كتاب فقه السنة للشيخ السيد سابق (ت: 1420هـ )رحمه الله تعالى ، من الكتب الفقهية المهمة التي صنَّفها المعاصرون ، فقد تعب فيه مُؤلِّفه فأفاد وأجاد .
والكتاب كبير تزيد صفحاته على ألفِ ورقة .
وقد عرفتُ بحمد الله تعالى هذا الكتاب قبل ثلاثين عاماً حين شرعتُ في طلب العلم ، فكان نِعم المعين وخير القرين .

والكتاب في مجمله يدور مع الدليل ولا يتعصَّب لمذهبٍ معين ، وأهم خصائصه عنايته بالوسطية في الأحكام ، من غير غُلوٍ ولا جفاء .
وفى الكتاب استدلال بالآثار الضعيفة في كثير من الأدلة ، وبعضها حسَّنهُ المحدثون والبعض الآخر فيها ضعف شديد .

وليس في الكتاب حشو – في مجمله – أو تطويل زائد ، بل أسلوبه رائق عذب ، وقد بارك الله لمؤلِّفه فيه ، فقد طبع كثيراً بإذنه وبغير إذنه .

والسيِّد سابق رحمه الله تعالى اعتمد على مصادر كثيرة بعضها قديم وبعضها مُعاصر له .
ومن أشهرها في كتابه : زاد المعاد لابن القيِّم ، وبعض اختيارات الفقهاء ، وفتح الباري لابن حجر ، ونيل الأوطار للشوكاني ، وسبل السلام للصنعاني ، والدين الخالص لمحمود السبكي ، رحم الله الجميع ، وكذلك شروحات كتب الحديث ، وبعض محفوظاته في الأزهر ، وغيرها.

وللمحدِّث الألباني (ت: 1420هـ)رحمه الله تعالى تعليق على أحاديث فقه السنة ، وهو مفيد جداً ، لكنه لا يخلو من تعقُّب ونقد في الجانب الحديثي .

ومنهج سيِّد سابق في الكتاب لمن سَبره وأطال النظر فيه يقوم على : التتبُّع والاستقصاء ومقارنة أقوال المذهب واستخلاص الراجح منها ، وعنده تساهل بالتصحيح والتحسين للأحاديث ، وهو مذهب لبعض الفقهاء كابن رشد وغيره .

وقد كانت لي على الكتاب تعليقات خاصة وتنبيهات واستدراكات على فوائِته ، وقد جمعتُها وحرَّرتُها على هوامش نسختي ، وهي نافعة لمن أراد جَرد الكتاب وتحرير مسائلِه .
وقد كانت النيةُ طيَّ هذه التحريرات ، لأن بعضها فيه اختلاف شائك ، ولأن الكتاب طويل ولمباحثه فروع كثيرة ، فمسألة الإستدراك عليه صعبة جدا ، لسببين :

الأول : أن المؤلِّف يستقصي في الغالب ، فلا يترك إلا العزيز النادر.
الثاني : أن الكتاب جيِّد في الجملة ، ولا يعيبه سوى الاحتجاج بالضعيف والشاذ أو المنكر أحياناً . والتخريج الآن ميسور لسهولة البحث بالحاسوب وغيره .
لكن لأنني كنتُ مقبلاً على الكتاب ومقلِّباً لصفحاته طويلاً ، وتحقيقاً لقاعدة التعييِّن متى كان مفيداً يجب اعتباره ( أوردها السرخسي في شرح السِّير للشيباني ) ، فقد رأيتُ نشر هذه الاستدراكات المختصرات .

ومنهجي هنا هو تتبُّع المسائل والفوائِت الفقهية التي غَفل عنها السيِّد سابق في فقه السنة ، كل ذلك حسب الطاقة وما يفتحه الله من هداية وتوفيق، وقد اعتمدتُ على طبعة الفتح للإعلام العربي – نُشرت سنة 1425هـ).

اسأل الله أن ينفع بها من وقف عليها ، وهذا أوان الشروع في المقصود :

1-يورد الشيخ – في كثير من صفحات الكتاب – بعض الأحاديث عن أحمد وأصحاب السُّنن ، وهؤلاء اصطلح المحدثون على تلقيبهم بالخمسة ، وعندهم من الضعيف والحسن والصحيح ما يجب التنبيه عليه في محله . فيجب الإعتناء بهذا الأصل عند مطالعة الكتاب .

2- في باب المياه ( ص/ 15) لم يُورد الشيخ تحقيق معنى القُلَّة ،وهي الجرة العظيمة ، وتساوي ذراعاً وربعاً طولاً وعرضاً وعمقاً .
انظر : الروضة الندية لصديق حسن خان (1/8 ) .

3-أورد الشيخ في سُّنن الفِطرة مسألة إعفاء اللحية ( ص/ 29) ولم يذكر دليلاً على وجوب إعفائها ، ويُفهم من كلامه أنه يقول باستحباب إعفائها . والصحيح وجوب الإعفاء لنصِّ الدليل على ذلك كما نبَّه عليه جماهير العلماء . انظر : المحلى لابن حزم (1/ 100) ، وحاشية ابن عابدين (1/ 204 .)

4- طهارة الدم ونجاسته : أورد الشيخ المسألة ( ص/ 40) ولم يُعرِّج على الخِلاف فيها ولم يُحرِّره ، ومال إلى طهارة الدم ، وهي مسألة خلافية ، والراجح والله أعلم طهارته لحديث ابن مسعود رضي الله عنه: ” انه نحر جزوراً فتلطَّخ بدمها وفرثها فصلَّى ولم يتوضأ ” . أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بسند صحيح . انظر : السيل الجرار (1/ 44 ) .

ومسألة طهارة الدم للإنسان قول للمالكية وللظاهرية . انظر : حاشية الدسوقي (1/ 52 )، والمحلى ( 1/ 102 ).

5-قيء المؤمن : أورد الشيخ المسألة : ( ص/ 40) ومال إلى عدم نقضه للوضوء . قلت : وهو مختلف في طهارته ، فالمالكية يقولون بنجاسته لشبهه بالعذرة ،كما في حاشية الدسوقي( 1/ 51) ، والراجح طهارته . انظر السيل الجرار للشوكاني ( 1/ 43) .

6-ريق الكلب : لم يورد الشيخ المسألة ، وهو مختلف في نجاسته ، والراجح نجاسته ، للحديث المشهور في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه .

7-الأنفحة : لم يُورد الشيخ المسألة ، وهي ما يكون في كرش الجدي أو الحمل الرضيع فيوضع عليه قليل من اللبن ليصير جبناً ، وهي مختلف في طهارتها ، والراجح الطهارة لأنهما مأكولان . ينظر فتاوى ابن تيمية (21/ 101 ) .

8-طهارة الخنزير : لم يورد الشيخ المسألة ، وهو ليس بنجس على القول الراجح ، لكن أكله محرم . انظر : طرح التثريب 1/ 126 ).

9-عظم الميتة وقرنها وظفرها : لم يورد الشيخ المسألة ، وهي ليست بنجس على القول الراجح. انظر مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 104) .

10-طهارة الخمر : لم يورد الشيخ المسألة ، وهي ليست بنجسة على القول الراجح ، انظر الشرح (الممتع 1/ 429 ).

11-قصُّ الشارب : لم يورد الشيخ المسألة ، والمبالغة في قصِّ الشارب من جميع جوانبه هو السنة ، وقد رجح الإمام الطبرى التخيِّير في الأخذ منه أو حفِّه . انظر فتح الباري( لابن حجر10/ 347 ) .

12-الإدِّهان : لم يورد الشيخ المسألة ، وليس من السنة الإدهان كل يوم . للحديث الذي رواه الخمسة بسند حسن . وانظر : الشرح الممتع لابن عثيمين1/ 127 ).

13-التسمية في الوضوء : أورد الشيخ المسألة ، ( ص/ 33) وقال إن أحاديثها ضعيفة تتقوى ببعضها ، والصحيح أن التسمية سنة مؤكدة لحديث أنس مرفوعا : ” توضؤوا باسم الله ” أخرجه أحمد والنسائي بإسناد صحيح . والحنابلة يقولون إنها واجبة تسقط بالسهو . والله أعلم .

14-الوضوء من الرعاف : لم يورد الشيخ المسألة ، والحديث الوارد في الوضوء من الرعاف ضعيف لا يثبت ، كما نبه عليه ابن حجر في التلخيص الحبير( 1/ 274 )، فليتنبه لهذا .

15-غسل الرأس في الجنابة : لم يورد الشيخ المسألة ، والراجح في غسل الجنابة أنه لا يمسح الرأس بل يغسل ، بعكس الوضوء . انظر فتح الباري لابن حجر (1/ 363 ).

16-الترتيب في الوضوء : لم يورد الشيخ المسألة في مسائل الوضوء( ص/ 31- وما بعدها ) . وقد أوجبه شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهو قول لبعض المحقِّقين . انظر مجموع فتاوى ابن تيمية (21/ 422 ) .

17-قراءة القرآن للحائض : لم يورد الشيخ المسألة ، ويجوز للحائض قراءة القرآن من حفظها بلا مسٍّ ، وقد رجَّح هذا جمع من المحققين المعاصرين ، منهم شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى، كما هو منقول عنه في دروسه وفي موقعه الإلكتروني .

18- مسألة التطوع في أوقات النهي في الحرم : أورد الشيخ المسألة ( ص/ 76) . وفي كلامه اضطراب عند تحقيق المسألة .
فقد ذهب الشافعية إلى الجواز مستدلين بحديث جبير بن مطعم عند الترمذي وغيره: ” يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلَّى أية ساعة شاء من ليل أو نهار. وخالفهم في ذلك الجمهور وحملوا الحديث على ركعتي الطواف خاصة، ثم اختلف الشافعية هل الجواز خاصٌّ بالمسجد فقط أو بمكة ، أو عامٌ في الحرم كله وهو المذهب.
قال النووي في شرح المهذب: ” قال أصحابنا: لا تُكره الصلاة بمكة في هذه الأوقات، سواء في ذلك صلاة الطواف وغيرها، هذا هو الصحيح المشهور عندهم، وفيه وجه أنه إنما تُباح صلاة الطواف حكاه الخراسانيون وجماعة من العراقيين منهم الشيخ أبو حامد والبندنيجي والماوردي، وحكاه صاحب الحاوى عن أبي بكر القفال الشاشي، والمذهب الأول، قال صاحب الحاوي: وبه قال أبو إسحق المروزي وجمهور أصحابنا، والمراد بمكة البلدة وجميع الحرم الذي حواليها، وفي وجه إنما تبُاح في نفس البلدة دون باقي الحرم، وفي وجه ثالث حكاه صاحب الحاوي عن القفال الشاشي إنما تباح في نفس المسجد الذي حول الكعبة لا فيما سواه من بيوت مكة وسائر الحرم، والصحيح الأول صححه الأصحاب وحكاه صاحب الحاوي عن أبي إسحق المروزي، هذا تفصيل مذهبنا. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: لا تباح الصلاة بمكة في هذه الأوقات لعموم الأحاديث، دليلنا حديث جبير ” .
قلت : ومذهب الجمهور في هذه المسألة أرجح والله أعلم .
قال النووي رحمه الله: حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ” يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلَّى أي ساعة شاء من ليل أو نهار ” رواه أبو داود والترمذي في كتاب الحج والنسائي وابن ماجه وغيرهما في كتاب الصلاة، وهذا لفظ الترمذي، وقال: هو حديث حسن صحيح.
قال البيهقي:” يحتمل أن يكون المراد بالصلاة صلاة الطواف خاصة وهو الأشبه بالآثار، ويحتمل جميع الصلوات (قلت) ويؤيد الأول رواية أبي داود: ” لا تمنعوا أحداً يطوف بهذا البيت يُصلِّي أيَّ ساعة شاء من ليل أو نهار ” .
وقال ابن قدامة رحمه الله: ” ولا فرق بين مكة وغيرها في المنع من التطوع في أوقات النهي، وقال الشافعي : لا يمنع فيها لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ” لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلَّى في أي ساعة شاء من ليل أو نهار ” وعن أبي ذر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” لا يُصلِّين أحدٌ بعد الصبح إلى طلوع الشمس ولا بعد العصر إلى أن تغرب الشمس إلا بمكة ” . يقول : قال ذلك ثلاثاً رواه الدارقطني. ولنا عموم النهي وأنه معنى يمنع الصلاة، فاستوت فيه مكة وغيرها كالحيض. وحديثهم أراد به ركعتي الطواف فيختص بهما، وحديث أبي ذر ضعيف يرويه عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف قاله يحيى بن معين ” أهـ .

19-قراءة الإمام في الصلاة السرية آيةً فيها سجدة : لم يوردها الشيخ ، والصحيح جوازه ، كما رجَّحه ابن قدامة في المغني(2/ 371 ).

20-اقتداء المأموم بالإمام : لم يورد الشيخ المسألة ، فإذا كان خارج المسجد يصح ولو فَصل بينهما فاصلٌ كطريق ونحوه ، بشرط أن يعلم بصحة إمامه ، وأن لا تزيد المسافة بينهما عن ثلاثمئة ذراع . انظر : منار السبيل( 1/ 129 )، وشروط الإمامة للرملي (ص/ 33).

21- صلاة التراويح في البيت : أورد الشيخ المسألة لكنه لم يُرجِّح، وصلاة التراويح في المسجد أفضل كما رجَّح ذلك الإمامان مالك والشافعي رحمهما الله تعالى . انظر المغني لابن قدامة (2/ 605 ). وهذه المسألة من المسائل التي خاض فيها المعاصرون ، والترجيح فيها يكون على حسب حال المصلِّي وطاقته واحتسابه للأجر .

22-اشتراط أربعين رجلاً لصحة الجمعة : لم يورد الشيخ المسألة ، ولا يشترط لصلاة الجمعة أن يكون المصلون أربعين ، بل تنعقد بثلاثة . انظر : فتاوى ابن باز (3/ 332 ).

23- النِّداء لصلاة العيد : لم يورد الشيخ المسألة ، والصحيح أنه لا يقال في صلاة العيد : الصلاة جامعة ، لكنها تُقال في صلاة الكسوف لخفائِها على الناس . انظر : تعليقات ابن باز( 3/ 14 ).

24- طواف الوداع هل يجزىء عن طواف الإفاضة ؟ :
لم يورد الشيخ المسألة ، والصحيح عند كثير من العلماء أنه يجزىء عن طواف الإفاضة .
انظر بداية المجتهد لابن رشد (2/ 109 ).

25-محلُّ الشروط في النكاح : لم يورد الشيخ المسألة ، والصحيح ماكان في وقت العقد أو قبله . أما بعد مُضي العقد فلا عبرة به لفوات محلِّه . انظر : الإنصاف للمرداوي 8/ 154 .

26- المعتبر في الدخول في النكاح : لم يورد الشيخ المسألة ، والمعتبر هو الوطء وليس الخلوة . وهذه المسألة فيها خِلافٌ طويل .
انظر : إرواء الغليل للألباني( 6 / 357 ).

27- إذا انتهت عِدة المرأة من الطلاق الرجعي : لم يورد الشيخ المسألة ، والصحيح أنه ليس له مراجعتها إلا بعقد ومهر جديدين ، ويَرجِعُ لها بما بقي في عصمته من الطلقات الثلاث سواء ، إن لم تتزوج غيره . انظر : المغني لابن قدامة (10/ 532 ) .

28- تقديم الكفارة على الحنث : أورد الشيخ المسألة في مسائل اليمين (ص/ 891) ) وذكر الخلاف فيها ورجَّح جواز التقديم للكفارة على الحنث، وهو رأي الأحناف ، ولم يذكر قول الشافعية. والصحيح أنه يجوز تقديم الكفارة على الحِنث خلافاً لأبي حنيفة وربيعة وداود . وقال الشافعية : يجوز تقديم الكفارة على الحنث إلا في الكفارة بالصيام فلا يجوز .
انظر : المبسوط (7/ 234 ). قلت : وقد كرر الشيخ سيد سابق باب اليمين مرتين في وسط الكتاب وفي آخره ( ص/ 1044) . فلعله أراد بسط مسائل اليمين مع باب الشهادات لمناسبة مسائلها معها في آخر الفقه . والله أعلم .

29- حكم التأمين : لم يورد الشيخ المسألة ، لكنه ناقش مسألة ردَّ المال في شركات التأمين إذا أوفى الأقساط في حياته . وخَلص إلى بطلان هذا العقد ، فيفهم من كلامه تحريم التأمين بجميع أنواعه . وهذه المسألة صعبة وخلافية ، والله أعلم بالراجح فيها .

30- من الغرائِب والعجائِب في كتاب فِقه السنة لسيِّد سابق ، إيراده لبعض النُّقول والمقارنات التي لا تُناسب الكتاب الشرعي ، كاستشهاده بتقارير الأمم المتحدة ( ص/ 501) ، واستشهاده ببعض أقوال ابن سينا من كتاب الشِّفاء ( ص/ 627) ، ونصوص من إنجيل متَّى وإنجيل مُرقص (ص/ 628) ، وبعض مواد المحاكم القانونية ( ص/ 684و 685) . فليتهُ رفع كتابه ونزهَّهُ عن تلك النُّقول .

وأخيراً فإن الشيخ سيد سابق رحمه الله تعالى حذف من كتابه فقه السنة أبواب العتق والكتابة وأحكام أمهات الأولاد، وهو رأي لبعض المعاصرين ، بدعوى عدم الحاجة إليها لانعدام وجودها في هذا العصر ، وكان الأولى إثباتهُا لأنها من التفقُّه في دين الله تعالى .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

1/ /1439/3