بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..
الذهول والوهم والسهو من صفات الإنسان،ولا يكاد يسلمُ منها إلا من عصمه الله تعالى.
ويقع الذهول بسبب المرض والتعب وانشغال الخاطر بالنفس والأهل والعيال،وهذا يدل على أن كمال المسلم في آخرته وليس في دنياه.
والعلامة علي بن سليمان المرداوي(ت: 885هـ ) رحمه الله تعالى،من مشاهير علماء الحنابلة في زمنه،وعُرف بتصحيحه لمسائل المذهب الحنبلي وتنقيح بحوثه،وكان ضليعاً في الفقه والأصول وعلوم العربية.وتصانيفه في علوم الشريعة من الطراز الأول في السَّبك والتحقيق والترجيح.
وكان هذا الإمام معاصراً للعلامة عبد الرحمن السيوطي(ت: 911هـ ) رحمه الله تعالى، الذي اشتهر بكثرة مؤلفاته وبحوثه،وقد مات السيوطي بعد المرداوي بنحو ست وعشرين سنة. وكان السيوطي مصرياً والمرداوي شامياً.
وقد دُفن هذا الإمام قدَّس الله روحه في سفح قاسيون ،بعد أن دأب في العلم والتحصيل،ولم يأل جهدا في المذاكرة والبحث. وقد مررتُ على قبره وسلَّمتُ عليه وزرتُهُ الزيارة الشرعية ،في أثناء رحلتي إلى دمشق قبل نحو ثلاثين عاماً مضت.
وقد عُرف عن المرداوي دقته في البحث والاستدراك،وأكثر مؤلفاته فرغ منها في آخر عمره،وليس ببعيد أنه شرع في جمعها في منتصف شبابه،وظل يراجعها ويعيد النظر فيها إلى قُبيل وفاته بيسير، كما هي عادة العلماء قديماً.
وقد وقفتُ أثناء مراجعتي وقراءة الطلبة عليَّ لكتاب تحرير المنقول للمرداوي، على سهو وقع للمرداوي في كتابه التحبير شرح التحرير،وهو تعليقات وفوائد على كتابه تحرير المنقول.
فقد قال في أول كتابه تحرير المنقول، عند الكلام على أنواع الحكم الوضعي ( النفوذ تصرفٌ لا يقدرُ فاعلهُ على رفعه)، وقال عند شرحه في التحبير:( لم أعلم الآن من أين نقلتُ هذه المسألة؟).
وقد علَّق عليها المحقق وفقه الله تعالى:( وأنا أيضاً كذلك)!!.
انظر: ( تحرير المنقول ص/ 124) و( التحبير ص/ 1106 ) .
والمرداوي معذور في هذا السهو بسبب كِبر السِّن عند تحرير الكتاب، فقد فرغ من تصنيف كتابه تحرير المنقول سنة ( 877هـ) أي في نحو الستين من عمره، وفرغ من شرحه التحبير سنة ( 884هـ)، أي قبل وفاته بعام واحد،وكان عمره في نحو السبعين.
لكن ما عُذر محقق الجزء؟ ، وما عذر طلبة العلم الذين تناوبوا على تحقيق الكتاب كله ومراجعته وكثرة النظر فيه؟!.
قلتُ: وقد عثرتُ ولله الحمد والمنة على الموضع الذي نقل منه العلامة المرداوي رحمه الله تعالى المسألة المذكورة الخاصة بالنفوذ،وهي بتمامها وكمالها في كتاب قواعد الأصول ومعاقد الفصول،لعبد المؤمن بن عبد الحق الحنبلي(ت:739ه) رحمه الله تعالى،حيث قال في أوله: (النفوذ :لغة المجاوزة، واصطلاحاً : التصرف الذي لا يقدر متعاطيه على رفعه ).
وهذا المصدر وهو كتاب قواعد الأصول ومعاقد الفصول، من مصادر المرداوي في تصنيف شرحه التحبير،وقد نص على هذا في مقدمته حين قال:( من الكتب التي للأصحاب ممن نقلتُ عنها،كتاب الكفاية والعُدة والمعتمد والخلاف و والمجرد…ومجلد في أصول الفقه للشيخ عبد المؤمن).
والمجلد الذي قصده المرداوي هو معاقد الفصول،وقد اختصره مؤلفه من كتابه تحقيق الامل في علمي الأصول والجدل.
ولا يختلط عليك هذا الكتاب بالكتاب الآخر( منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل) لابن الحاجب المالكي(ت: 646ه) رحمه الله تعالى.
فقد راجع المرداوي كتباً كثيرة في الأصول والفقه، تنيف على المئة ، كما في ثنايا كلامه في مقدمة التحبير.
أما فقه العبارة التي وقعت في كلام المرداوي،فيقصد أن الإجزاء وصف لفعل المكلف إذا أتى به على الوجه الذي أمر به، وأن الإجزاء يغاير الصحة إذ بينهما عموم وخصوص مطلق، فكل صحيح مجزىء،والإجزاء مختص بالعبادات أو الواجب منها على القول الراجح. والعقد في الاصطلاح يوصف بالنفوذ والاعتداد،والعبادة لا توصف إلا بالاعتداد فقط.
وعلى كل حال فمسائل الإجزاء والإتيان بالمأمور والصحة والنفوذ والفساد والبطلان ،مما يحتاجه أكثر الناس في عباداتهم ومعاملاتهم وأحوالهم.وهي تُلحق بالحكم التكليفي الوضعي لتعلقها بالأسباب والشروط في الأعم الأغلب.
والمقصود من هذه الأسطر وجوب مذاكرة العِلم وإدمان النظر فيه،وأن لا يعول الطالب على البرامج الإلكترونية في البحث والمذاكرة والتنقيب،فإنها تجعل صاحبها بليداً مع الأيام والليالي.وقد قال ابن مفلح(ت: 763هـ ) رحمه الله تعالى:( مذاكرة حاذقٍ في الفن ساعة ،أنفع من المطالعة والحفظ ساعات بل أياماً).
هذا ما تيسر تحريره ،والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
                                                                                                                     1442/7/19