نستكمل في هذا الدرس مسائل تصحيح المذكِّرة ، وقد توقفنا في الدرس السابق عند مسألة الحقيقة والمجاز في القرآن الكريم .
24-أورد الشنقيطي رحمه الله تعالى أن ” ابن خويز منداد” (ت: 390هـ) من المالكية وجماعة من الحنابلة والظاهرية منعوا القول بالمجاز في القرآن . قلت : لم يبيِّن الشنقيطي دليل ابن خويز منداد ومَن وافقه ، ودليلهم عقلي ، وهو أن المجاز كذب ، والقرآن منزَّه عن الكذب ،ولا يناسب الكذب حُجة المحتجين بالشرع . وليس لهم دليل نقلي على منع المجاز .
وأهم ما في المسألة هو معرفة ثمرة الخِلاف ، ومن ذلك احتيال الطوائف لتأويل الصفات أو نفيها ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً ، فيجب التفطُّن والتنبيه على هذا المقصد لحفظ معتقد السلف من التحريف أو التأويل .
وقد قال ابن عبد البر (ت: 463هـ)رحمه الله تعالى : ” لا نسمِّيه ولا نصفه ولا نطلق عليه إلا بما سمَّى به نفسه ” .
وقال الإمام أحمد (ت: 241هـ)رحمه الله تعالى : ” لا يوصف الله تعالى بأكثر مما وصف به نفسه أو وصف به رسوله صلى الله عليه وسلم بلا حدِّ ولا غاية ، ولا نتعدَّى القرآن والسنة “.
وطريقة الكتاب والسنة في أسماء الله وصفاته الإثبات المفصَّل والنفي المجمل ، كقول الله تعالى : ” ليس كمثله شيٌ وهو السميع البصير ” ( الشورى : 11 ) .
ويُنصح الباحث أو الطالب بتعلم عقيدة السلف الصحيحة قبل تعلُّم أصول الفقه حتى يأمن من المسائل الكلامية التي قد تؤثِّر على فهمه للنصوص الشرعية ، وقد نبَّهتُ على هذا في الدرس السابق.
ومن أراد معرفة استيعابية للرد على ابن خويز منداد ومن تابعه من الحنابلة والظاهرية في منعهم من المجاز في القرآن ، فليراجع الإحكام للآمدي( 1/48) وشرح البدخشي ( ص/ 357) ، والإبهاج للسبكي(1/298) . ومن أشهر القائلين بالمجاز العز ابن عبد السلام (ت: 660هـ)رحمه الله تعالى في كتابه ” الإشارة الى الايجاز في بعض أنواع المجاز ” وقد فصَّل فيه المسألة تفصيلاً جيداً ، فليراجع فإنه نفيس .
ومقيِّد هذه السطور يميل للقول بمنع المجاز في القرآن ، حفظاً للشريعة من شبهات أهل الكلام ، وصوناً لكتاب الله من مقاصد المغرضين ، وتعظيماً لأسماء الله وصفاته من شبهات الملحدين المعاندين ، لكنني أقدِّر كلام أهل السنة الذين أثبتوا المجاز ودلَّلوا عليه .
وعلى كل حال سبق أن أشرتُ في الدرس السابق إلى أن الخلاف في المسألة لفظي كما نبَّه عليه كثيرٌ من المحقِّقين ، ومنهم الزركشي في البحر المحيط ( 2/183) فليراجع .
فأنت إذا حرَّرت محل النزاع في هذه المسألة وغيرها اتضح لك أن الإطالة وتشقيق المسائل قد يخرجها عن ثمرتها ومقصدها ، فافهم هذا فإنه نفيس جداً .
25- لم يوضِّح الشيخ هل صفات الله تعالى من المحكم أم من المتشابه ، مع اشارته للمسألة وردِّه على أهل التأويل رداً جيداً ، والصحيح أن الصفات من المحكم وكيفيتها من المتشابه .
ولتقليل الجدل يُستدل للمسألة على المعاندين بما صح في سنن ابن ماجة : ” كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم يعدَّه ولم يقصر دونه ” . فيجب اقتفاء أثر الصحابة في عدم التجاوز لفهم أوسع من فهمهم للنصوص ، وعدم الإفراط فيه ، حتى لا يحصل زيغ القلوب في صفات الله تعالى . وهذه القاعدة من أحسن ما يُردُّ به على المكابرين والخائضين في موضوع صفات الله تعالى ، وقد قال ابن خزيمة رحمه الله تعالى : ” لا نحتج في صفات معبودنا بالآراء والمقاييس “. وهذه الضوابط في غاية الأهمية لتربية النفس على تعظيم الله تعالى في مسائل الشريعة . وقد حقَّق هذه المسألة الإمام ابن تيمية في الفتاوى(13/195) ، فلتراجع.
26-في باب النسخ تعقَّب الشيخ المعتزلة في حدِّ النسخ وحكم بأنه باطل ولم يبيِّن سبب بطلانه .وسبب بطلانه أن تعريفهم وحدَّهم للنسخ خلا عن حقيقته وهي الرفع ، وتعريفهم أيضاً كان للناسخ لا للنسخ .
27-أشار الشيخ إلى انكار أبي مسلم الأصفهاني (ت: 322هـ)للنسخ ، ولم يوضِّح حاله وثمرة انكاره للنسخ . فأما حاله فهو من رؤوس المعتزلة ، وله تفسير مطبوع في الهند ، وله نظريات اعتزالية مسطَّرة في تفسيره .
وهو وأضرابه من المعتزلة يتوهَّمون أن الله تعالى يندم على بعض أفعاله فيغيرها ، وأنه تعالى لا يعلم مصالح العباد في وقت دون وقت ، ويقولون بنفي حكمة الله تعالى في أفعاله .انظر شرح التدمرية للخميس(ص/120- وما بعدها) .
28-في مسألة الزيادة على النص وأنها ليست بنسخ ، تعقَّب الشنقيطي ابن قدامة في تقسيمه مراتب الزيادة على النص ،وقال : ” ايضاح هذا المبحث أن فيه تفصيلاً لا بد منه لم يذكره المؤلِّف ” ، ثم أورد مرتبة واحدة وهي ما أثبته النص الأول أو عكسه ، واستدل الشيخ بحديث تحريم الحُمر الأهلية وحديث النهي عن أكل ذِّي ناب من السِّباع وكل ذي مِخلب من الطير ، حيث إنها عنده زيادة على قول الله تعالى : ” قل لا أجدُ فيما أُوحيَ إليَّ محرَّماً على طاعم ٍيطعمهٌ إلا أن يكونَ ميتةً ..” ( الأنعام: 145 ) .
قلت : هذا وهم من الشنقيطي لأن ما استدل به تخصيص وليس بنسخ ، لأن الحكم ثابت بالأصل، ورفع الحكم الثابت بالأصل لا يعدُّ نسخاً ، ولأن دليل السنة الذي استدل به الشنقيطي هو في حقيقته قصر العام على بعض أفراده بدليل يقتضي ذلك ، والقاعدة الأصولية المقرَّرة في هذه المسألة أنه لم يرتفع بتلك الزيادة حكم الشرع، فلا تكون نسخاً لانتفاء حقيقته .
وبعض الأصولييِّن كالشِّيرازي (ت: 476هـ)رحمه الله تعالى جزموا بأنه النص النبوي المشار إليه تخصيص ، لأنه عموم دخله تخصيص .
ومذهب الجمهور أنه إذا ورد نصٌ فيه تكليف بعبادة معينة ثم ورد نص آخر فيه زيادة على ما في النص الأول ، فلا يكون نسخاً له.
وثمرة المسألة لم ينبِّه عليها الشنقيطي وهي احتمال ثبوت الزيادة بما لا يجوز النسخ به كخبر الآحاد والقياس ، فمن يرى تلك الزيادة نسخ لا يثبتها بخبر الواحد ولا بالقياس ، لأن كلاً منهما لا ينسخ المتواتر ، ولذلك لم تثبت الحنفية اشتراط الطهارة في الطواف لثبوته بخبر الواحد .
وقد ألمح ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه الإحكام ( 2/559 ) إلى مثل وهم الشنقيطي حين قال : ” وقد تشكَّك قوم في معاني النسخ والتخصيص والاستثناء، فقوم جعلوها كلها نوعاً واحداً. قال أبو محمد: وهذا خطأ لأن النسخ هو رفع حكم قد كان حقّاً، وسواء عرفنا أنه سيرفع عنها أو لم نعرف بذلك ، وقد أعلم الله تعالى موسى وعيسى عليهما السلام أنه سيبعث نبيّاً يسمى محمداً بشرائع مخالفة لشرائعهما، فهذا نسخ قد علمنا به، وأما التخصيص: فهو أن يخص شخص أو أشخاص من سائر النوع، كما خُصَّ عليه السلام بفرض التهجد وإباحة تسع نسوة ، وكما خُصَّ أبو هاشم وبنو المطلب بتحريم الصدقة، وأبو بردة تجزىء عنه الجذعة في الأضحية ” .
29-حَكَم الشنقيطي على تقرير ابن قدامة في مسألة نسخ العبادة إلى غير بدل ، بالسقوط وعدم الصحة ، لأن ابن قدامة قال عن النسخ إلى غير بدل : ” إنه متصوَّر عقلاً ” . وقد وهم الشنقيطي غفر الله له في تخطئة ابن قدامة رحمه الله تعالى ، لأن ابن قدامة قصد أن العقل يُجوِّز أن الله تعالى يأمر وينهى من غير تبيِّين حكمة الفعل الإلهي للمكلف ، وليس مراده أن الله تعالى يُنشىء دليلاً يخالف صريح القرآن ، فهذا المعنى الذي أشار إليه الشنقيطي بعيد جداً وهو غريب منه .
وهذا نص ابن قدامة لمن أراد الوقوف على السِّياق كاملا : ” يجوز نسخ العبادة إلى غير بدل ، وقيل لا يجوز لقول الله تعالى : ” ما ننسخ من آية ٍأو نُنسِها نأتي بخير منها أو مثلها ” ( البقرة: 106) ولنا أنه متصور عقلاً ، وقد قام دليله شرعاً . أما العقل فإن حقيقة النسخ الرفع والإزالة ، ويمكن الرفع من غير بدل ، ولا يمتنع أن يعلم الله تعالى المصلحة في رفع الحكم وردِّهم إلى ما كان من الحكم الأصلي ” أهـ..
فخلاصة ما أراده ابن قدامة في هذه الفقرة هي قوله في آخر كلامه : إن رفع الحكم قائمٌ على المصلحة الآلهية ، فلا يُفهم من كلامه أن ابن قدامة يحتج بالجواز العقلي على هذا الحكم من أحكام النسخ ، والعقل وسيلة شرعية للتمييِّز بين الأحكام ،وقد قال أبو المظفَّر السمعاني (ت: 489هـ)رحمه الله تعالى : ” إنَّ الله أسَّس دينه وبناه على الاتِّباع، وجعل إدراكه وقبوله بالعقل”.
30-تعقَّب صاحب المذكِّرة تقرير العلامة عبد الله الحاج الشنقيطي (ت: 1233هـ)رحمه الله تعالى صاحب منظومة مراقي السُّعود وشارحها ، في كتابه نشر البنود في مسألة النسخ إلى غير بدل عند قوله : ” إن الجواب لا يجب أن يكون ممكناً فضلاً عن أن يكون واقعاً ، نحو إن كان الواحد نصف العشرة فالعشرة اثنان ” ، وقد غلَّطه في هذا الجواب واستدل بأن القضية الشرطية العقلية لا تصح إلا بربطها بالوجه الصحيح .
قلت : ما استدل به صاحب مراقي السُّعود وصاحب المذكرة هو من الأدلة العقلية التي يُمكن الاعتراض عليها باعتراضات أخرى أقوى منها ، بحيل كثيرة يعرفها أهل المنطق وأهل الكلام .
وفي تقديري أن جواب العلامة عبد الله الحاج في نشر البنود له وجه من الصحة ، لكنه غير ملزم لقيامه على الدليل العقلي المحض الذي يمكن نقضه بمثله ، وهو منقول عن القرافي (ت: 684هـ)رحمه الله تعالى ، والدليل على وجه الصحة في جوابه مطابقة معناه لقول الله تعالى : ” وقالوا لن نؤمن لكَ حتى تفجرَ لنا من الأرضِ ينبوعا ً..”. ( الإسراء : 90- 93) .
فقد طلب المشركون من الرسول صلى الله عليه وسلم تفجير الينابيع أو اسقاط السماء أو مجيء الله تعالى والملائكة ، أو أن يكون له بيتٌ من زخرف أو يرقى في السماء ، وهي تحدِّيات كيدية ، ولم يكن الجواب عنها ممكناً ولا واقعاً لمخالفتها لنظام الشريعة وسنن الخلق.
ومعلوم أن الأدلة العقلية نسبية قد تصح تارة وقد تغلط تارات كثيرة ، فلا يستقيم الاعتماد عليها باطلاق ، وقد قال سراج الدين البلقيني(ت: 805هـ ) رحمه الله تعالى : ” ملزومية الشي لغيره لا تقتضي وقوعه ولا صحة وقوعه ” .انظر : نفائس الأصول ( 3/4- وما بعدها ) .
ولهذا نجد أن المنطقيين أحياناً يجعلون الدليل العقلي القطعي مقدَّم على الدليل الشرعي الظني بزعمهم ، فلهذا لا يطمئن العلماء للاستدلالات العقلية ، فليت صاحب المذكِّرة وصاحب نشر البنود نبَّها على هذا تزكية لقلوب الطلبة ، لأن اعتراضات الطوائف والفِرق كانت أكثرها بسبب فتح هذا الباب .
أما الاستدلال بها على المعاندين فلا بأس به ، لكن الرد بها في المسائل الشرعية الاجتهادية محلُّ نظر . انظر نقض المنطق للإمام بن تيمية (ص/ 100- وما بعدها ) فقد حرر المسألة تحريرا ًلا مزيد عليه .
31-علَّق الشنقيطي على مسألة القضية الشرطية في آخر شرحه للنسخ إلى غير بدل ، بأن مورد الصدق والكذب في الشرطية إنما هو الربط ، ولو أزيل الربط لكذب طرفاها . قلت : ما قرَّره الشنقيطي غير مطِّرد في كل القضايا الشرطية ، وإن كان ظاهره ممكناً ، واستدلاله بتقرير الجرجاني والبناني غير ملزم ، لأن المسألة منطقية ويمكن نقضها بقياس اقتراني آخر ، لأنها ليست برهانية يقينية ، فالبراهين عند المناطقة ستة : البدهيات ، وهي التي يحكم بصحتها بلا واسطة ، والمشاهدات وتكون بالحواس الخمس ، والمجربات، والتي أفادت اليقين بالتجربة ، والحدسيات التي تحكم النفوس بصحتها بالفطرة والغريزة ، والمتواترات التي يحكم بها العقل بالاستفاضة ، والقياسات الصحيحة في نفسها التي لا يمكن الغلط فيها . فما نقله الشنقيطي عن المناطقة غير مطِّرد ولا يلزم النقض به . انظر : المبادىء المنطقية للفيومي(ص/40-وما بعدها) ، والكافية في الجدل للجويني(ص/ 70- وما بعدها ) .
32- تأصيل مسألة النسخ عند الطالب أو الباحث تكون باعتقاد أنه لا نسخ بالإجماع ولا بالقياس، فلا بد من خِطاب الله أو خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم لاثبات النسخ .فاليهود والرافضة والعلمانيون والليبراليون اليوم يُنكرون النسخ، فمعرفة منهجهم يُعين على الردِّ عليهم عند مناقشتهم في مسائل الشريعة .
33-أورد الشنقيطي عند مسألة نسخ المتواتر بالآحاد الصحيحة ، مثال نسخ إباحة الحمر الأهلية من السنة النبوية ، لآية الأنعام المكية : ” قل لا أجدُ فيما أُوحي إليَّ محرَّماً ..” ( الأنعام : 145) ، والصحيح أن هذا تخصيص وليس نسخ كما نبَّه غير واحد من الأصوليِّين ، كما في فتاوى ابن تيمية (17/195) ، وهو قول للإمام أحمد ، رحم الله الجميع.
34-أورد الشنقيطي عند مسألة مباحث السنة ، أن مرسل الصحابي له حكم الوصل ، وقد أشار إلى المسألة في موضعين .
الأول : عند التعليق على قول ابن عباس رضي الله عنه : ” إنما الربا في النسيئة ” . والموضع الثاني بعده بنحو ثلاثين صفحة ، عند مسألة مراسيل الصحابة التي أشار إليها ابن قدامة في الروضة .
ويُستدرك عليه أن مرسل الصحابي عند المحدِّثين مقبول ومعتبر لأنه في حكم الموصول السند ، لأن الصحابة عدول ولا قدح في روايتهم .
ومسألة قبول مراسيل الصحابة لا خلاف فيها عند جمهور الأصوليين كما حقَّقه الطوفي في ” شرح مختصر الروضة “(2/229) ، والأمير بادشاه في ” تيسير التحرير ” ( 3/102) ، وما نُسب إلى الشافعي رحمه الله تعالى بأنه يردُّ مراسيل الصحابة غلط من بعض الأصوليين ، كما أفاده ابن الصلاح رحمه الله تعالى في ” النكت على كتاب ابن الصلاح ” (2/34) ، فليراجع .
35-أورد الشنقيطي عند مسألة مباحث السنة ، قول الصحابي إن هذا الخبر منسوخ ، وأفاد أن هناك خِلاف حول قبول قول الصحابي ، وقبول تفسيره ولم يرجِّح ، والراجح أنه لا يُقبل لأنه قد يكون قد صدر عن اجتهاد ، وهذا قول الجمهور ما عدا الحنفية .
36-تأصيل مسألة قبول رواية الصحابي تكون بمعرفة أقدارهم وتعلُّم فقههم وموارد علمهم ، وأنهم بشر يغلطون ويسهون كغيرهم ، لكنهم لا يُدلِّسون وغير متهمين ، وكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حاكمان على أقوالهم وأفعالهم ، فلا تكون محببتهم سببٌ لرد النصوص الثابتة.
37-أورد الشنقيطي عند قول ابن قدامة : “ولا يُشترط في الراوي الذكورة ” ، أن ما رُوي عن مالك وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى من عدم قبول رواية غيرالفقيه مطلقاً أو إذا خالفت القياس خلاف الصواب .
قلت : هذا الحكم صحيح في الجملة ، لكنه ليس على اطلاقه ، بل يُعمل به عند الترجيح ، وهناك قصة متواترة توضِّح عكس ما أفاده الشنقيطي.
فقد اجتمع أبو حنيفة مع الأوزاعي رحمهما الله تعالى بمكة، فقال الأوزاعي: ما بالكم لا ترفعون عند الركوع والرفع منه. فقال: لأجل أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شئٌ. فقال الأوزاعي: كيف لم يصح وقد حدثني الزهري عن سالم عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وعند الركوع وعند الرفع منه”، فقال أبو حنيفة: حدثنا حمّاد عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن ابن مسعود: ” أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة ثم لا يعود لشئ من ذلك” ، فقال الأوزاعي: أُحدثك عن الزهري عن سالم عن أبيه؛ وتقول حدثني حمّاد عن إبراهيم؟ فقال أبو حنيفة: كان حماد أفقه من الزُّهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمة ليس بدون من ابن عمر في الفقه، وإن كان لابن عمر صحبة وله فضل صحبة؛ فالأسود له فضل كثير، وعبدُ الله: عبدُ الله.
ذكر هذه المُناظرة الكمال ابن الهمام في فتح القدير (1/ 311)، والسرخسي في المبسوط (1/ 14)، والسيد مُحمد مرتضى الزبيدي في عقود الجواهر المنيفة (1/ 58) نقلًا عن الحارثي في مُسنده.
قال الكمال ابن الهمام بعد ذكر هذه المُناظرة: فرجَّح بفقه الراوي كما رجَّح الأوزاعي بعلو الإسناد، وهذا المذهب المنصور عندنا.
وقال السرخسي: ” فرجَّح الأوزاعي حديثه بعلو إسناده، ورجَّح أبو حنيفة حديثه بفقه رواته وهو المذهب؛ لأن الترجيح بفقه الرواة لا بعلو الإسناد ” .
وقال الفخر البزدوي: ” قصرت رواية من لم يُعرف بالفقه عند مُعارضة من عُرف بالفقه في باب الترجيح، وهذا مذهبنا في الترجيح”.
يراجع: كشف الأسرار (2/ 397)، والكافي (3/ 1272).
وقال علي القاري في شرح النُخبة ص(104): ” المذهب المنصور عند علمائنا الحنفية: الأفقهية دون الأكثرية “.
38-تأصيل مسائِل الرواية تكون بمعرفة أهمية الإخلاص في نقل المرويات ، مع الاعتناء بالحفظ والضبط وعزو الرواية إلى قائلها بكل أمانة ، مع عدم الرواية عن المتهم في دينه أو عدالته .
وقد صح عن ابن المبارك (ت: 181هـ)رحمه الله تعالى أنه قال: “سأل أبو عصمة أبا حنيفة:
ممن تأمرني أن أسمع الآثار؟ قال: من كل عدْلٍ في هواه إلا الشيعة، فإنّ أصلَ عَقْدِهم: تضليلُ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أتى السلطان طائعاً، أما إني لا أقول: إنهم يَكْذبونهم أو يأمرونهم بما لا ينبغي، ولكن وطّأوا لهم، حتى انقادت العامّةُ بهم، فهذانِ لا ينبغي أن يكونا من أئمة المسلمين” . انظر: المحدِّث الفاصل للرامهرمزي( 2/ 100- وما بعدها ) .
39-أورد الشنقيطي مسألة ردِّ الظاهرية للتعبد شرعاً بخبر الآحاد ، متابعةً منه لابن قدامة ولم يتعقبه ، وهو وهمٌ منهما رحمهما الله تعالى .
وقد راجعتُ كتاب المستصفى للغزالي (ت: 505هـ)رحمه الله تعالى الذي اختصر منه ابن قدامة كتابه الروضة ، فوجدته أورد العبارة نفسها ، فيكون الوهم والسهو تتابع عليه هنا ثلاثة من العلماء : الغزالي وابن قدامة والشنقيطي ، رحمهم الله جميعاً ، فليستدرك فإنه مهم .
والصحيح أن ابن حزم رحمه الله تعالى يحتج بخبر الآحاد ، وقد استدل بأدلة كثيرة لوجوب الاحتجاج بخبر الآحاد ، كما في أول المجلد الأول من كتابه الإحكام (ص/ 93- وما بعدها ) ، فليراجع.
40-تأصيل مسألة التعبُّد بخبر الآحاد يكون باعتقاد العمل بها ، والاحتجاج بأدلتها ، وأنها من السنة النبوية.
ومن أشهر ما يمثِّل به العلماء لأحاديث الآحاد : حديث: ” إنما الأعمال بالنيات” حيث تفرَّد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتفرَّد علقمة بن وقاص الليثي بروايته عن عمر، وتفرد محمد بن إبراهيم التيمي بروايته عن علقمة ، وتفرد يحى بن سعيد الأنصاري بروايته عن عمر بن إبراهيم، قال الحافظ ابن حجر في شرح نُخبة الفِكر: “وقد وردت لهم متابعات لا يُعتبر بها”. انظر: قرة العين لشرح ورقات إمام الحرمين لابن الحطَّاب ( ص/630- وما بعدها ) .
انتهى الدرس الثاني ، ويليه الدرس الثالث إن شاء الله تعالى .
هذا ما تيسر تحريره والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
1440/3/5