في الدرس الأول تناولتُ أهمَّ المسائِل التي يجبُ أن يلحظها الطالبُ عند دراسة الزاد ، سواء في باب النظر وجَرد المسائل ، أو في باب الترجيح ، أو في باب تقرير الأحكام . وفي هذا الدرس الثاني تكملة لما تقدَّم من مباحث.

وهنا تنبيه لطيفٌ قبل أن أدلف إلى المبحث التالي وهو : أن بعض الطلبة أو المتفقِّهين يدرس مسألة معينة من الزاد قبل أن يمرَّ على مسائل الزاد من أول الباب.

وهذا غلط من وجهين .

الأول : أن مسائل الزاد مترابطة لا يمكن فصل بعضها عن بعض .

الثاني : أن بعض معاني المسائل المتأخِّرة تأتي في أول الباب أو الفصل ، فيفوتُ فهمها بتفويت المرور عليها من أول محلِّ سردها ، وهذا لأجل اعمال قاعدة : وجود الأعيان قبل وجود الأذهان ، وهي قاعدة صحيحة أشار إليها الغزالي (ت: 505هـ) رحمه الله تعالى في مِعيار العلم ، فلتراجع .

مثال ذلك ما أورد الحجَّاوي رحمه الله تعالى في كتاب الظِّهار : ” ولا يُجزُىء من البُّرِ أقلُّ من مُدٍّ ولا من غيره أقل من مُدَّين ” .

هذه المسألة متعلِّقة بالزكاة في مسائل الظِّهار ، فالأكمل دراسة باب الزكاة قبل النظر فيها .
فلا يستقيم دراسة مسألة حُكم قضاء زكاة الفِطر قبل مسألة كراهة اخراج زكاة الفطر بعد صلاة العيد ، ودراسة مسألة حكم أخذ مال المشرك دون قتل ، قبل مسألة حكم الغنائم ، ودراسة مسألة حكم الاختلاف في ردِّ العارية قبل مسألة ضمان العارية ، وقس على هذا .

(ج) : منهج تصوُّر المسائل :
قبل البدء في تصوُّر مسائل الزاد يجب أن يكون الطالب والمتفقِّه على دِّراية بمسائل الفقه ، وأن يكون قد قطع شوطاً لا بأس به في بحث المسائل الفقهية ، إما حفظاً وفهماً أو تأملاً ومطالعةً . هذا قيدٌ ضروريٌّ لا مناص منه .

بعد جرد مسائل الزاد وتأملها يأتي ما يسمى بتصوُّر مسائل الزاد .

ويقصد به : تحليل المفردات ومعرفة القيود وربطها بالأحكام التكليفية والوضعية ، وهذا من أهمِّ مراحل الفهم .

ومقيِّد هذه السُّطور ينصح بكثرة النظر في علم أُصول الفقه ، فإنه العلم الذي يَقضي ولا يُقضى عليه ، ومن لا يُحكمه فلن ينال الفقه ولو عُمِّر مئة سنة .
والأحكام الوضعية مهمة للغاية عند مطالعة الزاد ، لأنها تختصر نصف مسافة فهم الزاد ، بعكس من لم يُحط بها .

مثال ذلك قول الحجَّاوي عن وليمة العرس:
” تُسنُّ ولو بشاة فأقلَّ ” .

قوله : تُسنُّ ، فهم أصولي للمسألة ، لأن الأمر في الحديث : ” أولم ولو بشاةٍ ” مصروف عن الوجوب إلى الندب بالقياس، لأنه طعامٌ لسرور حادث ، فأشبه سائر الأطعمة .
والقرينة عند الأصوليين : قد تكون نصاً أو إجماعاً أو قياساً أو مفهوماً أو مصلحةً أو ضرورة أو سياق كلام .

وهذا متقرر فلا بد من فهمه واعماله في كل مسائل الفقه ، لاستخراج الحكم الصحيح الذي يوافق الشرع .

قد تكون في المسألة الفقهية أقوالٌ عديدة أخرى ، لكن هذا هو الأصل الصحيح للبدء بتصور المسائل ومعرفة مناط الحكم المراد.

ومن باب المذاكرة فقد قال ابن قدامة (ت: 620هـ) رحمه الله تعالى في المغني : ” لا خلاف بين العلماء أن وليمة العرس سنة ” .

والفهم يبدأ بحفظ المسألة أو تكرارها ثم تأمُّلها وتقليب صورها في الذِّهن ، وإن أمكن الرجوع إلى كتب الأحكام فهو أنفع ، فإن لم يتيسر ذلك فحبذا الرجوع إلى كتب الفتاوى الموثوقة .
• المسائل في الزاد على ثلاثة أقسام :

القسم الأول : مسائل واضحة
القسم الثاني : مسائل خفية
القسم الثالث : مسائل مركَّبة من القسمين .

المسائل الواضحة مثل قول الحجَّاوي : ” لا تجب صلاة الجمعة على مسافر ” .
فهذه يتضح الحكم فيها من خلال المسألة نفسها بلا عُسر .

والمسائل المبهمة مثل قول الحجاوي : ” ولا يرِثُ النساءُ بالولاء إلا من أعتقن ، أو أعتقه من أعتقن ” .

ومعناها : ليس للنِّساء إرثٌ بالولاء إلا من باشرن عتقه بأنفسهن ، أو أعتقه من أعتقن . فلو مات معتق له ابنٌ وبنتٌ فالميراث لابنه.
هذه المسألة الصعبة سأل عنها الإمام مالك (ت: 179هـ) رحمه الله تعالى ، تسعين قاضياً في العراق فأخطأوا فيها .

وتوضيحها : ذكرٌ وأنثى اشتريا أباهما ثم عُتق عليهما ، ثم ان الأب اشترى عبداً فأعتقه ، فيرثان أباهما ميراث نسب ، لأن النسب مقدَّم .
فلو كانت البنتٌ بذلت في قيمة والدها عشرين ألفا ً ، والابن بذل عشرة الآف ، فللذَّكر مِثلُ حظ الأُنثيين ، وعتيق الأب إذا مات يرثه الابن .

هذا اختصار جواب المسألة . والله أعلم .

أما المسائل المركَّبة من القسمين : فهي ما يكون حُكمها واضحاً من أول وهلة لكن فيه خفاء .
مثال ذلك قول الحجَّاوي : ” وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلعُ وأرش نقصها ” .

ومعناها : لو أن رجلاً غصبَ أرضاً، فبنى أو زرع فيها ، فإنه يلزمه القلع وتسوية الأرض واصلاحها ودفع قيمة النقص الحاصل من العبث فيها ، حسب تقدير أهل الخِبرة . والله أعلم .
ما أهمية تصوُّر المسائل ؟

الجواب : الوقوف على مطابقة الحكم لمراد الشارع الحكيم .
فعلى سبيل المثال : في باب الآنية قال الحجاَّوي : ” تُباح آنية الكفار ..” .

هذه المسألة فيها ثلاثة مباحث : الإباحة والآنية والكفار .
فالإباحة حكم تكليفي أصولي يُراد منه أن الفعل والترك سواء .ويسمى حلالاً وجائزا ً. من أين وردت إباحة أواني الكفار ؟

الجواب : وردت الإباحة من دليلين : دليل الشرع ودليل العقل .
فدليل الشرع النص الوارد في كتب الصِّحاح ، ودليل الشرع هو البراءة الأصلية أو ما يسمى استصحاب العدم الأصلي ، أي أن الأصلَ في الأشياء الطهارة حتى يتعيَّن ناقل يُغيِّر الحكم العقلي .

ولهذا تجد في عبارات الفقهاء قول : ” انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم . وقد كرَّرها ابن تيمية (ت: 728هـ )رحمه الله تعالى في القواعد النُّورانية ، وهو كتاب مهم كُّله نور .
هنا مسألة مهمة وهي لو أنه لم يرد دليل من الشرع على إباحة أواني الكفار فهل يجوز لنا الاستدلال بالإباحة العقلية ؟

الجواب : أننا لا نستدل بالبراءة الأصلية حتى نفتش عن دليل من أدلة الشرع بعد الكتاب والسنة والإجماع وقول الصحابي ، فإن لم نجد فتكون البراءة الأصلية هي المعوَّل عليه في الإحتجاج .

ولهذا تجد من يقول في الكتب أو في القنوات : الأصل في الأشياء الإباحة . لا بد أن يقيد ذلك بعدم وجود دليل ، لأنه لا يتصور أن يباح شي بلا أصل من الشرع لأنه الحاكم لأفعال المكلفين .
نعود للمسألة : الآنية : المقصود بها ما يوضع فيه الطعام والشراب كالقدر والكأس والطست ونحوها .

الكفار المقصود بهم : أهل الكتاب ، ويلحق بهم غيرهم ممن ليسوا بأهل كتاب ممن لا تحلُّ ذبائحهم . فيكون حكم المسألة : جواز استعمال آنية الكفار .

لكن بقي هنا قَيدٌ قد لا يتنبَّه له البعض ، وهو إذا كان في الإناء نجاسة كبقية عَرق خنزير أو دُهن لحمه ، فإن الآنية هنا لا تكون جائزة لوجود ما يُفسد حالها الأصلي الذي خلقه الله عليها وهي الطهارة ، فهنا يجب غَسلها وتطهيرها ليمكن استعمالها .

من الأمثلة أيضا في الزاد التي من خلالها يمكن تنوير فهم المتأمِّل في تصور المسائل : مسألة لبس الخاتم الفضة للرجل .

هذه المسألة خاض الناسُ فيها كثيراً بين مانع وقانع .

فالمانع يقول إنه خاص بالسُّلطان والحاكم وأهل الولاية ممن يحتاجون إلى كتابة الاسم والتوقيع به ، والقانع أي المجيز يقول إنه كان من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وليس هذا موضع مناقشة القولين .

لكن الصحيح والراجح : أن خاتم الفضة للرجل مباحٌ وليس بسنة ، فلا يجوز الخلط بين الحكمين التكليفيين .

فالمباح هو الجائز الذي فِعلهُ وتركه سواء. لكن السنة هي هي المندوب والمستحب .
ولا يوجد في أحاديث خاتم الفضة قرينة تؤكِّد أنه مسنون .

ولهذا قال الحجَّاوي رحمه الله تعالى في الزاد : ” ويباح للذَّكر من الفضة الخاتم ” .
فقوله : ” يباح ” تنبيه على ضرورة تصور الحكم التكليفي ، حتى لا يختلط بغيره من الأحكام التكليفية الأخرى .

ومن قال باستحبابِ لبسِ خاتمِ الفضةِ يلزمهُ القول بأن لبسَ الرداءِ والإزارِ مستحبٌ ، وهو الأفضلُ لكلِ أحدٍ أن يرتدي ويأتزر ولو مع القميصِ ، وكذلك لبسُ العمامةِ والنعالِ السبتيةِ .

فالرسول صلى اللهُ عليه وسلم لم يقصد القربةَ في هذهِ الأفعالِ ، فيحمل لبُسه صلى اللهُ عليه وسلم للخاتمِ على الإباحةِ في حقِّهِ وحقِ أمتهِ.

وقد أسَّس المرداوي رحمه الله تعالى لهذا الفهم في الإنصاف( 3/142 ) فليراجع لأهمِّيته .

ومن الأمثلة التي تُقرِّب تصوير المسائل : حكم اطالة المصلي للسُّجود أكثر من الركوع أو أكثر من الرفع من الركوع.

هذه المسألة الأصل فيها السنة النبوية وليس ما يشتهيه الإمام ، إن كان المصلِّي يُصلِّي خلف إمامه.

فيجوز للمنفرد أن يُطيل ما يشاء من الأركان والواجبات لاستجلاب الخشوع والتلذذ بالطاعة .
لكن الأكمل للمنفرد وللإمام الإقتداء ، لقول أنس رض الله عنه : ” ما صليتُ خلف أحدٍ أوجز صلاة ولا أتمَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أخرجه مسلم في صحيحه .

وعن ابن أبي ليلى، عن البراء، قال: ” كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده، وبين السجدتين، وإذا رفع رأسه من الركوع، ما خلا القيام والقعود، قريباً من السواء ” متفق عليه .

فهذان النصان يُفيدان أن الصلاة يُسنُّ أن تكون موجزة – ما عدا القيام – ولا يزيد بعضها عن بعض في حال صلاة الإمام بالمأموميين .

وقد أوردها الحجاوي في الزاد حيث قال : ” ويُسنُّ لإمام التخفيف مع الإتمام ” .

• وهناك طرق ميسرة تُساعد على تصور المسائل ومنها :

1- البحث عن تعليل حكم المسألة إما بالسؤال أو بمطالعة كلام العلماء . قال الحجاوي عن زكاة الفطر : ” ولا يمنعها الدَّين إلا بطلبه ”
تعليل المسألة : أنها ليست متعلقة بالمال بل متعلِّقة بالذِّمة .

2- النظر في الفروق الشرعية للأسماء ، لأن الاختلاف في الغالب يوجب المغايرة . قال الحجاوي : ” ولا يصح إلا في مسجد ” يعني أن الإعتكاف لا يصح في المصلَّيات لاختلاف مدلولها وماهيتها ، فهي ليست دائمة بل مؤقتة، والعبادة في المكان المؤقت لا يستقيم أثرها في النفس ، في الغالب .

3- الحكم بالظن الراجح في الأمر الذي لا دليل عليه .
قال الحجاوي : ” لا حيض قبل تسع سنين ” .فنحنُ نحكم على بنت ثمان سنين بعدم التكليف لظنَّنا أنها لم تبلغ ، فلا تُعاقب على فعل شرعيِّ أوجبه عليها الشارع الحكيم .

4- لا تصح المفاضلة بين أمرين إلا بدليل : قال الحجَّاوي : ” صلاة الليل أفضل من صلاة النهار ”
هذا التفضيل أصله الحديث المرفوع :
” أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل ” أخرجه مسلم .

فمن فضَّل صلاة الضُّحى على صلاة الليل فَيُردُّ عليه بهذا الحديث .

5- براءة الذِّمة ترتفع بالعجز : قال الحجَّاوي : ” الزوج لا يلزمه كفن امرأته ” .
يعني لو كان مُوسراً فمن مكارم الاخلاق شراء كفنها ، وقد يلزمه وجوباً لأنه محرمها ، وإن كان معسراً فإن الكفن لا يلزمه .

وقد أخطأ بعضُ الشراح للزاد حين قالوا : لا يجب كفن الزوجة على الزوج لأن الاستمتاع فات محلُّه ! ، وهو تعليل سقيم . فليته يُصحَّح .

6- إذا استهلَّت المسألة بحكم تكليفي فلا بد أن يكون الحكم قطعياً في الغالب : قال الحجاوي : ” تُكره صلاة العيد في الجامع ” .

ووجه الكراهة لأن صلاة العيد صلاَّها الرسول صلى الله عليه وسلم في المصلَّى .
ويستثى من ذلك حالتان: أهل مكة يُصلُّون في الحرم ، ومن أصابه مطر أو ريح ونحوهما .

7-الرضا لا يكون مُطِّردا دائماً . قال الحجَّاوي : “فإن رضيت المرأة الكبيرة مجبوبا أوعنِّينا لم تُمنع ، بل من مجنون ومجذوم وأبرص ” .
فرضاها قُبل في الأولى ورُدَّ في الثانية .

8- الحكم بالظاهر من أدلة الشرع : قال الحجاوي : ” وما وجد مع اللقيط فهو له ” . يعني متاعه وماله ونحو ذلك .

9- التركيز على النُّعوت والأوصاف في المسائل : قال الحجاوي في الزاد :
” وإن خرج أهل الذِّمة منفردين عن المسلمين لا بيوم لم يُمنعوا ” .

هذه المسألة في حكم خروج أهل الذِّمة لصلاة الاستسقاء ، وقد قيَّد خروجهم بكونهم منفردين في مكان خروجهم لا في يومه ، فلا يختلطوا بالمسلمين .
والعِلة أنه ربما نزل مَطرٌ في يوم خروج أهل الذِّمة فَيفتتن بهم الناس .

فالوصف والنعت الوارد في المسألة أفاد التخصيص فأوجب حُكماً مغايراً مما يساعد على فهم المسألة . وقِس على هذا بقية النُّعوت والأوصاف التي تأتي في المسائل .

10- تتبُّع الجزئيات : قال الحجَّاوي : ” أكثر مدة الحمل أربع سنين ” . هذا عرف بالاستقراء والتتبع . وهو حجة ظنية غالبة ، ومن أهل العلم من يقول بوجوبه . والله أعلم .

تم الدرس الثاني ، ويليه الدرس الثالث إن شاء الله تعالى .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات .
1439/9/28