بدأت صلتي بمتن الشمسية لعمر بن علي القزويني الكاتبي (ت: 675ه) رحمه الله تعالى ، عندما زرتُ إحدى المكتبات العتيقة في مكة المكرمة قبل نحو ثلاثين سنة ، ووقعت في يدي طبعة عتيقة للمتن صدرت عن المكتبة المحمودية بالقاهرة نشرت سنة 1356ه.
وقد طبع بعد ذلك طبعات كثيرة جداً، لعل أفضلها الآن الطبعة الأردنية في عمان ،بدار النور المبين، وقد طبعت مع شرحها: تحرير القواعد المنطقية لمحمود الرازي(ت: 766ه ) رحمه الله تعالى. فهذه الطبعة متقنة جداً.
قرأتُ هذا المتن قديماً مذاكرة مع بعض طلبة العلم في الحرم المكي ، وكان الفهم لجزئياته وقواعده شاقاً، حتى وفقني الله لمطالعة ما تيسر من كتب المنطق المساندة له ، مثل: منح الوهاب في رد الفكر إلى الصواب للمغيلي، ونظم سلم المنورق للأخضري، والمنظومة الشمسية للغزي، والمقدمة المنطقية لابن قدامة رحم الله الجميع .
ومن المنظومات الجيدة أيضاً: القصيدة المزدوجة في المنطق، لابن سينا(ت: 427ه) عامله الله بعدله . وقد طُبعت قديماً في المكتبة السلفية بالقاهرة في عام 1328ه. وهي منظومة سهلة للغاية.
من تجاربي في المطالعة أن الكتاب أو المتن الذي لا أتقبَّله أو أنفر منه ، أجعل تحدياً بيني وبين نفسي في مراجعته والتعليق عليه حتى أتقبله وأطمئن إليه.
ولهذا فقد كررتُ هذا المتن مع شرحه عشرات المرات حتى حفظته، وقد أفادني في الدراسات الأصولية على وجه الخصوص .
مسائل متن الشمسية : أنواع العلوم ، الجزئي والكلي، المعرفات، القضايا ، الموجهات ، العكس المستوى، عكس السوالب، القياس وأنواعه، صورة الأقيسة وموادها.
وللمتن نظم يسمى : المنظومة الشمسية في القواعد المنطقية للغزي (ت:1339ه) رحمه الله تعالى ، التي يقول ناظمها في أولها :
يقول مبتغي رض العلي.. بشير المعروف بالغزي
أحمد ربي منزل الميزان.. ومانح المنطق للإنسان
ويقول في آخرها :
قد كملت منظومة الميزان .. بعون رب واهب الإحسان
فأحمد الله الذي قد علَّما.. من فضله الإنسان ما لم يعلما
مصلياً على النبي المصطفى.. وآله والله حسبي وكفى .
وهي منظومة مليحة تقع في خمسة وثلاثين ومئتي بيت.
وقريب منها في الملاحة سُلَّم الأخضري (ت: 953ه )رحمه الله تعالى، وكنتُ قد شرحته لطلابي وكتبتُ عليه نقداً وهو منشور ومتداول ولله الحمد .
والمصطلحات والألفاظ المنطقية بعمومها القصد منها : تنظيم الادراك الإنساني وتربية العقل على الفهم الصحيح، وهي ليست لازمة لكنها تمرن الذهن على التفكير والنقد.
متن الشمسية جيد لفهم مداخل المعاني وفهم القياس لا غير، أما التوسع في بحث هذه المسائل ونظائرها عن هذا الحد فلا طائل من وراء ذلك .
دراسة المسائل المنطقية ومذاكرتها بالنسبة لطالب العلوم الشرعية ،ينبغي أن تكون للب المسائل وخلاصتها، لتيسير فهم المسائل الفقهية والأصولية والربط بين جزئياتها ومتعلقاتها بشكل صحيح .
والمنطق نوعان: إسلامي ويوناني. فالإسلامي جائز ومتقرر العمل لحاجة العلم إليه. أما اليوناني ففيه تردد ، والغالب جوازه .
وقد أجاد الأخضري (ت: 953ه )رحمه الله تعالى حين قال :
والقولة المشهورة الصحيحة.. جوازه لكامل القريحة
ممارس السنة والكتاب.. ليهتدي به إلى الصواب.
في علم الأصول أمثلة وتطبيقات كثيرة جدا ،تساعد المسائل المنطقية
على تقريب فهمها أو تذليل معانيها مثل: التصور والتصديق عند المناطقة، يستفاد منه في كيفية تقريب المباحث والمسائل وتقسيمها في الذهن إلى أجزاء صغيرة ،ومثل: مراتب العلم: اليقين والظن والشك والوهم. فهذه يستفاد منها في قبول الشي أو رده بحسب المسألة الواردة في الكتاب.
مصطلح ( إيساغوجي ) لفظ يوناني يقصد به الكليات الخمس : الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام. ومعنى إيساغوجي : أنا وأنت نتذاكر هنا .
فهذا العلم للمذاكرة ومعرفة أدوات الفهم ووسائله، فمتى خرج عن هذا الحد فقد لا يكون محموداً .
المجهول نوعان: تصوري وتصديقي، فكل ما تجهله لا تعرفه، لكن عند بيانه بأمثلته وطرقه الموصلة إليه لا بد أن تجزم بحقيقته ومعناه.
والدلالات أنواع: وضعية وعقلية وطبيعية . وهذه يستفيد منها الأصولي في معاني المصطلحات وأنواع الحكم التكليفي والوضعي ونحو ذلك.
ومن مسائل المتن: القضايا وهي قسمان: موجبة وسالبة. والقضية أجزاء: الموضوع والمحمول والنسبة الحكمية.
وهذه يستفاد منها في تنزيل الأحكام أو إسناد الأوصاف على الأحوال ، مثل قولنا : الوقت ظهر ، عمر هو يصلي ، ونحو ذلك .
ويستفاد منها كذلك في علم الأصول في نفي وإثبات الأحكام أو الأوصاف أو الحكم بالصحة أو الفساد في العبادة أو العادة .
مثل قولنا : الصلاة صحيحة، فهذه قضية موجبة. أو زيد ليس بطاهر، فهذه قضية سالبة .
أما القضية المخصوصة والكلية المسورة والجزئية المسورة والمهملة والطبيعية ، فهذه يستفاد منها في علم الأصول عند تنظيم المعاني ، وفائدتها قليلة جداً ، ويلحق بها القضية الشرطية المتصلة والمنفصلة .
والمنفصلة ثلاثة أقسام : الحقيقية ومانعة الخلو ومانعة الجمع . ويستفاد منها عند تمييز القياس الصحيح والفاسد بمعرفة ما ينطبق على جزئياته وما لا ينطبق .
أما العكس المستوي فهذا يعين على فهم القضية عند تغيير طرفيها، ويستفاد منه في معرفة المنطوق والمفهوم في الدرس الأصولي.
أما باب القياس في متن الشمسية فهو باب قائم في كتب الأصول، وهو نافع جداً إذا أحاط الطالب بأحكامه وقوادح العلة فيه .
وآخر المسائل هي الحجج بنوعيها النقلية والعقلية ، وهذه مهمة جداً للطالب، ولا يكاد يخلو منها كتاب من كتب أصول الفقه، لا سيما مصنفات المالكية، فقد رقموا في هذا الباب من النافع المفيد ما لا يوجد عند غيرهم .
أسلوب المتن جيد في الجملة ، لكن منظومة الغزي ذلَّلت كثيراً من غوامض المسائل.
ومما خبرته أن مطالعة الكتب الأصولية القديمة لا سيما الحواشي تساعد بشكل كبير في فهم جزئيات هذا الفن .
أما حفظ متن الشمسية أو نظمها فهذا يعود لهمة الطالب، والحفظ ينفع في الجملة ولا يضر .
وفيما يتعلق بالأمثلة والتطبيقات الواردة في المتن أو في الشرح، فهي للتقريب ويمكن استبدالها بأمثلة وتطبيقات للتصور والتصديق من كتب الفقه والأصول .
ولهذا فإن مذاكرة المتن مع شيخ أو أستاذ، هي أفضل طريقة لفهمه ومراجعته .
وفي كتب الشروح والحواشي من هذا القبيل الشي الكثير ، كما عند العلوي(ت: 1233ه ) رحمه الله تعالى في نشر البنود.
أما المسائل المنتقدة على علم المنطق عموماً، فقد كتبتُ في ذلك مقالات كثيرة، وهي منشورة ولله الحمد .
وفي تقديري أن المقدمة المنطقية التي لخَّصها ابن قدامة من المستصفى للغزالي – رحمهما الله تعالى – كافية وشافية ،إلا لمن أراد الغوص على دقائق الفن ، فهذا شأنه وهو أعلم بصلاح نفسه .
وأخيراً فإن مسائل متن الشمسية القصد منها :تمرين الذهن على التفكير والنقد ومعرفة طرق الجدل ، وربط أول الكلام بآخره، ومعرفة معناه ومبناه وضرب بعضه ببعض ،ليتميز الصحيح من السقيم.
وأهل هذا الفن لم تتفق كلمتهم في تنظيم مسائله وحصرها، ولهذا نلحظ أن محمد بن عبد الكريم التلمساني (ت: 909ه ) رحمه الله تعالى في منظومته: منح الوهاب قي رد الفكر إلى الصواب في المنطق، قد أجملها في نحو سبعين بيتاً ، وموضوعاتها ثمانية لا غير ، بينما نظم الملا سيد محمد الوزي (ت:1370ه) رحمه الله تعالى فقد جاء في نحو عشرين وسبع مائة بيت.
نسأل الله أن ينفع بهذا المتن ونظائره ،وأن يكون وسيلة لفهم علم الشريعة، ومدخلاً للرد على المعاندين للسنة المحمدية وأصولها، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
25/صفر/1443هجرية.