وصلتني رسالة على بريد الموقع من طالبِ عِلمٍ أفغانيّ نجيب ،يُقيم في أفغانستان.
تتلخَّصُ رسالته في عدم فهم بعض المصطلحات الأُصولية،في كتب أُصول الفقه في المذهب الحنفي.
وقد ذكر هو مثالاً على معاناته حيث قال :” لفظ الخاص: لفظٌ وضع لمعنى معلوم على الإنفراد، مثاله :زيد وإنسان. والخاص ثلاثة أنواع: جنس ونوع وفرد.واطلاق الخاص على الجنس والنوع ،يتعارض مع فكري القاصر مع تعريف الخاص” أهـ.
والجواب إجمالي وتفصيلي.

الأول: الجواب الإجمالي:
الخاص كما أورد تعريفه النَّسفي(ت:710هـ ) رحمه الله تعالى في المنار: “لفظ وضع لمعنى معلوم على الإنفراد”. وأنواعه ثلاثة: جنس ونوع وعين. الجنس مثل: الإنسان. والنوع مثل: الرجل. والعين مثل: عبد الواسع.
فلفظ عبد الواسع مثلاً ،يدل على ذات شخص معيَّن معروف،وهو رجل وإنسان.وهذه الثلاثة: عبد الواسع ورجل وإنسان، لا تحتاج إلى بيان أو تأويل لأنك أفردتها وميَّزتها عن غيرها.
والحُكم هنا: أنه يتناول المخصوص قطعاً، ولا يتناول غيره.
والقصد من الجنس والنوع والعين تقسيم الإنفراد،وكلها مكمِّلة للمعنى نفسه.فلا يوجد تعارض في الكلام ولا في المعنى.

الثاني: الجواب التفصيلي:

أ-المنهج الصحيح لدراسة علم الُأصول على المذهب الحنفي:
تتميَّز كتب أصول الفقه عند الحنفية بأنها وعِرة المسالك، وفيها استغلاق وغموض،وهذا يعرفه القاصي والداني،وقد شهد بهذا قبل مئة عام ،الفقيه الأُصولي محمد بن عبد الرحمن المحلاوي(ت: 1341هـ)رحمه الله تعالى ،حين اشتكى إليه بعض طلبة الأزهر من صعوبة مصنَّفات الحنفية في الُأصول.
فقد كان يدرِّسهم كتاب (التوضيح) لصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المحبوبي(ت: 747هـ) رحمه الله تعالى،ثم صنَّف لهم كتابه:” تسهيل الوصول إلى علم الأصول” وهو كتاب سهل نافع جداً في أصول الفقه الحنفي.
وبسبب هذا النمط في كتب الحنفية ،فإن بعض الطلبة يستشرفون الكتب الدسمة في الفن.
فيترك كثيرٌ منهم الكتب المختصرة السهلة ،ويقبلون على الكتب المطوَّلة.
والنتيجة: عدم فهم الفروع ،ونسيان الأدلة ، وتضييِّع الزمان بتفكيك ألفاظ المتون والمصطلحات الهامشية .
وللأسف بعض المعلِّمين والمشايخ يُعاملون الطلاب ويعلِّمونهم بمستوى واحد في التحصيل والفهم.وهذا خطأٌ عِلميُّ وتربوي لا يختلف عليه اثنان.
ومنهج الأُصوليين في جُملته لا يختلف عن منهج الحنفية،والعبرة بالمعاني والمفاهيم لا بالاصطلاحات.
والمنهج الصحيح للمذاكرة يكون كالآتي:
1-مطالعة كتاب الواضح في أصول الفقه للأشقر(ت:1430هـ)،وهو على المذاهب الأربعة.
2-مطالعة كتاب أصول الفقه لمحمد زكريا البرديسي(ت: 1396هـ)رحمه الله تعالى،وهو على المذاهب الأربعة.
3-مطالعة كتاب مذكرة الشنقيطي (ت: 1393هـ )رحمه الله تعالى، وهو على المذاهب الأربعة.
4-مطالعة تسهيل الوصول للمحلاوي(ت: 1341هـ ) رحمه الله تعالى،وهي على المذهب الحنفي.
5-دراسة مختصر المنار للنسفي (ت: 710هـ ) رحمه الله تعالى ،دراسة متأنية.
وبعدها ينتقل الطالب للحواشي والشروح المطوَّلة.

وهذا الترتيب بهذا النسق مقصود وليس ارتجالياً.
والكتب الأربعة الأولى إما أن تُطالع كلها أو اثنين منها ،حتى تتضح معاني المصطلحات ويتم تصورها تصوراً صحيحاً في الذِّهن.
أما البدء بدراسة المنار مباشرة فهذا خطأ ،إلا لمن كان حادَّ الذِّهن سريع الفهم.

ب-طريقة مذاكرة المسائل الأصولية :
يجب على الطالب أن يحرص على فهم المعاني،وليس تفكيك ألفاظ المتقدِّمين،فإن ألفاظ العلماء وسيلة يُقصد منها فهم النصوص والأحكام.
فمثلا النَّسفي رحمه الله تعالى ،صنَّف كتاب المنار قبل سبعمئة سنة تقريبا،وله أيضاً كشف الأسرار شرح المنار.
وهو من المتأخِّرين الذين رتبوا كتب الأُصول على طريقة المتكلِّمين،ولهذا تكون الإفادة من كتابه عند طلاب اليوم عسيرة إلا على القليل من الطلبة.
فيجب التركيز على المعاني والأدلة والأمثلة،ثم الرجوع إلى دقائق ألفاظ المؤلِّف عند الحاجة.
أما تضييِّع الأيام والشهور في حلِّ ألفاظ كلام المتقدِّمين بدون العناية بالمقاصد ،فهذا هدر للوقت بلا طائل.
ومما يُعين على المذاكرة: تقسيم الفقرات،وإطالة النظر في الأمثلة،التأمل في المعاني،الحاق الفرع بالأصل إن كان موجودا بالمسألة،اختبار الفهم مع طالب آخر ،أو مع معلِّم ضليعٍ بالفنِّ.

ج-تطبيق على مسألة الطالب عبد الواسع:
مسألة الطالب عبد الواسع تتعلَّق بالخاص. وهو دلالة من الدلالات الأصولية.
والخاص له تعلُّق بالعموم لأنه في الغالب يُربط به.
فمثلاً قول الله تعالى:” إنكم وما تعبدون من دون الله حَصبُ جهنم أنتم لها واردون”(الأنبياء:98)،هناك تخصيص لها وهو قول الله تعالى:” إن الذين سبَقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مُبعدون ،لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون “(الأنبياء:101-102).
وهناك فائدة مهمة في هذا الباب وهي أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يطلبون دليل الخاص ولا يطلبون دليل العام. وهذا يدل على أنهم يحرصون على معرفة المعاني وليس الألفاظ.
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم:” أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله” متفق عليه، مخصوص بالآية الكريمة:” حتى يعُطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون “(التوبة:29).
وقول الله تعالى:” حُرِّمت عليكم الميتةُ”(المائدة:3)مخصَّصة بحديث:” هو الطهور ماؤه الحِلُّ ميتته”.أخرجه الترمذي بإسناد صحيح.
وأيضاً حديث:” من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقائه،ومن كره لقاء الله كره الله لقائه”.متفق عليه.فهذا يدلُّ على أن الأصل العمل بالعموم،ومن وجد مخصِّصاً فليعمل به إن كان صحيحاً ، كما نبَّه عليه الزركشي (ت:794هـ ) رحمه الله تعالى في البحر المحيط.
ولاحظ أننا هنا لم نتعرض للجنس والنوع والعين،بل استخرجنا المقصود مباشرة.َّ
والخلاصة من تقسيم الخاص إلى جنس ونوع وعين هي: أن هذا الخاص يتناول المخصوص ولا يحتمل البيان،لأنه انفرد بوضوحٍ تام.
وشكراً للطالب النجيب عبد الواسع جزاه الله خيراً،فقد ذكَّرني بحالي قبل ثلاثين عاماً تقريباً، فقد كنتُ أطوف في المزارع أو في الصحراء وحيداً ،ومعي كتاب جمال الدِّين القاسمي(ت: 1332) رحمه الله تعالى:” أربعة متون في أُصول الفقه”،وكنتُ أكرِّر عباراته وألفاظه ونصوصه ،حتى حفظتهُ وحفظتُ أرقام صفحاته.

وختاماً فإن عِلم الأُصول لا ينفعُ صاحبه إلا بفهم الأدلة والأمثلة،أما الاشتغال بالألفاظ التي يُمكن الاستغناء عنها ،فوسيلة إلى هجر مقصود العِلم ،وعدم الإفادة منه بالمنهج الصحيح المحرَّر .
هذا ما تيسر تحريره ،والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

د/ أحمد بن مسفر العتيبي
عضو الجمعية الفقهية السعودية.
1441/10/4هـ.