نستكمل في هذا الدرس مسائلَ تصحيح المذكِّرة ، وقد توقفنا في الدرس السابق عند مسألة الخِلاف حول مبدأ اللغات . نسأل الله التوفيق والسداد.
56-أشار الشنقيطي رحمه الله تعالى في أول باب الأمر إلى أن فرقة من المبتدعة قالوا إن الأمر لا صيغة له ، ولم يصرِّح بتسميتهم ، والمبتدعة الذين عناهم المؤلف ، هم الأشاعرة . وهذا القول منقول عنهم في مسائل الأمر ، في البرهان للجويني والمحصول للرازي والإحكام للآمدي ، فليراجع . والشنقيطي لم يذكر الأشاعرة في كتابه الروضة كُّله لا تصريحاً ولا تلميحاً ، وسبب ذلك أنه درج على منهج ابن قدامة رحمه الله تعالى في مداراة الخصوم ، والردِّ عليهم وبيان فساد مذهبهم ليموت ذكرهم وتختفي عقيدتهم . وهي رؤية علمية معروفة لها صيت في الشام والمغرب وأفريقيا ، كما في كتب التراجم.
لكن الواجب التصريح باسمهم والردِّ على عقيدتهم ، لأن لهم كياناً وأتباعاً ومصنفات ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة كما هو مقرَّر عند الأصوليين.
57-أورد الشنقيطي عند صِّيغ الأمر ، أن الجملة الاسمية تُفيد الثبوت والدوام . قلت : هذا ليس على اطلاقه وإن كان الشيخ لم يقصد الاسترسال في معناها ، بل قد تدل على الحدوث والتجدُّد إذا كان خبرها جملة فعلية ،مثل : المطر زاد خيره ، ونحوها من الأمثلة. فليُستدرك لأهميته . والمسألة مرقومة عند البلاغيين أكثر من رقمها عند الأصوليين ، فلتراجع في مصنفاتهم .
58-نبَّه الشنقيطي إلى أن ابن قدامة خلط بين مسألتين وهما : الأمر المعلَّق على شرط ، والمقترن بالشرط وهو ليس بمطلق . قلت : وأول من نبَّه على هذا الوهم الطوفي ( ت: 716هـ)رحمه الله تعالى في كتابه شرح البلبل ، فليراجع فإنه مفيد جداً . ويمكن مراجعة معاني المسألتين عند السمعاني ( ت: 489هـ )رحمه الله تعالى في القواطع .
والشنقيطي عفى الله تعالى عنه لا يسند الفوائد إلى الكتب الأصولية الحنبلية ، إنما يسند إلى مصنفات المالكية في الأصول والفقه ، ولعله قصد مقارنة فوائد ابن قدامة وفوائد الغزالي بفوائد المالكية في كتبهم وتعليقاتهم للمسائل، مع الإشارة أحيانا إلى مذهب الحنفية ، وهذا أقرب عندي وأرجح .والله أعلم .
59-أورد الشيخ في آخر مسألة الأمر المطلق وأنه لا يقتضي التكرار ، عبارة ( مطلق الماهية ) وهي العبارة الوحيدة في مذكِّرته التي لم يُوردها إلا في هذا الموضع ، ولم يبيِّن معناها سهواً منه رحمه الله تعالى. واللفظة فلسفية يُستدلُّ بها لمعرفة الشي ووجوده وما يتعلَّق به، فالماهية تُطلق على الأمر المتعقَّل، مثل المتعقَّل من الإنسان، وهو الحيوان الناطق مع قطع النظر عن الوجود الخارجي، والأمر المتعقَّل من حيث إنه مقول في جواب ،ما هو، يسمى: ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج، يسمى حقيقة، ومن حيث امتيازه عن الأغيار، هوية، ومن حيث حمل اللوازم ذاتاً، ومن حيث يستنبط من اللفظ مدلولا. وقد وضَّحها الإمام ابن تيمية( 728هـ) رحمه الله تعال في مجموع الفتاوى ( 2/156) وبين حقيقة الخلاف حولها ،وكيف وقع أهل البدع في نفي الصفات بسببها ، وكذلك وضَّحها الشوكاني رحمه الله تعالى في ارشاد الفحول (ص/190)، فلتراجع.
60-في مسألة تعليق الأمر على شرط ، أشار الشنقيطي إلى شرح ابن بدران ( ت:1346هـ )رحمه الله تعالى بلفظة ( محشِّيه ) ، وهو الموضع الأول الذي نقل عنه وضعَّف مقالته ، والموضع الثاني عند اثبات العلة بالاستنباط ، عند تعريف مصطلح الغريب، ولم يستدل بكلامه أو يتعقبه إلا في هذين الموضعين. وهناك موضع ثالث في آخر مسائل المجتهد ناقش نقله وتمثيله، فليستدرك .
والمفهوم من تعقُّب الشنقيطي لكلام ابن بدران أنه لا يُعتدُّ بتصويباته وتقريراته على ابن قدامة ، لأن أكثرها أو جلُّها مستقاة من شرح الطوفي إما بتهذيب أو اختصار .
وتعقب الشنقيطي صحيح في مجمله ، فابن بدران مستفيد وليس بناقد في أكثر حاشيته على الروضة ، مع أنه أورد في مقدمة النزهة أنه محب لهذا العلم ، لكن يبدو أنه انصرف إلى البحث الأصولي العقلي ، فلم ينشط لنقد المسائل الأصولية على حسب الدليل المعتبر .
وكتابه النُّزهة مفيد لمن أراد المعرفة الاجمالية للمسائل الأصولية ، لكن لا يجوز الاعتماد عليه في الترجيح والحكم على المسائل ، لوقوعه في بعض الأوهام العلمية ، بعضها في الميل لتقرير المعتقد الأشعري.
وهو ينقل عن الطوفي مع العزو إليه باسمه أو بلقبه ، وينقل عن ابن النجار من شرح الكوكب المنير ، وينقل كذلك عن البعلي مختصِر الروضة ، وينقل عن السمعاني من قواطع الأدلة ، وله نقول من ارشاد الفحول للشوكاني ، وغيرها من تقريرات الأصوليين في أكثر من عشرة مصادر ، من غير نقد ٍفي الجملة أو تعقب على كلامهم . وقد كان ابن بدران من كبار متأخري الحنابلة في الشام .
61-أورد الشنقيطي عند مسألة الأمر يتعلَّق بالمعدوم ، أن الخلاف فيها لفظي ، وهذا هو الموضع الوحيد من المذكِّرة الذي أشار فيه إلى مسألة الخلاف اللفظي ، ولم يتعرض لمسائل الخلاف اللفظي في كثير من مباحث المذكرة، وقد أشرتُ إلى المهم منها في سلسلة التصحيحات هذه . ومن طالع البحر المحيط للزركشي ( ت:794هـ )رحمه الله تعالى ، سيجدهُ يشير إلى كثير من صُّور الاختلاف اللفظي.
والخلاف اللفظي المقصود به : الاختلاف في اللفظ مع الاتفاق على المعنى .وأسباب الخلاف اللفظي كثيرة منها : كثرة التعمُّق في المسمَّيات واغفال المعاني ، ترك مقاصد الشرع ، عدم فهم كلام المخالف والدليل بدون نظر أو تأمل ، التقصير في فهم مناط المسألة ، وقد أشار إلى الخلاف اللفظي العلامة الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه الموافقات ، فليراجع .
62-في مسألة اقتضاء النهي الفساد أشار الشيخ إلى الخلاف حول انفكاك الجهة في المسألة . ومصطلح انفكاك الجهة أورده الشيخ في مذكِّرته في عشرة مواضع .وهذا يدل على تعمق الشنقيطي في المباحث العقلية وعنايته بمسائلها ، مع حرصه على المعتقد الصحيح .
ولم يحرِّر الشنقيطي المراد من انفكاك الجهة في كل المواضع ، إنما يذكر المناط في المسألة تسهيلاً على الطلاب.
والمقصود بانفكاك الجهة : أن يكون للمسألة الفقهية أو الأُصولية طرفان متباينان ، الأول عكس الثاني ، فيقع الالتباس على المكلَّف في الحكم التكليفي في المسألة . وأغلب مسائل انفكاك الجهة تقع في مباحث النهي ، مثل : حكم الصلاة في الأرض المغصوبة . فالغصب محرم والصلاة صحيحة مع الاثم ، ونتيجة المسألة : الجهة منفكَّة .
والقاعدة التي يمكن ضبط مسألة انفكاك الجهة بها هي الفهم الصحيح لقاعدة الواحد بالعين والواحد بالجنس.
فلا يمكن أن يكون عين الشي حراماً وواجباً في وقت واحد ، لكن جِنسه يمكن أن يشتمل على الحكمين، كالسجود جنس من الشي ، وهو السجود لله تعالى ، أو السجود للصنم عياذاً بالله تعالى .
ومن التطبيقات النافعة ما ورد في السنة من نهي النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يُغطِّي فاه في الصلاة ، كما في حديث أبي هريرة قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم ” عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه ” أبو داود وابن ماجة وصحَّحه الألباني .
فهل لو غطَّى الرجل فاه في الصلاة تكون صلاته باطلة وعليه الإثم ؟ أم يكون عليه الإثم لكن الصلاة صحيحة ؟.
ومن الأمثلة: رجل قام للصلاة وهو يرتدي لباساً من الحرير ، ومن البدهي أن لبس الحرير حرام لكنه لو صلَّى به ، هل الصلاة تكون باطلة ؟ ، أم أن حكم الصلاة يكون في جهة ولبس الحرير يكون في جهة أخرى ؟ .
ففي هذه المسألة يظهراتحاد الجهة وانفكاك الجهة .
وفي الشرع محرَّمات لها طريق واحدة فلا يوجد لها صورة مباحة في الشرع أو جائزة أو مأمور بها ، فهي في كل صورها محرمة لها طريق واحدة ، فهذه الصورة يكون حكمها التحريم والفساد ، مثل نكاح الأمهات فهو له طريق واحد في الشرع ، فلا توجد صورة لإباحته .
فلو أن إنسانا عياذاً بالله تعالى نكح أمه ، سواء كانت من النَّسب أم من الرضاعة ، هل نكاحه يكون صحيحًا ؟ الجواب: النفي، بل عليه الإثم مع فساد هذا النكاح.
أما الصورة الأخرى فهي صورة فعلٍ محرَّم له طريقان ، طريق مأمور به وطريق آخر منهي عنه ، فقد تجد طريق الأمر هو طريق النهي فتكون الجهة متحِّدة ، وقد تجد طريق النهي له جهة معينة ، وطريق الأمر له جهة أخرى ، مثل الصيام في الشرع له طريقان ، فليست كل صوره مأموراً بها ، وليست كل صوره منهياً عنها ، بل له طريق مأمور به كصيام رمضان ، وله طريق آخر منهي عنه كصيام يوم العيد ، فلو أن إنساناً صام يوم العيد هل عليه الإثم مع صِّحة صيامه
؟، أم عليه الإثم مع عدم صحة الصيام وبطلانه ؟ والإجابة هي ترتُّب الإثم مع فساد الصيام ، لأن جهة الصيام هي جهة التحريم فالجهة متحِّدة .
فمثال متحِّد الجهة قول الله تعالى في الصيام ” يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام “(البقرة : 183) ،فهذا علامة الأمر ، ونهى صلَّى الله عليه وسلم عن صيام يوم العيدين ، وهذا علامة النهي ، ففي الأمر قال صوموا وفي النهي قال لا تصوموا ، فالأمر والنهي متجه لجهة واحدة وهي عين الصيام ، فلو صام مع هذا النهي ، فعليه الإثم مع بطلان الصيام وفساده .
وأما مثال منفكِّ الجهة فمثلًا في الصلاة قال الله تعالى ” وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ “(البقرة : 43)، فهذا علامة الأمر ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تغطية الرجل فاهُ في الصلاة ، فهذا علامة النهي ، فالأمر متجه للصلاة ، والنهي متجه لتغطية الفم ، فالجهة منفكَّة ليست على ذات الشيء ولا ركنه ولا شرطه ، فالأمر في اتجاه والنهي في اتجاه آخر ، فيكون حكمها التحريم مع عدم البطلان.
وبعض العلماء قد يتفقون في تأصيل هذه المسألة ، فيقولون لو كان الأمر متحِّد الجهة يكون حكمه التحريم والفساد ، ولو كان منفكَّ الجهة يكون حكمه التحريم وعدم الفساد ، أما في الصور وطريقة التطبيق تجدهم يختلفون ، فتجدهم يتباينون في تحقيق المناط .
فلو كان الأمر متحِّد الجهة يكون حكمه التحريم والفساد ، ولو كان منفك الجهة يكون حكمه التحريم وعدم الفساد .
ولفهم المسألة وتطبيقاتها يراجع كتاب النهي يقتضي الفساد للعلائي. ومن أراد ضبط المسألة جيداً ، فليطالع بفهم مباحث المطلق والمقيد وتعارض الأدلة ، وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ، ففيها أمثلة كثيرة على اتحاد الجهة أو انفكاكها . والله أعلم .
63-في أول مسائل العموم استدرك الشنقيطي على ابن قدامة في أحد تعريفي العام وهو قوله : العام : اللفظ الواحد الدال على شيئين فصاعداً مطلقاً، وقال إن التعريف المنضبط هو :كلام مستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد .
قلت : وهو خلاف لفظي لأن مناط العموم متفق عليه عند جماهير الأصوليين ، ولم ينسب الشنقيطي التعريف الراجح لأحد من أهل العلم ليرجع إليه من شاء ، وقد نبَّه على التعريف الراجح السمعاني رحمه الله تعالى في القواطع ، وأورد بعض الفوائد عليه ، ومثله الشوكاني رحمه الله تعالى ، في ارشاد الفحول ، فليراجع .
64-أورد الشنقيطي في صيغ العموم استدراكاً على ابن قدامة ( ت:620هـ)رحمه الله تعالى حول لفظة ( أيان ) حين قال إنها للمكان واستدرك عليه أنها للزمان ، واستدراك الشنقيطي صحيح ، لكنه لم يتنبَّه أن السهو من الغزالي نفسه .
وسبب سهو ابن قدامة ، أن أين للمكان وأيان للزمان ، فإما أن النُّساخ عكسوها ، أو هو سبق قلم من ابن قدامة نفسه . ثم إنني راجعتُ المستصفى للغزالي رحمه الله تعالى ، فوجدته قد عكس الأداتين ، فقد قال : ” متى وأين للمكان والزمان ” يقصد أن (متى ) للمكان ، و(أين ) للزمان . وهذا غلط ولَبس سببه النَّقلة .
فأصغر طالب علم يعرف الفرق بين أدوات ظرف الزمان وظرف المكان . فيكون ابن قدامة إذاً ناقلاً لسهو الغزالي أو لسهو النُّساخ . وقد رجعتُ لعدة طبعات للمستصفى من النُّسخ المحققة ، فلم أجد من تنبَّه لهذا الخطأ . فليصحَّح فإن فيه فائدة نفيسة جدا ً.
65-أورد الشنقيطي في مسألة سياق العموم على سبب خاص استدراكه على ابن قدامة في هذه المسألة ،وأن الإمام مالك رحمه الله تعالى ( ت:179هـ )يوافق الجمهور في أن لفظ العموم لا يَسقط سببهُ اذا ورد على سببٍ خاص ، وهو وهم من الشنقيطي رحمه الله تعالى ، والفيصل في هذه المسألة كتب المالكية أنفسهم ، فقد أورد الباجي في إحكام الفصول (ص/270 )والقرافي في شرح تنقيح الفصول (ص/216)، وابن العربي في المحصول (78 وما بعدها) ، والشوشاوي (3/329) في رفع النِّقاب ، رحمهم الله تعالى أن الإمام مالك رحمه الله تعالى روي عنه الأمران جميعا ، وأن الألفاظ الواردة على الأسباب على ضربين : الأول : أن يكون اللفظ مستقلاً بنفسه لا يحتاج الى معرفة المراد منه الى سببه ، وهذا يحمل على عُمومه . والثاني : ألا يعرف المراد منه إلا بعد معرفة سببه ، فيقصر سببه ولا يعم إلا بدليل .
66-أورد الشنقيطي عند المخصِّصات المنفصلة ، استدراكاً على ابن قدامة في استشهاده بمخصِّص الحس وهو قول الله تعالى : ” تدمَّرُ كل شيٍ بأمر ربِّها ” ( الأحقاف: 25) ، وقال: فيه عندي نظر ، لأن التخصيص قد يُفهم من قوله تعالى : ” بأمر ربِّها “.أهـ.
قلت : وهذا وهم منه رحمه الله تعالى ، لأن المخصِّص هنا هو المشاهدة ، والحس هو مناط التخصيص، فلا يقع التخصيص بأمر خارج عنه، ومما يقوِّي ذلك أن الله تعالى قال عن الحس أو المشاهدة التي هي الفيصل في هذا النوع من المخصصات : ” وإنكم لتمرُّون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون” ( الصافات: 137-138 ). والمرور هو : الحس أو المشاهدة . والله أعلم .
67-أورد الشنقيطي عند المخصصات المنفصلة ، أن العرف المقارن للخطاب من المخصصات التي لم يذكرها المؤلف . قلت: لم يذكره لأنه محلُّ خلاف عند الحنابلة والشافعية ، ولهذا جرَّده الغزالي وابن قدامة من كتابيهما المستصفى والروضة .
والذين قالوا به هم الحنفية والمالكية إلا القرافي ، رحم الله الجميع . والمسألة فيها خلاف اجتهادي وهي طويلة ، وحجة المانعين من التخصيص بالعرف ، أن العموم يبقى على عمومه إلا بنص قطعي ، وأن العوائد تتغيَّر فلا يصح أن تُخِّصص العموم . ويمكن مراجعة الخلاف في الإحكام للآمدي (2/407) ،ومباحث التخصيص عند الأصوليين للشيلخاني (287- وما بعدها ) .
68-أورد الشنقيطي عند مسألة استثناء الأكثر ، الردَّ على ابن قدامة في جوابه بدخول الملائكة في آية استثناء الغاوين وخروجهم من آية استثناء المخلصين ، أن ذلك ليس بمتجِّه وأن الظاهر اخراجهم من الآيتين أو ادخالهم فيهما ، وأن اخراجهم من واحدة وادخالهم في أخرى تحكُّم بلا دليل .
قلت: القاعدة الصحيحة هنا أن الاستثناء إن ورد في نصوص الوحي فلا يجوز تأويله أو تضعيف قاعدته ، فيعمل بالاستثناء إن كان له دليل ووافق قواعد اللغة ، وما لا دليل عليه فلا يُلتفت له . وهذه المسألة خلافية بين الحنابلة والباقلاني المالكي(ت: 403هـ)الأشعري ، عفى الله تعالى عنه .
فليت الشنقيطي نبَّه على ذلك .وفي الشرح الكبير على المقنع(30/231) مذاكرة لها ، فلتراجع.
69-تابع الشنقيطي ابن قدامة في التعليق على قول الشاعر :
أدُّوا التي نقصت تسعين من مائة .. ثم ابعثوا حَكماً بالحق قوَّالا
فقد قال إنه ليس فيه استثناء وأنه بيت مصنوع .قلت : أما الاستثناء في البيت ففي معناه لا بلفظه ، وأما أنه مصنوع فإنه وهم من قائله ، لأن البيت من قصيدة لأبي مكعث أخي بني سعد بن مالك . والقصيدة في شرح شواهد المغني (7/229) وفي أمالي ابن الشِّجري (1/322) ، فلتراجع .
أما ما نَسبه ابن قدامة للشاعر علي بن فضال المجاشعي (ت: 479هـ ) رحمه الله تعالى ، فقد وقع خلط والتباس في كثير من النُّسخ ، هل هذا القول لابن فضال أم لابن فصال ، والراجح أن اسم أبيه بالضاد خلافا لبعض الأصوليين المعاصرين .
والدليل على هذا الترجيح تظافر كثير من المؤرخين الذين ضبطوا اسم أبيه بالضاد لا بالصاد . انظر ترجمته في: البلغة للفيروز آبادي ( ص/161) ، والمنتظم لابن الجوزي( 9/33 )، ولسان الميزان لابن حجر( 4/249 ) وغيرها ، وهذا الوهم يسير لكن نبَّهتُ عليه لأن البعض غلَّط ابن قدامة والشنقيطي فيه. والله أعلم .
70-في مبحث مفهوم المخالفة في باب الفحوى والإشارة غلَّط الشنقيطي ابن قدامة في تمثيله للحصر بأقوى الصِّيغ ، وهي النفي والإثبات ، مثل : ” لإله إلا الله “، وقال إن الحصر يكون ب ( إنما) ونحوها من الأدوات .
قلت : ما رجَّحه الشنقيطي رحمه الله تعالى هو قول المالكية ، فقد نقل هذا القول عن الباقلاني المالكي . والشيخ نفسه مالكي في الفروع ، يقوِّي أدلة المالكية في أكثر بحوثه ، وهو معذور في ذلك بسبب البيئة والنشأة ، والدليل على ذلك تقويته لاختيارات ابراهيم العلوي ( ت:1233هـ )رحمه الله تعالى ، صاحب نشر البنود في هذه المسألة ، وغيرها في نحو خمسة مواضع من المذكِّرة. والمسألة اجتهادية لا يُمكن الجزم بها.
وعادة الشنقيطي أنه في المسائل المتعلِّقة باللغة ولها وجه أصولي، يجتهد ويختار من أقوال أهل العلم ، أو ينقِّح ما يراه مناسباً للمسألة. والله أعلم .
71- أفاد الشنقيطي عند حديثه عن مفهوم المخالفة أن ابا حنيفة (ت: 150هـ )رحمه الله تعالى لا يقول به من أصله ، ولم يعلِّل ذلك أو يذكر سبباً . والعلة أن مفهوم المخالفة عند أبي حنيفة لا يصلح لكل الأحكام ، ومقاصد الشرع لا يمكن الإحاطة بها بخلاف مقاصد الناس .فقد عملوا به في كلام الناس للضرورة. وهذه المسألة من المسائل المنتقدة على أبي حنيفة رحمه الله تعالى . والعمل بالبرآءة الأصلية عند الحنفية يساوي العمل بمفهوم المخالفة – في الغالب -عند غيرهم .والله أعلم .
72-يُستفاد مما سبق كُّله أن أعظم نعمة ينعم الله بها على عبده هي اتباع شرعه . قال الإمام مالك رحمه الله تعالى : “من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة ، فقد زعم أن محمداً خان الرسالة ؛ لأن الله يقول : ” اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ” ( المائدة: 3 )، فما لم يكن يومئذ دِّيناً ،فلا يكون اليوم دِّيناً “.
73- من الدروس المليحة للمسائل السابقة ، أن تدبر العلم يقلل من الخلاف فيه. وقد سئل ابن القيم رحمه الله تعالى ، أيهما أفضل : السرعة بالقراءة مع كثرتها ، أم قِلَّة القراءة مع ترتيلها وتدبرها؟ فأجاب: ” الصواب في المسألة أن يقال: إن ثواب قرآءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدراً ، وثواب كثرة القراءة أكثر عدداً، فالأول كمن تصدق بجوهرة عظيمة أو أعتق عبداً قيمته نفيسة، والثاني كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم أو أعتق عدداً من العبيد قيمتهم رخيصة”.
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
1440/5/23