وصلتنا رسالة من أحدِ طلبة العلم في (ديرب نجم) من مِصر،وفيها إشكال فقهي،ملخَّصهُ أن في بعض مسائل الأحكام عند الحنفية تناقض ظاهرٌ،وأورد بعض الأمثلة وهي :

أ-عدم إقامة حدِّ الزنا على الأخرس
ب-إقامة القَصاص على الأخرس.
ج-عدم إقامة الحدِّ على الإمام.

وقبل تحرير المسألة لا بُدَّ من مقدِّمة بين يدي الجواب:
الحنفية على وجه العموم يتوسَّعون في تطبيق قواعد القياس والإستحسان على المسائل الفقهية ،ومن الخطأ أن نعزو هذا التوسُّع للإمام أبي حنيفة(ت: 150هـ ) رحمه الله تعالى.والراجح أن ” زفر بن هذيل”(ت: 158هـ )رحمه الله تعالى، ومن جاء بعده من العلماء والقضاة ،كانوا نواةً لهذه المبالغة على حساب النص.
يضاف إلى ذلك كثرة المناقشات والفروع التي في مذهبهم وأقوال علمائهم ،فقد كانت سبباً من أسباب التوسُّع في القياس وردِّ خبر الواحد أحياناً.
والصواب فهم أصول مذهب كما قرَّره الإمام نفسه:الكتاب،السُّنة،الإجماع ،فتوى الصحابة، القياس،الإستحسان، العُرف،الإستصحاب، سدُّ الذرائع.
ومن الاخطأء التي يقع فيها بعض طلبة العلم ،الولوج في مطالعة ودراسة الكتب الفقهية قبل الوقوف على أصول المذهب،ولهذا تلتبسُ الأحكام ويقع التعارض في الذِّهن،فلا يمكن إلحاق الفروع بالأصول بشكل صحيح.
وهذه المسألة المنهجية المهمة نبَّه عليها الأسنوي (ت: 772هـ )رحمه الله تعالى كما في ” التمهيد”( ص/ 33-34 ).
ولهذا دائماً نُوصي طالب العلم بدراسة أصول المذهب المقرَّر في بلده ، ودراسة أصول الفقه على المذهب المقرَّر دراسة مستفيضة ،حتى يأمن من الوقوع في الزلل ،وحتى يضبط فهم المسائل ضبطاً صحيحاً، ولا يقع عنده ما يسمِّيه العلماء (الإخلال بالفهم).
أما الجواب على الرسالة فيكون في النقاط الآتية :
أولاً: إذا وقع الأخرس في الزنا وثبت ذلك عليه بالشُّهود أو بالإقرار الصريح ،فإن الحد يقام عليه ،وهذا هو القول الراجح عند المحقِّقين والمتعارف عليه في المحاكم الإسلامية ،ما عدا الحنفية.
فقد اشترط الحنفيّة في حدّ الزنا، أن يكون من صدر منه الفعل ناطقاً‏.‏
فلا يقام حدّ الزّنى عندهم على الأخرس مطلقاً، حتّى ولو أقرّ بالزّنى أربع مرّات في كتاب كتبه أو إشارة، ولو شهد عليه الشّهود بالزّنى لا تقبل للشّبهة!.
لكن يجب التنبيه هنا أن الخلاف بين الحنفية وغيرهم،هو خِلاف في إقرار الأخرس ،لأن إجتماع أربعة شهود للشهادة عليه ونقضه لشهادتهم، فيه مشقة من الطرفين . وعليه يكون إقرار الأخرس فيه حرج على القاضي، فلا يمكن الجزم به،فيُدرء الحدُّ عنه،إن لم تكن هناك قرينة قوية تُثبت وقوعه في الفاحشة.
وعند الحنفية يجب على الأخرس المتهم بالفاحشة، أن يصف للقاضي: الزنا وكيفيته ومحلَّ الزنا والمزني بها ووقت ذلك،وهذا كله مظنة الخلط والغلط والتدليس ،فَيُدرء الحدُّ عنه ذلك.
واستدل الحنفية بحديث:” ادرؤوا الحدود بالشبهات” أخرجه البيهقي وإسناده ضعيف. والصحيح أنه موقوف على عائشة رضي الله عنها بلفظ:” ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم” أخرجه البيهقي موقوفاً بسند صحيح.
والشبهة عند الحنفية هنا ليست في أصل الحدِّ ،إنما لاعتلال الأخرس وصعوبة ضبط الإقرار منه.
(انظر: قانون الإثبات المصري : رقم 25).
وخلاصة الكلام أن الحنفية قالوا : إن إشارة فعل الزنا بدلٌ عن العبارة،والحدود لا تقام بالبدل!،وهذا قياس منهم ،وهو قياس مخالف للنص، ولا يجوز تقديم القياس على النص.
فقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإشارة المرأة الجارية التي هشم يهوديٌّ رأسَها ،فلما سُئلت عن الفاعل : أهو فلان، أومأت برأسها بنعم.
متفق عليه.
أما إقامة القصاص على الأخرس،فحاله كحال غيره على القول الراجح،ودرء الشُّبهة عنه في الجناية على النفس ضعيف،فلم يقل به الحنفيةُ ،بل قالوا بوجوب القصاص عليه بالشروط المعتبرة عند المحقِّقين.

ثانياً: إقامة الحدِّ على الإمام :
الحُدود تقام على الأمير وعلى رعيته ،وقد ثبت هذا بالسُّنة الفعلية ،كما في قوله صلى الله عليه وسلم:”وأيم الله لو سرقت فاطمة بنت محمد ،صلى الله عليه وسلم، لقطعت يدها” متفق عليه .
وقد ورد في صحيح مسلم أن عثمان رضي الله عنه أمر بجلد الوليد لما ثبت عنده أنه شرب الخمر ، وجاء في صحيح الأخبار :” كان الوليد شجاعاً شاعراً جواداً، قال معصب بن الزبيري: وكان من رجال قريش وسراتهم، وقصة صلاته بالناس الصبح أربعاً وهو سكران مشهورة مخرَّجة، وقصة عزله بعد أن ثبت عليه شرب الخمر مشهورة أيضاً مخرَّجة في الصحيحين، وعَزلهُ عثمان عن الكوفة بعد جلده .أهـ.
وقد علَّل الحنفية لهذا الإختيار في مسألة عدم اقامة الحدِّ على الإمام ،كما في ” نصب الراية مع الهداية ” (3/524):(وكل شيءٍ صنعه الإمام الذي ليس فوقه إمام ،فلا حدَّ عليه إلا القصاص ،فإنه يؤخذ به وبالأموال؛ لأن الحدود حق لله تعالى وإقامتها إليه لا إلى غيره، ولا يُمكنه أن يقيم على نفسه لأنه لا يفيد، بخلاف حقوق العباد لأنه يستوفيه ولي الحق، إما بتمكينه أو بالاستعانة بمنعة المسلمين، والقَصاص والأموال منها، وأما حدُّ القذف فقالوا: المغلَّب فيه حق الشرع، فحكمه حكم سائر الحدود التي هي حق لله تعالى).أهـ.
وهناك توضيح للمسألة أورده ابن قاسم (ت: 1392هـ )رحمه الله تعالى في حاشية الروض المربع (7/302):(وفي الدرر للحنفية أن الخليفة لا يُحدُّ ولو لقذف، لأن الحدَّ له، وإقامته إليه دون غيره ،ولا يمكنه على نفسه، ويقتص منه ويؤخذ بالمال لأنهما من حقوق العباد). أهـ.
والراجح أن قصة الوليد لا تُعارض ما تقدَّم من كلام الحنفية، لأن عدم إقامة الحدِّ على الحاكم ،إنما تختص بالإمام والي المسلمين وحاكمهم النافذ أمره، أما الوليد فقد كان أميراً تحت ولاية عثمان رضي الله عنه، فالإمام الأعظم هو عثمان رضي الله عنه.
أما مسألة القَصاص والحقوق المالية فمحلُّ اتفاق بين المحقِّقين،فالإمام يُؤخذ به ويَقتصُّ منه صاحب الحق.
وقد أقاد النبي صلى الله عليه وسلم سواد بن غزية من نفسه ،حينما كان صلى الله عليه وسلم يقوم في غزوة بدر بتعديل الصفوف، وكان سواد متنصلاً من الصفِّ فعدَّله الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال سواد: أوجعتني يا رسول الله فأقدِني، فكشف صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: استقد، فاعتنقه سواد وقبَّل بطنه. رواه عبد الرزاق بإسناد حسن، لكنه مرسل.
وبعد معرفة الراجح في هذه المسألة،يتبيَّن لك أن تطبيقها على الواقع المعاصر فيه مُجازفة لا تخفى على اللبيب.

وختاماً فإن طالب العلم والباحث في الدراسات الإسلامية ،يجب عليه معرفة الراجح والمرجوح،ويكون ذلك بالرجوع إلى المصادر الأصيلة في المذاهب،وبمعرفة أصول العلماء في الإستنباط. وبالله التوفيق.
هذا ما تيسر تحريره ،والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

د/ أحمد بن مسفر العتيبي
عضو الجمعية الفقهية السُّعودية
1441/10/5هـ.