في الدرس التاسع تناولتُ بشي من التفصيل منهج مذاكرة مسائِل الزاد ، وقد ضربتُ أمثلة كثيرة على طُّرق مذاكرة الزاد ، ومن خِلال ذلك المنهج يستطيع الطالبُ أو الباحثُ أن يحفظ الزاد ويفهمه ويستظهر مسائِله .

(ك) : نصائح عِلمية مهمة :

أولاً : اصلاح النيَّة وحُسن القصد من أعظم ما يحصِّله المرء في دنياه ، فمن أدركها فليشغل نفسه بتعليمها لغيره فهي أحسن الغنائم في الدنيا ، قال بعض السلف : ” وددتُ أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شُغل إلا أن يعلِّم الناس مقاصدهم في أعمالهم ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا ، فإنه ما أُتى على كثير من الناس إلا من تضييِّع ذلك ” ، وصدق القائل:

من طلب العلم احتسابًا وابتغا
رضى الجليل فاز بالذي ابتغى
ومن به نهج المباهاة سَلــك
وظن نفسه على خير هَلك
وذُّم طالب الدُّنا بالقيـس
على مهاجر لأم قَيـس.

ثانياً : عند الحكم على المسائل لا يجوز استخدام ألفاظ العموم بدون استقراء تام لجزئياتها ، مثل كل أهل مِصر فيهم كذا ، وكُّل كتب ابن حجر فيها كذا وكذا ، وكل حديث في الموطأ فيه كذا وكذا ، فلا بد من الاستقراء والتدليل على ذلك أو التوقف والتصريح بلفظ بعض ، أو نحوها من العبارات.

ثالثاً : كل مسألة شرعية لها احترازات ، فلا بد من التعقُّل والفهم :

أ-فيجب- على سبيل المثال – التفريق عند دراسة باب الطهارة بين معنى ارتفاع الحدث وتزكية القلب ، فكلاهما طهارة . ولكل منهما أحكام وآداب لا يصح اغفالها .
ب-وكراهة الكفر وأهله لا تعني حرمة استعمال ما صنعوه الكفار أو أنتجوه ، كالثياب والأواني .فهي جائزة إن لم تُخالطها نجاسة محرَّمة .
ج-وكثير من الناس يظنون أن البدء بالمضمضة قبل غسل الوجه فرض ، وهذا غلط ، بل هو سنة ، لأن الفرض هو غَسل الوجه وما يلحق به يكون تابعاً له .
د-وبعض المسائل فيها خِلافٌ شديد والترجيح فيها غير متيسِّر لكل أحد ، كمسِّ المرأة بشهوة ، والردة عن الإسلام ، وتغسيل الميت ، هل تنقض الوضوء ؟ ، والخروج من الخلاف فيها يكون الوضوء هو الأحسن والأكمل.

رابعاً : يجب الحرص على الدليل وعدم تفويت مسألة بدون معرفة أصلها ، ولهذا تمنَّى عمر رضي الله عنه لو سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث : الخليفة بعده ، وحكم قتال من مَنع الزكاة ، وعن تفسير الكلالة . أورده ابن كثير في تفسيره ، فليراجع.

خامساً : جرد الكتب والتعليق اللطيف عليها عادةٌ حميدة تُورثُ العلم والفهم ، وهي دليل على محبة الكتب والبذل لها . وقد علَّق بدر الدين الزركشي (ت: 794هـ)رحمه الله تعالى في كتابه ” خبايا الزوايا ” على كتاب فتح العزيز للرافعي ، وروضة الطالبين للنووي رحمهما الله تعالى ، حتى إنه أورد فيه المسائل التي رقماها في غير مظنتها ، وهذا دليل على فهمه وجَلده في البحث،ومعلوم عند العلماء أن إثبات المسألة بدليلها تحقيق، وبدليل آخر تدقيق، والتعبير عنها بفائق العبارة ترقيق، وبمراعاة علم المعاني والبديع في تركيبها تنميق، والسلامة فيها من اعتراض الشرع توفيق.

سادساً : ظاهرة الإسراف في جمع الكتب ظاهرة خطيرة ابتليت بها الأمة ، بسبب فشو تجارة الكتب وكثرة المطابع . فالحذر الحذر ، لا تَقتن إلا الأهم فالمهم ، وقد سمعتُ الشيخ حمد الجاسر (ت: 1421هـ)رحمه الله تعالى يحذِّر من ذلك في إحدى الِّلقاءات التلفزيونية التي أُجريت معه، وقد شوهدت مكتبة العلامة ابن عثيمين (ت: 1421هـ )رحمه الله تعالى بعد وفاته ، فكانت متواضعة جدا تتجاوزها العيون .

سابعاً : التنقُّل بين أكثر من كتاب أو أكثر أو بين فنِّ وآخر دون ضبط الأول ، عائقٌ من عوائق العلوم . وقد قال الشاعر :
وفي ترادف الفنون المنع جا
إذ توأمان اجتمعا لن يخرجا.
فكما أن التوأمان لا يخرجان سوياً لعسر ذلك ، فكذلك يصعب فهم كتابين أو عِلمين في وقت واحد .

ثامناً : ليست القراءة هي الفقه ، ولا الحصول على الجواب أو النتيجة هي الغاية المطلوبة ، بل الفقه هو العمل والاتِّباع للهدي النبوي وكمال العبادة واحتساب الأجر في ذلك ، مع صِّدق النية وسلامة المعتقد .

تاسعاً : تكرار الشرح أو المتن تعدل فوائده مطالعة عشرات الكتب ، وهذه الخاصية لا يعقلُها إلا من جرَّبها ومارسها ، وقد جرَّبها راقم هذه السطور فوجد لها أثراً لا يُوصف ، وقد صح عن العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى ، أنه روى عن ابن سِّعدي (ت: 1375هـ) رحمه الله تعالى ” أن الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بابطين (ت: 1270هـ )رحمه الله تعالى ، وهو من أكبر مشايخ نجد ، مفتي الديار النجدية : أنه كان مكبًّا على الروض المربع لا يُطالع إلا إياه ويكرِّره، كل ما خلَّص منه كرَّره؛ لكن يأخذه بالمفهوم والمنطوق والإشارة والعبارة فحصَّل خيراً كثيراً “.

عاشراً : الاطِّلاع على كتب الفروق والنظائر مطلبٌ مهم وبه يختصر الطريق وتنمو الملَكة الفقهية والأُصولية عند الباحث أو الطالب ، وقد قال بعض السلف : ” الفقه جمعٌ وفَرق “.

الحادي عشر : اربط بين المسألة ومتعلَّقاتها من الأصول والقواعد ، حتى يكون للحكم ثمرة علمية وعملية ، ويظهر بوضوح مناط الحكم على الصُّورة الصحيحة المرضية . مثال ذلك قول الحجاوي أو غيره من علماء الفقه : ( ويسقط عن المكلَّف كذا وكذا إن لم يقدر على فعله أو بعضه ) . فهذا الحكم أصله في الكتاب والسنة ، ويُستدلُّ له بالقاعدة الفقهية : الميسور لا يسقط بالمعسور ، ومن قَدر على بعض الشي لزمه . وهكذا في بقية المسائل.

الثاني عشر : من يُصيبه الفتور والمَلل من العلم والكتب والبحث ، فعليه أن يحتال لنفسه بالراحة والاستجمام في الحدائق وعند البِحار، ثم يقرأ في الأدب والشعر حتى تعود الهمة كما كانت وربما أقوى . وقد قال الإمام ابن تيمية (ت: 728هـ)رحمه الله تعالى في علاج الفتور : “ولتكن هِجِّيراه : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فإنه بها يُحمل الأثقال ، ويكابد الأهوال ، وينال رفيع الأحوال “.

الثالث عشر : عند الحفظ أو الدِّراسة لكتب العلم يجب الاعتناء بسِّياق أوائل الجُمل والعبارات ، فقد كان العلماء قديماً يصوغون معانيها في أول ألفاظها . على سبيل المثال قول الحجاوي رحمه الله تعالى : ” ولا يصح استثناء لم يتصل عادة ، فلو انفصل وأمكن الكلام دونه بَطل ” ، فلا تُفهم هذه العبارة إلا بما قبلها ، وهو حُكم الاستثناء في الطلاق . فتنبَّه.

الرابع عشر : الأخطاء المنهجية في دراسة الفقه كثيرة منها : البدء بالمطوَّلات قبل المختصرات ، عدم العناية بالدليل والتعليل ، اهمال مصطلحات المذاهب وقواعدهم ، عدم تحرير محل النِّزاع ، اهمال الخلاف ، الخروج عن أقوال أئمة العلم . ومن تأمل منهج الظاهرية في البحث والاستدلال تبيَّن له ضرورة سلامة المنهج ومراعاة التجرُّد للحق.

الخامس عشر : حلاوة الفقه والعلم بالبحث في مسائله والرحلة من أجله والجهاد في حلِّ معضلاته ، وأطول رحلة في طلب العلم رحلة العلامة محمد بن إسحاق ابن مندة (ت: 395هـ) رحمه الله تعالى ، فقد رحل خمسةً وأربعين عاما يطلب العلم . وليس المراد اليوم تقليده في رحلته ، إنما المراد عزيمة وهمة كهِمَّته وعزيمته.

السادس عشر : الرجوع عن الرأي أو القول المرجوح سنة مهجورة ، فيجب العدول عن المرجوح إلى الراجح كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد روى أبيض بن حمال رضي الله عنه أنه وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقطعه المِلح فقطع له ، فلما أن ولَّى ، قال رجل من المجلس : أتدري ما قطعت له ؟ إنما قطعت له الماء العِدّ ، فانتزعه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منه ” .أخرجه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح.

السابع عشر : ليس المرغوبُ طلب العلم ومسائله فحسب ،بل طلب ما ينقصه أو يكمِّله من الفقه وعلومه عند أهله ، وليجوِّد ذلك ، وقد قال الشافعي (ت: 204هـ) رحمه الله تعالى: ” من تعلَّم علماً فليدقِّق، لكيلا يضيع دقيق العلم “.

الثامن عشر : يجب على الباحث أن يطلب الهدى والتوفيق من الله تعالى في كل وقت ٍوحين ، ومما يُساعد على ذلك ويُعين عليه : الكفُّ عن الخطايا والموبقات ، وقد ذكر الله تعالى آية النُّور المعروفة عقب آيات غضِّ البصر ، كما هو واضح لمن تأمل الآيات في سورة النُّور ، ومعنى ذلك أن الفتح من الله نتيجة لطاعته واتبِّاع شَرعه ، وفي هذا عِبرةٌ لمن اعتبر .

التاسع عشر : ضرورة المراقبة وحِراسة الخواطر عند الحِكم على الناس أو العلماء ، أو عند الاستدلال على المسائل ، وهذا من التقوى التي هي عِماد العلم ، فكم من أهل العلم من يجرِّح غيره ويفسِّق ويصنِّف وهو غافل عن نفسه . وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “استمعوا عِلم العلماء ولا تصدِّقوا بعضهم على بعض ، فوالذي نفسي بيده لهم أشدُّ تغايراً من التيوس في زُرُبِهَا ” .

العشرون : تعليل الأحكام من مهمَّات الفقه ، ومن ضيَّع التعليل ففِعله غير جميل ، على سبيل المثال : لا يجوز منع المرأة المحدَّة من لُبس الأبيض ، سواء كان فستاناً أو تنورة أو نحو ذلك ، والعِلة أن الأبيض هو أصل الثياب ولا يهيِّج الغريزة ولا يلفت النظر . وقد أورد المسألة كثير من الفقهاء ومنهم الحجاوي في الزاد . لكن يجب التنبُّه أن التعليل يجب أن يكون له مستند إما بدليل صريح أو اجماع أو قاعدة فقهية لا تنخرِم .

انتهى الدرس العاشر ، وبه اكتملت هذه السِّلسلة المباركة بعون الله وفضله .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

1440/1/13