجود وآخر التشهد يكون الدعاء أكمل ،وتنبيه المعلم لطلابه بهذا،من القول السديد الذي يُشكر ويُذكر، كما أن تربية الطالب على التعبد بالسُّنة الفعلية والهدي المحمدي ،من أفضل العبادات في مجالس العلم.
وترك النبي صلى الله عليه وسلم لأمر وعدم فعله مع وجود سببه وعدم الموانع، يُعدُّ سنة يجب الأخذ بها ومتابعته في ترك ذلك الفعل. وهذه مسألة جليلة ليت الشيخ يُطيل النظر فيها ويناقشها مع طلابه.
وقد ورد في الاعتصام للشاطبي(ت: 790هـ ) رحمه الله تعالى التنبيه على أصل هذه المسألة ، وكذلك مثله في المعيار المعرب للونشريسي(ت: 914هـ ) رحمه الله تعالى ، وفي جؤنة العطار لأحمد الغماري(ت: 1380ه ) رحمه الله تعالى ،أنه يلزم طالب العلم أن يتجرد للدليل ولا يتعصَّب لمذهبه أو طائفته.
خامساً : هذه المسألة اضطربت فيها أذهان المحدثين من القرن الأول الهجري وما بعده، كما حكى ذلك ابن أبي شيبة(ت: 235ه) رحمه الله تعالى، فقد أشار إلى ذلك في مصنَّفه بقوله: “الرجل يرفع يديه إذا دعا، مَن كرههُ “؛ يقصد اضطراب الروايات في الحكم على العموم ،وذكر ثلاثة أحاديث عن: “سهل بن سعد وأنس وجابر بن سمرة ”، ثم عقبه بباب آخر: “من رخَّص في رفع اليدين في الدعاء. وهذا من كمال عقله ،ليدلِّل على أن الخلاف فيها يسير.
سادساً : الذي تبيَّن لي من كلام الشيخ مولود وفقه الله تعالى في المسألة، أنه متمسِّك بحجية استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع ،وهو رفع اليدين بالدعاء بعد الصلاة، وهذا ليس بحجة عند جمهور الأصوليين، لأنه يؤدي إلى تكافؤ الأدلة. والأكمل أن يكون الاستصحاب للعمل بالنص في مورده ،وليس على عمومه. والشيخ مولود يستدل كثيراً في تعليلاته عند بيان المنطوق غير الصريح بالإيماء والتنبيه على العلة ، عند شرح بعض النصوص ،وهذا المسلك ليس بصريح في العِلة على اطلاقه ،وقد لاحظتُ هذا كثيراً في دروسه، فليتنبَّه لهذا مريد الإفادة.
سابعاً : المحدثون الذين صنَّفوا في مسألة الدعاء وأفردوها في جزء أو كتاب، كالطبراني (ت: 360ه ) والمنذري (ت:656ه) وابن ناصر الدين القيسي (ت: 842ه )والسُّيوطي(ت: 911ه ) وأحمد الغماري(ت: 1380ه) رحمهم الله تعالى، متفقون في الجملة على سُنية رفع اليدين في الدعاء، إلا فيما سكت عنه الشارع، فيقف المكلَّفُ فيه حيث وقف النص ،فليت الشيخ أشار إلى هذه النكتة الحديثية.
ثامناً : في الكتب الفقهية عند المذاهب الأربعة يختارون القول الذي فيه رفع الحرج على الناس، وهذا من تربية طالب العلم على عدم الغلو، والخروج من الخلاف مستحب ،كما نبَّه على ذلك الزركشي رحمه الله تعالى.
فقد ورد في مغني المحتاج 1/ 370 : “ويُسنُّ رفع يديه فيه -دعاء القنوت- وفي سائر الأدعية للاتباع، أخرجه البيهقي بإسناد جيد، وفي سائر الأدعية الشيخان وغيرهما”.
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى في المجموع 3/ 507: “عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله تعالي عليه وسلم استسقى ورفع يديه وما في السماء قزعة، فثار سحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل من منبره حتى رأيتُ المطر يتحادر من لحيته” متفق عليه، والمقصود أن يُعلم أنّ من ادعى حصر المواضع التي وردت الأحاديث بالرفع فيها ،فهو غالط غلطاً فاحشاً”.
وقال الإمام العيني الحنفي رحمه الله تعالى في البناية شرح الهداية 4/ 203: “والرفع سنة الدعاء: أي رفع اليدين سُنة، وروي فيه أحاديث، منها ما أخرجه أبو داود في “سننه” في الدعاء من حديث ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما، والإشعار أن تشير بإصبع واحدة، والإهلال أن تمد يديك)”
وقال العلامة النفراوي المالكي رحمه الله تعالى في الفواكه الدواني 2/ 330: “وعلى الرفع -أي رفع اليدين خارج الصلاة- فهل يمسح وجهه بهما عقبه أم لا؟ والذي في الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه، فيفيد أنه كان يرفعهما ويمسح بهما وجهه”.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي رحمه الله في كتاب كشاف القناع 1/ 368: “ومن آداب الدعاء: بسط يديه ورفعهما إلى صدره؛ لحديث مالك بن يسار مرفوعاً: “إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها”، رواه أبو داود بإسناد حسن، وتكون يداه مضمومتين، لما روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس: “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا ضَمَّ كفيه وجعل بطونهما مما يلي وجهه”.
ومن المواضع التي اختلف في رفع اليدين فيها رفع خطيب الجمعة يديه أثناء الدعاء بعد الفراغ من الخطبة الثانية لحديث مسلم عن عمارة بن رؤيبة قال: رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه فقال: (قَبَّحَ اللهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ) أخرجه مسلم.
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم 6/ 162: “فيه أن السُّنة أن لا يرفع اليد في الخُطبة، وهو قول مالك وأصحابنا وغيرهم، وحكى القاضي عن بعض السلف وبعض المالكية إباحته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في خطبة الجمعة حين استسقى، وأجاب الأولون بأن هذا الرفع كان لعارض”.
تاسعاً: عند المالكية يجوز التخيِّير في العمل بالأخبار عند عدم وضوح الدلالة، وقد فعل هذا الإمام مالك رحمه الله تعالى، كما نقله عنه أبو الوليد الباجي في إحكام الفصول، وقد صحَّحه الباقلاني كما في التنقيح للقرافي والتقريب لابن جزي، وسبب هذا التوسعة على الناس كما تقدَّم قريباً.
عاشراً: ينبغي على طلاب العلم أن يحرصوا على السُّنن الفعلية للنبي صلى الله عليه وسلم في أحوالهم ،وتعليمها للناس برفق بدون تشويش وتضيِّيق على العامة ، فإن هذا مما يقوي وحدة الصف ويجمع القلوب على حب السُّنن وناقليها ومعلميها، وهو من زكاة العلم الذي يلزم إن بلغ نصابه. والله أعلم وأحكم.
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
15/8/1443