بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..
فقد وصلتني رسائل كثيرة من الجزيرة العربية وأفريقيا وتركيا وأفغانستان ،وغيرها من بلاد المسلمين، يسأل فيها كثيرٌ من الطلبة عن كيفية ضبط عِلم الأُصول.
وقد كتبتُ في هذا الموضوع كثيراً ،منها المطبوع ومنها المخطوط، على هوامش الكتب أثناء تدريسي للطلبة لِعلم الأُصول.
وهناك كتاب مطبوع بعنوان: ” المدخل إلى المَلكَة الأصولية”، بيَّنتُ فيه مسالك فهم علم الأصول بشكل ميسر،وهو مطبوع في مكتبة الرشد ،وصدر لي أيضاً: الخريطة الأصولية ،وقد جمعتُ فيه مهمات علم الأصول مع العناية بالتطبيقات.وهو مطبوع في مكتبة الصميعي.
وهذا المنهج الذي أُمليه الآن ، لا يصلح إلا لمن قرأ متناً واحداً مع شرحه،أو سَمعه وفهمه من معلِّم ضليعٍ بالفن.
ولو سبقه حفظ القرآن الكريم ودراسة عقيدة أهل السُّنة والجماعة،فهو نورٌ على نور ، وهو الأكمل والأحسن ،وهو الغاية المنشودة.
أما الذي لم يبدأ في مطالعة علم الأُصول، ولم يقرأ فيه كتاباً أو متناً، فلا يصلح له هذا المنهج.
أولاً: يجب أن يكون لك مدرسة لفهم هذا الفنِّ ،حتى تترقَّى في فصولها، ثم بعد ذلك إذا رسخت تستطيع التمييِّز بين الغثِّ والسمين ،من خلال فهم الدليل والعمل به.
والمدارس قسمان: مدرسة أهل الحديث ومدرسة أهل الرأي.
مدرسة أهل الحديث تجتهد في معرفة النص والأثر،وتُطبِّقُ ذلك في الكلام والفتوى.
أما مدرسة أهل الرأي فتتوسع في الإجتهاد مع المحافظة على أُسس الشريعة ومقاصدها.
ولا يجوز التعصب لمدرسة دون أخرى،فيستطيع الطالب أن يستفيد من المدرستين، ليعرف المنهجية والفروق وأساليب التفكير وتحليل المسائل ،بين أهل الحديث وأهل الرأي.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم على هذه الشاكلة،منهم من يتمسك بروح الدليل ويقف عنده،ومنهم من يتجاوزه إلى الإجتهاد والقياس.
واختيار مدرسة من المدرستين يُفيد الطالب لاحقاً ،عند المذاكرة والنقد ومعرفة الإختلاف في المسائِل ،والتميِّيز بين الخلاف العقدي والخلاف المذهبي،وغيرها من الفوائد.
والأسلوب الصحيح أن تقرأ كتاباً في طريقة الفقهاء ،وهي التي تعتمد على جمع الجزئيات الفقهية واستخلاص القواعد منها، ومن أفضلها : كتاب الفصول في الأصول للجصاص(ت:370هـ) ،وكتاب المنار للنسفي(ت: 710هـ ) رحمهما الله تعالى.
ثم بعد ذلك تقرأ كتاباً في طريقة المتكلِّمين ،وهي التي تعتمد على استخراج القواعد من النصوص الشرعية،وعندهم مراعاة واستفادة من القواعد المنطقية الكلامية.
ومن أفضل كتبها: الرسالة للشافعي(ت: 204هـ ) ،واللُّمع للشيرازي(ت: 476هـ) رحمهما الله تعالى.
وهناك كتب تجمع بين الطريقتين من أفضلها: جمع الجوامع لابن السُّبكي(ت:771هـ)،ومسلَّم الثبوت لابن عبد الشُّكور(ت: 1119هـ )،رحمهما الله تعالى.
بعد ستة أشهر أو سنة من دراسة الكتب السابقة وفهمها،يتمُّ مذاكرتها ومناقشتها مع زميل أو معلِّم ،حتى لا تتفلَّت المسائل من الذِّهن.
ثانياً :عند مذاكرة المسائِل يجب أن تُستحضر المباحث الأُصولية، بأدلتها وتعليلاتها وثمراتها، حتى يُمكن الإفادة منها بشكل صحيح وموثوق.
مثال ذلك:الإستحسان وهو دليل ينقدح في الذِّهن ،ويعسر تعبير المجتهد عنه.ودليله عموم أدلة التيسير على المسلمين.وتعليله بحسب المسألة المدروسة ،مثل:السَّلم : وهو بيع موصوف في الذِّمة بثمن حالِّ في المجلس،فهو مستثنى من الأصل ،وهو النهي عن بيع المعدوم.وثمرة المسألة: التيسير على الناس ومعرفة كيفية العدول عن حُكمٍ إلى حكمٍ آخر بنص يقتضي ذلك،كما هو مقتضى مشروعية بيع السَّلم.
ثالثاً: يلزم العناية بمعرفة المعتقد الصحيح عند دراسة المسائل الأُصولية،ويكون هذا بدراسة العقيدة الصحيحة دراسة وافية ،لأنها الأصل والأهم في باب العلم ،ولأن هناك مسائل أُصولية وعقدية دسَّ الكلاميون والمناطقة فيها بعض أباطيلهم ،فيجب التنبُّه لهذا.
فالراجح أن تكون دراسة العقيدة الصحيحة مقدِّمة لدراسة علم الأصول ،وليس العكس.
رابعاً:إذا قرأتَ أو درستَ مسألة أصولية روايةً فطبِّقها درايةً،حتى تجمع بين العلم والعمل والثمرة.
أما مطالعة المسائل الأصولية بالقراءة المجردة ،فنفعها محدود ومحصور في دائرة معيَّنة.
ومنهج الدِّراية يكون بحفظ الأمثلة في الشرح الأصولي ،والإكمال على ضوئها وفق الأدلة والقواعد،ومراجعة الكتب الأصولية وكتب الأحكام، لمعرفة الخِلاف وسببه، والترجيح وسببه،ولتحرير محل النِّزاع في المسألة.وبدون هذا المنهج لن تستفيد من علم الأصول أبداً.
خامساً:استحضر دائماً التقاسيم والمصطلحات في ذهنك وذاكرتك،مثل: أنواع الأدلة،أنواع المصلحة،أنواع القياس ،أقسام الواجب،أنواع المقاصد .
فبهذا الأسلوب تستطيع حلَّ التطبيقات ومعرفة مواضع الخطأ والصواب في الأمثلة والمسائل،من خلال التميِّيز بين ما يصلح الإستدلال به وما لا يصلح.
سادساً : اجعل لك برنامجاً أسبوعياً ،للنظر في كتب الخِلاف وفي كتب الفقه المقارن،حتى تُلحق الفروع بالأصول وتجمع بين الأدلة ودلالاتها وتطبيقاتها،ولتعرف مناط الحُكم ووجه الخلاف وثمرته ،فبهذه المنهجية تصل إن شاء الله تعالى إلى معرفة مراد الله تعالى، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم في الأحكام،وتنتفع وتسعد في دينك ودنياك بهذا العلم الأصيل.
وأفضل كتاب في استنباط الأحكام : كتاب الله تعالى ،وصحيح السُّنة النبوية،والمختصرات مثل : إحكام الأحكام لابن دقيق العيد(ت: 702هـ)،وهو نفيس جداً ،وبلوغ المرام لابن حجر(ت: 852هـ ) وشروحه،وُسبل السلام للصنعاني(ت: 1182) ونيل الأوطار للشوكاني(ت:1250هـ ) ، رحمهم الله تعالى.
وعند التدبر والتأمل سيجد طالب العلم في هذه الكتب الحديثية وشروحها: أصول الفقه وقواعد الفقه وقواعد الحديث،ولا بأس في تقديم دراسة بعضها على بعض،فكلها مكمِّلة لبعضها، وهي تتزاحم في الكتب ،فيحسن فهمها بدون التفريق بينها في الذِّهن، لكن عند تحرير المسائل يتم التمييز بينها بأن هذه قاعدة حديثية تستعمل في كذا، وهذه قاعدة فقهية تستعمل في كذا،وهذا واضح إن شاء الله تعالى.
سابعاً :من المفيد لطالبِ علم الأصول ،تأمل قرارات المجامع الإسلامية الفقهية، فقد اشتملت على تحريرات وتقعيدات وتأصيلات فقهية وأصولية ،مهمة للباحثين وطلبة العلم ولعامة الناس، ومن خلالها يختصرُ طالب العلم على نفسه طرقاً ومسالك طويلة متشعِّبة.
ثامناً:عند نظر طالب العلم والباحث في الكتب الفقهية والأُصولية ،يجب عليه تأمل مواضع القطع والظن في الأدلة،فليس كل دليل يصلح للإستدلال ،ولا كل دليل يكون صحيحاً،فهناك أدلة ظنية ومثلها قطعية. فافهم هذا فإنه نفيس جداً.
تاسعاً: يلزم طالب علم الأصول عند تأمله للمتون والشروح الأصولية ،الحذر من ثلاثة أمور: الإكتفاء بمطالعة الأُصول دون تطبيق مسائله على الفقه ، إطالة النظر في الكتب المختصرة اختصاراً مخلِاً ، تكرار المصَّنفات التي اشتهر أصحابها ببدعة وماتوا على ذلك من غير تراجع أو توبة.
وكلما كان المتن أو الشرح مقروناً بالدليل والتعليل ، فهو المقدَّم ونفعه أعظم.
عاشراً :خمسة أخطاء يقع فيها كثير من طلاب علم الأصول ، فيجب الحذر منها: عدم طلب الدليل والتعليل ، اهمال مقاصد الشرع في المسألة، عدم إلحاق الفروع بالأصول عند تطبيق الأمثلة، ترك معرفة الراجح في المسألة، النظر في الأدلة بدون فهم الدلالات والتميِّيز بينها.
وختاماً..ليحرص طالب العلم على الإخلاص والتقوى في علمه وعمله،حتى ينجو يوم التغابن،فإن العِلم الخالي من المراقبة وحسن المقصد ،مغبونٌ صاحبه ومخدوع.
هذا ما تيسر تحريره ،والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
د/ أحمد بن مسفر العتيبي
عضو الجمعية الفقهية السُّعودية.
1441/10/9هـ.