يُعدُّ علمُ أصول الفقه من العلوم التي يجب على المتعلّم تعاهدها وتحقيق مسائلها ، وهو من العلوم التي نضجت ولم تحترق كما قال الإمام “الزركشي” (ت : 794هـ ) رحمه الله تعالى . وإذا كان الفقه هو معرفة النظائر، فإن الأصول هي القواعد التي تُعين على جمع شتات المسائل ، وتحفظ الذهن من الخلط بين الدلائل . كما قال العلّامة الصبان (ت: 1207هـ ) رحمه الله تعالى :
إنّ مبادئ كل فنّ عشرة…………………….الحدُّ والموضوع ثم الثمرة
ونسبةوفضله والواضعُ………………. والاسم الاستمداد حكم الشارعُ
مسائل والبعض بالبعض اكتفى ………… ومن درى الجميع حاز الشرفا
والرسوخ في هذا العلم لا يتحصّل إلا بسببين : الأول : مذاكرة الأدلة الشرعية ، ودليله قول الرسول صلى الله عليه وسلم : “تعاهدوا هذا القرآن” أخرجه الشيخان . والثاني : التحقيق والتدقيق ، ودليله قول الله تعالى : ” ولو ردُّوه إلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم” ( النساء :83 ) . وتلقّي علم اصول الفقه كمسائل نظرية لا تطبيقية ، يضعف العزيمة والملكة في الترقّي في أبواب هذا العلم.
والملاحظ اليوم أن القواعد والمسائل الأصولية لا يستفاد منها في الردود العلمية ، ومناظرة أهل الاهواء، وكذلك الإفادة منها في الجوانب الدعوية والتربوية . بل حتى العُصاة والفُساق مأمول منهم الإفادة من القواعد الأصولية ، وقد قال بعض الأصوليين : ” فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً، والدليل قول الله تعالى : “كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ” ( المائدة : 79 ) ففي الآية ذم الله تعالى تركهم للتناهي مع اشتراكهم في الفعل” .
والمتأمل للساحة العلمية يتبيّن له أن أكثر من نشروا سمومهم الفكرية وتلبيساتهم العقدية،هم ممن أفادوا من المسائل الأصولية وتمكّنوا منها ووظّفوها للنيل من الثوابت العقدية والشرعية . مثال ذلك قاعدة : “الدليل اذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال “، وهي قاعدة أصولية مشهورة يستدل بها أئمة أهل السنة والجماعة في مصنفاتهم ، لكن أهل الفكر العفن من بني جلدتنا يجادلون بها عند المناظرة لإضعاف حجة أهل السنة، إذا أرادوا هدم مسألة شرعية لا تتوافق مع أهوائهم، بمجرد احتمال ضعيف في عين الدليل .ومن دسائسهم أيضا: وصفهم للأحاديث الصحيحة التي لا توافق فكرهم بأنها “أحاديث آحاد”( ظنية )، وأن اليقين لا يزول بالشك ،وبعض اولئك نسف أحاديث الصحيحين كاملة تأسيسا على القاعدة السالفة!!.ولا ريب أن الدليل الشرعي قسمان : سمعي وعقلي ، فالسمعي ما ثبت بالنقل الصحيح ، والعقلي ما دل عليه الشّرع والعقل . وطريقة بعض المفكرين الإسلاميين اليوم في التدليس والتلبيس مبنية على أمرين : الاستدلال بالمتشابه من القرآن أو من السنة ، وتعطيل المحكم عن دلالته . فكل من دقّق في أساليب المبتدعة من المفكرين أو أذنابهم المعاصرين ، يتبين له تمسكهم بهذا المسلك الوعر . فمن أراد اسقاطهم فعليه بنقض مسلكهم هذا ، حتى يبقون بلا حجة .
وقد روى البيهقي بسندٍ صحيح عن سعيد بن المُسيّب “أنه رأى رجلاً يصلّي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين ، يُكثر فيها الركوع والسجود ، فنهاه ، فقال : يا أبا محمد ، أيعذّبني الله على الصلاة ، قال : لا ، ولكن يعذّبك على خلاف السنة ” . وهذا دليل عقلي بديع من الإمام سعيد بن المُسيّب لا يتطرق إليه الاحتمال، لموافقته لأدلة الشّرع .
ومن النّوازل التي يمكن أن يُستدل لها بدليل شرعي عقلي ، قول البعض: لم يثبت في السّنة المطهّرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم في العقوبات المالية بنصّ صريح، وهي في العرف المعاصر: “الغرامات المالية” أو “المُخالفات المرورية ” .
والجواب: أن السّنّة عند الأصوليين ليست قولاً أو فعلاً فحسب، بل تقريره ،وكتابته ، وإشارته ، وهمّه ، وتركه صلى الله عليه وسلم : من السنة التي يُحتج بها . والدليل العقلي لجواز العقوبات المالية : أنه إذا كان يجوز أن يُعزّر بالقتل ، فالمال لا شك أنه دون النفس ، فيمكن أن يعزّر به .
ويمكن اجمال الخطوط العريضة للمسائل الأصولية التي يجب أن تُصحّح من أجل ضبط أطراف هذا العلم في النقاط الآتية :
1- فهم المسائل الأصولية من المتون فقط ، والتصحيح : فهم الأدلة الشرعية والعقلية ، والنظر في المصطلحات الاصولية وربطها بالنوازل المعاصرة .
2- البحث في المصادر الأصولية ، والتصحيح : فهم مصنفات اصول أهل السنة والجماعة . وما تبقى في المصنفات الاخرى فهو حشو وتطويل ومسائل كلامية لا تُسمن ولا تُغني من جوع .
3- رفع دلالة الحكم الشرعي بالعقل أو بالقياس، والتصحيح : أن رفع الحكم الشّرعي بالإجماع أو بالعقل أو بالقياس لا يصح ، لأنه تشريع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإذا وجد النّص بطّل القياس .
4- معرفة أحكام النوازل الأصولية بالتفكّر، والتصحيح: مراجعة فتاوى المجامع الفقهية بصفة دورية، لفهم النوازل المستجدة وحكم الشرع فيها .
5- تقديم الاجماع على النص ، والتصحيح : أن الاجماع إذا كان قطعياً قُدّم على النص، إذا كانت دلالة النص ظنية ، وكذلك إذا كان الظن الحاصل بالإجماع أقوى من الظن الحاصل بالنص ، فيقدم القطعي على الظني .
6- الترجيح بين الأدلة قبل الجمع بينها ، والتصحيح : الجمع ثم الترجيح.
7- الترجيح بين دليلين متعارضين بلا دليل ، والتصحيح : لا يجوز لأنه تخيُّر بالتّشهي ،وهو باطل .
8- العمل بالدليل الظني الذي لا يُعلم رجاحته ، والتصحيح : لا يجوز العمل به .
9- الإنكار في المسائل الاجتهادية والخلافية ،والتصحيح : الإنكار في المسائل الخلافية غير الاجتهادية ، وكل من خالف سنةً أو اجماعاً ، ينكر عليه عدم العمل بهما .
10-الاستحسان بالعمومات ، والتصحيح : إذا وافق الاستحسان دليلاً صحيحاً بلا تأويل، جاز العمل به ،وإلا فيحرم ، لقول الإمام الشافعي (ت:204هـ ) رحمه الله تعالى : “من استحسن فقد شرّع” .
هذه تصحيحات سنح بها الخاطر، والقصد منها قطع الطريق على المشاغبين من بني جلدتنا الذين يرمون الى التمهيد للحداثة على أنقاض اصول الفقه ، نسأل الله أن ينفع بها كما نفع بأصلها ، والله حسبنا ونعم الوكيل .
أ/ أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصة .