ظهر في الأيام الماضية ما يُعرف ببيع الترميش ، وهي تسمية عامية تُنسب إلى بعض هوامير المال . وقد توسعت صور هذا البيع بين كثيرٍ من أهل التجارة وأصبح مألوفاً بين العوام في كثيرٍ من المدن . وصورة بيع الترميش هي قيام التاجر بشراء سلعة بأضعاف كبيرة من قيمتها الأصلية بثمنٍ مؤجَّل بدون اشتراط دفع جزء من الثمن مقدَّما ً، كشراء سيارة مستعملة بخمسين ألف ريال بشيكات مؤجَّلة الصرف .
والعقد بين التاجر والبائع يقوم على كمبيالات تتضمَّن أمراً صادراً من شخص يسمى الساحب إلى شخص أخر يسمى المسحوب عليه ، عادة يكون المصرف بأن يدفع مبلغا معيناً إلى المستفيد .
والكمبيالة قابلة للتداول عن طريق التظهير أو المناولة أو التسليم .
وبالتأمل في حال هذا العقد يتبين أنه في عمومه يهدف إلى إستثمار أموال البائعين في صناديق إستثمارية ، بغض النظر عن الإلتزم باستيفاء مديونيتهم ، وبعض المتاجرين فيه لهم أهداف دنيئة كتجفيف جيوب صغار البائعين في السوق والمماطلة في السداد ، أوالتسلية ثم استخراج صك إعسار للتهرب من المحاكمة أو التخفِّي عن القضاء بالسفر خارج البلاد .
وباستقرائه يظهر أن هذا البيع مرابحة وتقسيط في آنٍ واحد ، وهو ليس بيع مواضعة الذي يكون البيع فيه برأس المال بدون ربح أو بخسارة ، فقد يكون غايته الاستثمار بحسب نية صاحبه ، أو التغرير بأموال الضعفاء والإيقاع بهم كما تقدَّم .
ومن الناحية الفقهية يُعدُّ هذا البيع من بيوع الأمانة الثلاثة : بيع المرابحة وهو البيع الذي يحدَّد فيه الثمن بزيادة على رأس المال ، وبيع التولية وهو البيع الذي يحدَّد فيه رأس المال نفسه ثمناً بلا ربح ولا خسارة ، وبيع الوضيعة وهو بيع يُحدَّد فيه الثمن بنقصٍ عن رأس المال أي بخسارة .
والإمام أحمد ( ت: 24هـ) رحمه الله تعالى كره اشتغال البائع ببيع الأجل لأن فيها شبهاً بالربا ، وقد صحَّح ابن قدامة ( ت: 620ه )رحمه الله تعالى هذا النقل عن الإمام . ولعل القصد سدُّ ذراع الإحتيال في الأموال وضياع حقوق الناس والسعي لحفظ مصالحهم ، وإعانة الحاكم على كبح جماح الطامعين من أهل رؤوس الأموال . وقد تقرر عند الأصوليين أن الفعل الواحد يمكن أن يكون مأمورا به من وجه منهيا عنه من وجه آخر ، لأن الفعل الواحد تجتمع فيه مصلحة ومفسدة من جهات مختلفة .
من هؤلاء الهوامير من يستغل نفوذه في السوق أو وجاهته بين الناس فلا يبالي بحلال أو بحرام وقد يجحد من لهم حقوق عليه ، ومنهم من هو من أهل الصدق والصلاح فيلتزم بما عليه ، لكنهم ثُلَّة قليلة ونادرة
والحيلة الدارجة في بيع الترميش أنه يتم تشتيت صاحب المال المستحق لقبضه بين ثلاثة أو خمسة تجار هوامير، فلا يعلم صاحب المال من يطالب ولا من يحاكم وقد ييأس فيترك حقه ، وقد وقفتُ على واقعة راح ضحيتها مسكين غُبن في حقِّه ولا يَعلم من يقاضي ولا من يطالب .
وبيع الترميش فيه شَبه قوي ببيع الفضولي ، لأن كثيراً من المشتغلين فيه يبيعون عن غيرهم في السُّوق بلا وكالة شرعية ولا إذنٍ رسمي بالتصرف ،وقد يجحد التاجر المحال عليه معرفته بالفضولي ، فيماطلون عند الدفع ويضيع حق صاحب المال بين المشتري والفضولي الذي تصرَّف فيما لا يملك .
والمحاكم الآن مليئة بقضايا بيع الفضولييِّن ،ومنها بيع الترميش والتلاعب بحقوق الناس برميها على أطراف عديدة للتملُّص من واجباتها .
ومما يُسوِّغ تلاعب التجار بهذا النوع من البيوع على المحتاجين للمال هو طمع البائعين للربح السريع ووجود منافذ عند التجار للمراوغة في المحاكم من دفع الديون التي على ذممهم .
والخلاصة أن هذا البيع صحيح من ناحية العقد ، لكن الأولى اجتنابه لوجوب حِفظ المال من وضعه في أيدي المحتالين ، وهو يشبه البيع عند أذان الجمعة الثاني والسوم على سوم المسلم ، لتعلُّقه بحكم الكراهة .
أما مسألة البيع إلى أجل معلوم فهو جائز إذا اشتمل البيع على الشروط المعتبرة، وكذلك التقسيط في الثمن لا حرج فيه إذا كانت الأقساط معروفة والآجال معلومة؛ لقول الله سبحانه: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ “( البقرة: 282 ) ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ” من أسلف في شيٍء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ” أخرجه أبوداود بإسنادصحيح ، ولقصة بريرة المخرَّجة في الصحيحين :” أنها اشترت نفَسها من سادتها بتسع أواقٍ في كل عامٍ أوقية ” ، وهذا هو بيع التقسيط ، ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، بل أقرَّه ولم ينه عنه، ولا فرق في ذلك بين كون الثمن مماثلاً لما تباع به السلعة نقدًا أو زائدًا على ذلك بسبب الأجل .
وقد شذَّ بعض أهل العلم فمنع الزيادة لأجل الأجل وظن ذلك من الربا وهو قول مرجوح ؛ لأن التاجر حين باع السلعة إلى أجل إنما وافق على التأجيل من أجل انتفاعه بالزيادة ، والمشتري إنما رضي بالزيادة من أجل المهلة وعجزه عن تسليم الثمن نقدًا، فكلاهما مستفيد بهذه المعاملة . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ على جواز ذلك ،فقد ” أمر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يجهِّز جيشًا ، فكان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل ” “أخرجه أبوداود بإسناد صحيح .
فيفهم منه أن هذا البيع يدخل في عموم آية المداينة ، فتكون هذه المعاملة من المداينات الجائزة الداخلة في الآية الكريمة وهي من جنس معاملة بيع السلم.
فالواضح أن بيع الترميش في صورته الحالية سبيل إلى الغرر والخداع والتلاعب بحقوق الناس ومماطلتهم إلا إذا وضعت لضبطه جهة رقابية تُشرف عليه وتُنظِّم الأطراف المتاجرة فيه ، وقد نصَّت القاعدة الفقهية على أن غبن المسترسل حرام ،كالغبن في تلقِّي الركبان ، والنهي عن البيع مع الشَّرط . وقد تقرر عند الأصوليين أن طرق الحرام تابعة لها ، وأن وسيلة المباح مباح .
والمقصود أن الوفاء بالعقود اليوم اختلط بأكل أموال الناس بالباطل ، وبات قول عمر ( ت: 23هـ ) رضي الله عنه : ” مقاطع الحقوق عند الشروط ” الذي تعلَّمه من الوحي نسياً منسياً في واقع الناس اليوم ، ودرج بعض الفضوليين على التذُّرع في الإحتيال في البيع بأن عُرف الناس اليوم يستلزم مثل هذه المعاملات لحاجتهم للمال ولطمع أربابها
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .