بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..
فهذا موضوع طريف مليح، فيه تأسيس لمعنى جملة من أقوال أحد علماء السُّنة والجماعة، والقصد منه حمل الكلام على الإفادة لا على الإعادة ،كما هو مقرر عند الأصوليين.
فقد اشتهر عن الإمام ابن تيمية (ت: 728هـ) رحمه الله تعالى، مقولة وعبارة فخمة ودقيقة ،نقلها عنه بعضُ تلامذته ومحبيه ،وهي متعلِّقة بأهمية النظر والتدبر لكلام الله تعالى والعمل به.
والشيخ الإمام له أصحاب وتلاميذ يتسابقون إلى حفظ عباراته ،بل إن أحدهم، وهو ابن رشيق (ت: 749ه )رحمه الله تعالى ، كان يعرف خط ابن تيمية لو اختلط بكثير من خطوط العلماء والنُّساخ.
وقد عدَّهم ابن عبد الهادي(ت: 744ه ) والحافظ الذهبي(ت: 748ه ) و البزار (ت: 749ه) وابن ناصر الدِّين (ت: 842ه ) ومرعي الكرمي(ت: 1033ه ) وصفي الدين البخاري (ت: 1200ه )،رحمهم الله تعالى.
فقد روى أبو عبد الله بن رشيّق المغربي ،قول الإمام أبي العباس:
(قد فتح الله عليَّ في هذا الحِصن في هذه المرَّة من معاني القرآن ومن أصول العِلم بأشياء ،مات كثيرٌ من العلماء يتمنّونها، وندمتُ على تضيِّيع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن).
وقد نقل ذلك الحافظ ابن عبد الهادي في العقود الدُّرية (ص/25) .
وفي طبقات الحنابلة (2/204) لابن رجب مثله.
فهذه العبارة ثابتة الإسناد عنه،وقد شاعت واستفاضت ولم ينكرها أحد لا من محبيه ولا من مبغضيه .
وهذه العبارة من الكلام الذي إعماله أولى من إهماله،فتُحمل على الحقيقة فإن تعذَّرت حُملت على المجاز،كما هو مقرر عند الأصوليين .
وأما معناها فليس كما يظهر من عبارتها المجردة،وهي تضيِّيع الوقت بالكلية ،لأن ابن تيمية رحمه الله تعالى كان يقرأ القرآن ليلاً ونهاراً ويعملُ به ويجاهد به،ولا نزكي على الله أحداً.فمتى ضيَّع وقته وأين وكيف؟.
لقد ختم القرآن ثمانين مرة في سجنه،وعندما كان حراً طليقاً ختمه الآف المرات، ومكث يفسِّر سورة نوح في المسجد للناس ،أكثر من سنة كاملة ،وقد حرَّر كثيراً من مباحث التفسير ،في كثير من كتبه المطبوعة والمخطوطة ،فلا وجه للندم إذا كان ذلك كذلك.
ثم إن كل مؤلفات ابن تيمية،وهي تنيف على خمسمئة مصنَّف، ما بين مجلد ورسالة وأجزاء كثيرة،كلها من أولها إلى آخرها في معاني القرآن : إما تقرير للألوهية لله تعالى، أو بيان لحكم شرعي غامض، أو رد على شبهة من شبه أهل الزيغ والضلال، أو شرح لقاعدة من قواعد الدِّين، أو تأصيل معنى شرعي غفل عنه الناس أو زلَّ بعضهم في فهمه ،أو تفسير آية أشكلت حتى لا يوجد أحدٌ كتبها على وجه الصواب.
فكل مؤلفات الإمام في بيان معاني القرآن،فما سبب ندمه ؟! .
ومن محاسن سيرة هذا الإمام أنه لا تخلو صفحة من صفحات مصَّنفاته ورسائله من الاستشهاد بآية أو حديث أو قول أحد اعلام السلف،فهل من المعقول شرعاً وعقلاً أن نقول إنه فعلا ضيَّع أوقاته بغير القرآن ، وندم على ذلك؟!
الجواب قطعاً بالنفي.
وقد وهم الصفدي(ت: 764ه ) رحمه الله تعالى في التعبير حين قال: (وضيَّع الزمان في ردِّه على النصارى والرافضة ومن عاند الدِّين أو ناقضه ،ولو تصدَّى لشرح البخاري أو لتفسير القرآن العظيم ،لقلَّد أعناق أهل العلوم بدر كلامه النظيم ).
والصفدي من تلاميذ الإمام،لكنه كان أديباً نحوياً،وله عناية بالتراجم .
لقد ردَّ ابن تيمية بلا ريب على النصارى وردَّ على الرافضة، وفسَّر كثيراً من آيات وسور القرآن بحسب وسعه وطاقته،وشرح مئات الأحاديث النبوية في كثير من مؤلفاته.
أما شرحُ صحيح البخاري فإنه لم يكن من أولوياته في التصنيف ،وكان عنده رسوخ نفسي أن التفسير لا يحتاجه كل الناس ، كما روى ذلك عنه تلميذه ابن قيم الجوزية (ت: 751هـ )رحمه الله تعالى.
إن العالم أو طالب العلم إذا اشتغل بمسائل العلم الدقيقة ، التي تُلهيه عن مدارسة ومعاهدة القرآن وتلاوته والعمل بهداياته ومقاصده ،فإنه حتماً سيندم على تقصيره،لأنه ضحَّى بأنفاسه وعُمره في شي قد يكون مفضولاً في حقه.
فهذا الإمام الهمام يقول للناس بلسان حاله: لا تشتغلوا بمسائل العلم وتوغلوا فيها مطلقاً ،حتى لا تُلهيكم عن مدارسة كتاب الله وأخذ نصيبكم من ورده وحزبه والعمل به في ليلكم ونهاركم.
إن فهم علوم الشريعة فرض كفاية وأحياناً فرض عين، لكن الفريضة الأولى والمقدَّمة على كل شي، هي الاعتكاف على تدبر معاني القرآن ومقاصده وشرائعه،تارة بالأعمال وتارة بالأفعال.
ما فائدة معاني القرآن إذا كان المسلم لا سيما أهل العلم منهم ،لا يتعففون عن الحرام ، كالغيبة والنميمة والكذب والحسد ،والترصد لأهل الخير ومحاولة إيقاع الضرر بهم، وتأخير الصلاة والاشتغال بأخلاق الفُسَّاق والفجرة، ونحوها من المعاصي والموبقات المهلكات ؟!.
لقد خشي هذا الإمام في آخر عمره على نيته وطويته، من أن تكون قد خالطها شائبة،عند الجهاد والدعوة والتدريس والتأليف،ففرَّ إلى القرآن مناجاة وتدبراً وتفكراً،وهذا من الإحسان الذي أمر الله تعالى به.
فعند تلاوة القرآن وتدبره بصدق ،يظهر الإخلاص والخشوع ومعرفة أسماء الله وصفاته،ويتبيَّن للمؤمن حقيقة العمل الصالح وحقيقة الدنيا والآخرة ،وأن مضاعفة الأجور لا تكون إلا بالعمل بالقرآن وفهمه على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم،كما في قول الله تعالى:” وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون”(الانعام:155).
لقد صَّنف ابن تيمية كتاباً سمَّاه (التحفة العراقية في الأعمال القلبية) وهو من أنفس ما كُتب في بابه، وأنصح من يريد تربية وتزكية نفسه بمطالعته وفهمه، ففيه خير عظيم لمن تدبر.
هذا الكتاب ترجمة عِلمية وعملية لعبارة الإمام في ندمه في تضيِّيع أوقاته في غير القرآن، ودعوة للمسلمين عامة إلى الإخلاص والمراقبة لله تعالى حتى يكون المسلم من زمرة السعداء في الدنيا والآخرة ،ومن لا يحقق هذه الغاية فهو النادم حقيقة لا مجازاً.