تراجع أسعار النِّفط ( رؤية شرعية )
سألني أحد طُّلابي عن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” إن أخوف ما أخاف عليكم ما يُخرج الله لكم من بركات الأرض ، فقيل ما بركات الأرض قال : زهرة الدنيا ” متفق عليه   . هل يُلحق النِّفط ببركات الأرض أم لا ؟! وما الواجب على المسلم في هذه الأزمة المدبَّرة بليل ؟! .

فالنِّفط زهرة من زهرات الدنيا ، وثروة معدنية باهضة تتنافس الدُّول على إنتاجها وبيعها وإحتكارها . والناس اليوم يخافون من زوالها ونضوبها !  .

إن أخشى ما نخشاه أن يكون النِّفط سبباً من أسباب زوال النِّعم  بعد سنين معدودةٍ  ، لحديث أبي عبيدة رضي الله عنه  .

فرسول الله صلى الله عليه وسلم  لما بعث أبا عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه ، فجاء بمالٍ من البحرين ، سمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، انصرف فتعرَّضوا له ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ، ثم قال  : ” أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيٍء ، قالوا أجل يا رسول الله ، قال فأبشروا وأمِّلوا ما يسرُّكم ، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم  ” متفق عليه .

وهذا دليل قطعي الدَّلالة على أن التزاحم على الدُّنيا يؤدِّي إلى الهلاك ، عكس ما يتوهَّمه الناس اليوم  .

من الناس اليوم من يشتري السبائك الذهبية للإدِّخار إلى وقت الحاجة ، وهو عمل مباح إذا كان يراعي إخراج زكاته بعد بلوغ النِّصاب وتمام الحول . عملاً بقاعدة الإباحة الشرعية والعقلية   . وقد ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَّخِّر لأهله قوت سنة ” أخرجه البخاري  .

المسلمون يتحملون تبعات هذه النازلة الإقتصادية لأن الغُرم بالغنم ، والخراج بالضمان  .وعند الفقهاء لا يُستحق الربح إلا بالمال أو العمل أو الضمان، ، لأنه نماؤه فيكون لمالكه . والغرامة بعكس ذلك  . والتفريط سببٌ للحالتين كما لا يخفى   .

والإعتماد على النِّفط في الدخل القومي هو سِّمة عالمية لكثير من دول العالم . وهو هِبةٌ ربانية ينتزعها الله من خلقه إذا اقتضت حكمته ذلك ، ونفَد قدره في كونه  .

سيعود الناس يوماً ما إلى الإعتماد على الزراعة ورعي البهائم وصيد الأسماك وترك حياة الدَّعة والراحة ، وقصد العمل الدؤوب لجمع لقمة العيش بشظف وكدح ، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل وسلفنا الصالح .

التأمل في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم اليوم فريضة غائبة ، لكن سيأتي يوم يبحث الناس بين صفحاتها عن كيفية قُوته ولباسه وعباداته وعاداته ، لأنهم سيضطرُّون إلى ذلك بحكم ظروف الحياة القاسية ، لتكون لهم سيرته صلى الله عليه وسلم أنيساً وسميرًا ومؤدِّباً   .

أُريد أن أنبِّه في هذا المقام على أن مصطلح الأزمة المالية الذي يتردَّد سماعه في الإعلام ومجالس الإقتصاديين من حين لآخر ، سببه الحقيقي النظام الربوي العالمي الذي أكل الأخضر واليابس ومحق البركة من جيوب الأفراد والجماعات  .

لو أن الحكام والعلماء في العالم الإسلامي اجتمعوا على تحريم الرِّبا والإحتكار ووجوب تحقيق العدالة الإجتماعية ، فلن يقض مضاجعهم لا تراجع أسعار النفط ولا الأزمات الإقتصادية المفتعلة  ! .

صحيح أن تراجع أسعار النِّفط – الزيت الخام أو الذهب الأسود- إلى مستوى أقل من 80 دولاراً في الأشهر  الحالية أو القادمة، سيكون له آثار سلبية على اقتصاديات الدول المصدِّرة؛  كما يؤكِّده الإقتصاديون ، مما يحتِّم التحول سريعًا من الاقتصاد الرِّيعي إلى اقتصاد الإنتاج  .
وصحيح أن تراجع الاسعار قد يكون إيجابياً نسبياً ، وسيسهم في حَلِّ مشاكل الأراضي والتضخُّم وتوزيع الدخل في المجتمع، لكن المواطن المغلوب على أمره سيذوق مرارة هذا الحدث في حياتة العامة  .

وربما في هذا دلالة على قرب نضوبه ، وإلهام من الله أن النِّعم لا تدوم ،  لأن هذه سنة الله في خلقه .

وقد قال أنس رضي الله عنه : ” كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تُسبق ، فجاء أعرابي بناقةٍ له فسبقها ، فشقَّ ذلك على المسلمين ، فقال صلى الله عليه وسلم: ” إنه حقُّ على الله أن لا يرفع شيئاً من الدُّنيا إلا وضعه ”   أخرجه البخاري .

قبل حوالي سبعٍ وسبعين سنة تقريباً كتب أحد المهندسين الأمريكيين وهو ” ماريون كينج هوبرت ” ، وقد كان يعمل في مختبرات شركة “شيل” نظرية مهمة لحال النِّفط ومستقبله بناءاً على تحليلات إحصائية وعلمية  .

وقد انتهى فيها إلى أن النفط سيتلاشى أو ينضب بحلول عام  2020  ميلادي  .
فإن كانت هذه النظرية مبنية على قرائن ودلالات علمية قبل أكثر من نصف قرن ، فالشواهد العصرية والأحداث الإقليمية تُرجِّح كِفتها وتُصدِّق نتائجها . والله أعلم .

العواصف الإقتصادية يُستعدُّ لها بالأسباب المادية المشروعة ، ومبدأ الإحتياط في الفقه الإسلامي يؤخذ به في كثيرٍ المسائل والنوازل.
وها هي أمريكا تُفاجىء العالم في عشيةٍ أو ضحاها بإرتفاع مخزون النِّفط الخام بعد أن كانت تستورده ! . فالكفار يدبِّرون ويحتاطون ويعملون للأجيال القادمة   .

ارتفاع مخزونات الخام الأمريكية تمت بتخطيط من عشرات السنين ، وهي دليل على الوعي الإقتصادي الذي اقتبسه الغرب من الشرع ،كما في قصة يوسف عليه السلام حين نصح مَلك مِصر بالإدِّخار وحفظ القوت خشية الكساد والجوع  .

تراجع أسعار النِّفط لن يؤثِّر على الإنسان تأثيرا سلبياً مطلقاً، قد تتلاشى حياة الرفاهية والتنعُّم ، لكن قد تظهر بدائل لحياة جديدة تعتمد على الماء أو الطاقة الشمسية ، ونحوها من مصادر الحياة  .
الدُّول الإسلامية تُعاني من ملاحظات شرعية على النظام المصرفي والنَّقدي ، وهذه الملاحظات تسبَّبت في تفاقم الرِّبا والقِمار وبيع ما لا يُملك في هيئات سوق المال ، ولم يسلم من ذلك إلا من رحم الله .
ومن النُّكت الفقهية في مسائل الذهب الأسود ، أن النِّفط تجب فيه الزكاة بربع العشر عند المتاجرة به .

وإن كان لا يُتاجر به فلا زكاة فيه على القول الراجح ، قياساً على الخضروات فليس في أعيانها زكاة، لكن إذا بيِعت وحصل منها عائدُ فإنها تُضمُّ إلى جملة الأموال للزكاة .

ولو نقَّحنا مناط العٍلل التي تمنع من الكساد الإقتصادي للمسلمين كافة لخرجنا بحكمين : وجوب الإستثمار لرؤوس الأموال ، مع وجوب العدل الإجتماعي .

فحَلُّ مشكلة تراجع أسعار النِّفط – بعد الأخذ بقاعدة الإحتياط – هو الإلتزام بعقود المعاوضات في الفقه الإسلامي .وهي البذل والإقراض والنفع المتعدِّي المضمون بشروطه المعتبرة شرعاً ،وتحقيق العدالة الإجتماعية ، فبها يرضى الغنيُّ والفقير والسائل والمعطي ، والحاكم والمحكوم .

هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات   .

1436/1/1هـ