من المصطلحات التي لاقت رواجا في الأوساط الأدبية حديثا : مصطلح الشهرة العلمية ، وتحرير أحكام الشهرة ومآلاتها الشرعية من لوازم تصحيح المقاصد، لتعلقها بالايمان وشعبه . وقد كان السلف يُنبِّهون على أهمية تجريد النية في مصنفات مستقلة ، لكنهم يتعمَّدون اغفال تفاصيل أحكام فروعها ،لعلمهم أن الجزئيات تُلحق بالكليات . وقد حررتُ ما تيسر لي من أحكام الشهرة العلمية ،مستنبطة بدلالة الاقتضاء والاشارة والتنبيه . والله الهادي.
 
*أحكام الشهرة العلمية :
1- المقصود بالشهرة العلمية : الصِّيت والذيوع والظُّهور على الاقران . ومن دلائله : لمعان الاسم في الآفاق وتداول الناس لأخبار المشتهر ، وتميزه عن معاصريه . 
والنبوغ سبب للشهرة وليس شرطا لها ،كشهرة ابن عباس(ت: 68هـ )رضي الله عنهما بعلم التفسير، ،وشهرة سيبويه(ت: 180 هـ) بعلم النحو، وشهرة الجاحظ(ت: 255هـ ) بعلم الأدب ، وشهرة ابن بطوطه( ت: 779هـ ) بالرحلة والسفر . وشهرة الفرزدق (ت: 110هـ ) بالنقائض ، وشهرة عبد الباسط عبد الصمد(ت: 1408هـ ) بترتيل القرآن ،رحم الله الجميع ، وشهرة انشتاين(ت: 1374 هـ) بالنظرية النسبية .
 
2- ليس كل من اشتهر يكون أهلاً للشهرة ،فربما اشتهر من لا يستحق الشهرة ، وربما تجاوزت الشهرة من يستحقها . وقد قيل : الخمولُ نِعْمَةٌ والكلُّ يأباها، والشهرةُ نِقْمَةٌ والكلُّ يتمنَّاها . وقد أجمع العارفون على أن العِز والراحة في الخمول، وضدها في الطمع والفضول . وهما كالذئبين الجائعين بين الغنم المصفده .
 
3- الشهرة- في الغالب – تجلب التصنع والتعصب والذهول لصاحبها . وتضر من يلتف حول المشهور باشاعة الثناء وتحسين الأحوال له، كما قرر ذلك المؤرخ ابن خلدون(ت: 808هـ) رحمه الله تعالى في مقدمته . وهذا يندرج تحت الحجة البرهانية التي تفيد اليقين .
 
4-السعي الحثيث إلى الشهرة ،سببه عدم ترويض النفس على القناعة بما كتب للإنسان من رزق، والالتفات إلى ثناء الناس لاشباغ الطمع النفسي الذي يميل إلى جلب المحمدة .
روي في سيرة ابن المبارك : أنه كان مع أحد تلاميذه يوماً، فأتيا على سقاية والناس يشربون منها ، فدنا ليشرب ولم يعرفه الناس، فزحموه ودفعوه، فلما خرج قال لتلميذه : ماالعيش الا هكذا ، يعني حيث لم نُعرف ولم نُوقَّر . 
ولما كان بالكوفة يقرأ عليه كتاب المناسك . انتهى إلى حديث وفيه : قال عبدالله : وبه نأخذ . فقال : من كتب هذا من قولي ؟ قيل : الكاتب الذي كتبه . فلم يزل يحكه بيده حتى درس . ثم قال : ومن أنا حتى يكتب قولي .
 
5- فتح باب الشهرة على مصراعيه سبب من أسباب الأثرة . وأكثر أدواء الناس بسببه . وقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم بحب الله لمن يخفي عمله الذي يتقي الله به فقال : ” إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي ” . أخرجه مسلم .
 
6- لا تظهر مفاسد الشهرة على صاحبها إلا بعد زمان ودهر . ومن أعظم مفاسدها ضعف مظاهر العبودية والاخلاص، والتكاسل عن الطاعات إذا حرم صاحبها من التصفيق له . وقد قال صلى الله عليه وسلم : “إياكم والتمادح فإنه الذبح ” .أخرجه ابن ماجه باسناد حسن .
قال المناوي(ت: 1031هـ ) رحمه الله تعالى :
” المدح يورث العجب والكبر وهو مهلك كالذبح فلذلك شُبِّه به” . وقال الغزالي ( ت: 505هـ) رحمه الله تعالى :” فمن صنع بك معروفا فإن كان ممن يحب الشكر والثناء فلا تمدحه ؛ لأن قضاء حقه أن لا تقره على الظلم وطلبه للشكر ظلم ، وإلا فأظهر شكره ليزداد رغبة في الخير ” .
 
7- علاج الميل القلبي للشهرة هو في كتم الفضائل وعدم الالتفات لكلام الناس . قال الفضيل بن عياض( ت: 187هـ ) رحمه الله تعالى : ” إن قدرتَ أن لا تُعرف فافعل ، وما عليك ألا تعرف ؟ وما عليك ألا يثنى عليك ؟ وما عليك أن تكون مذموما عند الناس، إذا كنت محمودا عند الله عز وجل ؟ ” . وثبت في المرفوع : ” إِنَّ أَغبط أوليائي عِنْدي لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ، ذُو حظٍ مِنَ الصَّلاَةِ ،أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَأَطَاعَه فِي السر وَكَانَ غَامِضاًفِي الناس، لا يُشَار إِلَيْهِ بالاصَابِعِ، وَكَانَ رزقه كفافاً، فَصَبرَعَلَى ذَلِكَ ثم نَقَرَ باصبعيه فَقَالَ : عُجِّلْتْ ممنيته قَلَّتْ بَوَاكِيهِ قل تراثه “. أخرجه الترمذي باسناد حسن .
 
8-الصِّيت والشهرة التي يكتسبها الانسان كالرزق الذي يبسط ويُقدَّر . وشهرة المتقدمين أظهر من شهرة المتأخرين ، لمقتضى سنن الله الكونية . لكن الشهرة لم تكن هاجسهم . والأنبياء والرسل رغم كثرتهم لم يورد القرآن منهم سوى خمسة وعشرين رسولا ، تنبيها لقلة جدوى الصِّيت والسمعة ، والأنبياء اخوة لعلات . وقد حج مع الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من مئة ألف من الصحابة ، لكن لم يحفظ من أسمائهم سوى ثمانية الآف .
 
9-تصحيح النية من لوازم الشهرة . ويكون قبل الشهرة وبعدها ، بتجريد القصد الخالص لله تعالى . قال سفيان الثوري(ت: 161هـ ) رحمه الله تعالى : ” ما عالجتُ شيئا أشدَّ من نيتي، لأنها تتقلَّب عليَّ ” . وقد روي أن الإمام أحمد أثنى عليه شخص وقال له : جزاك الله عن الاسلام خيراً . قال : بل جزى الله الإسلام عنِّي خيراً . من أنا وما أنا ؟! .
 
10-من حصل الشهرة بجدِّه وجلده في علم أو ابداع ولم تكن هي الغاية التي يسعى إليها كأبي حنيفة( ت: 150هـ ) في الفقه، ، والبيروني (ت: 440هـ ) في الفلك ، والألباني( ت: 1420هـ ) في الحديث، رحمهم الله تعالى، فذلك رزق مقسوم هيأ الله لهم أسبابه، لقول الله تعالى : ” نحن قسمنا بينهم معيشتهم “( الزخرف : 32 ) . وهم مأجورون على بذلهم وجلدهم . لكن هذا لا يعفيهم عن سؤال الآخرة في مناقشة نياتهم .
 
11–أسباب الشهرة متعدِّدة ويمكن تلخيصها في كلمتين : الابداع والاختراع .
مثل كل عمل نفيس وعزيز، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن عمر رضي الله عنه : ” لم أر عبقريا يفري فريه ” . أخرجه الشيخان . ويقاس على ذلك كل عمل أشهر صاحبه حتى عُدَّ عَلَما . والقاعدة : أن مبدأ العلوم هو الخواطر والأفكار التي توجب التصورات ،ثم الارادات، ثم وقوع الأفعال . وصلاح الأفعال بصلاح الخواطر . وقد تكون العوارض الأهلية سببا في شهرة صاحبها . ولهذا أمثلة في التاريخ يصعب حصرها .
 
12—الشهرة العكسية هي الخمول واُفول نجم الشخص ،حتى يكون مغمورا في جيله أو معاصريه، رغم بذله وتضحيته . وقد تكون بسبب العوارض الأهلية في الغالب ، أو طلبا للسلامة والزهد ، أو لانعدام النقلة والتلاميذ . وقد لا يشتهر الخامل الا بعد وفاته . فالصحابي قد يقول قولًا ولا يشتهر به ، لكنه يكون حجة إذا لم يخالف نصاً . ويلحق بذلك أقوال المذاهب الفقهية والعقدية والتجريبية . فهناك نظريات فقهية لعلماء ماتت بموت أصحابها ،وبعضها بادت ، كتعليلات الحسن البصري(ت: 110هـ ) ، وتعليلات محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى (ت: 148ه ) . والمذهب الأشعري لم يشتهر إلا بعد وفاة مؤسسه أبي الحسن الأشعري( ت: 324هـ ) رحم الله الجميع . ومؤسس علم الوراثة جريجور مندل(ت : 1301هـ ) لم يشتهر إلا بعد خمسة وثلاثين عاما من وفاته .
 
13- ليست كل شهرة محمودة ومطلوبة . فالكلب يشتهر بالوفاء ، والنعامة بالجبن . والثعلب بالمكر . ومنهم من يشتهر لعلة في رأسه، كمن أراق ماءه في بئر زمزم ليعرف ! ، وكل ميسر لما خلق له .
 
14- التفضيل بين المشاهير وتقديم بعضهم على بعض ، كتفضيل ابن تيمية(ت: 728هـ ) على السُّبكي (ت: 771هـ) وتفضيل ابن باز (ت: 1420هـ ) على ابن عثيمين (ت: 1421هـ ) رحم الله الجميع ، جائز ، بشرط الموازنة بين المتماثلين ،وطرح الهوى ، والانصاف في الحكم .
 
15- الافادة من مشاهير الكفار جائزة شرعاً وعقلا، كالافادة من المخترعات الحديثة والاشادة بمهارة مخترعيها وبراعتهم في صناعتها . بشرط عدم المحبة القلبية لهم . وشهرة الكافر وانتفاع الناس بعمله في الدنيا هي حظُّه المعجَّل منها .
 
16- الشهرة ليست نبوة يحتمي بها من النقد كُّل من أدركها . فالحق لا يقاس بالرجال إنما الرجال يقاسون بالحق . وقد رُدَّت بعضُ أقوال كبار العلماء والتابعين ، فكيف بمن هم دونهم . قال الله تعالى:” ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا “( النساء :82 ) .
 
لقد كان الأوائل ينهون محبيهم خلفهم عن خفق نعالهم ، واليوم بات التغريد شهرةً لمن غرَّهم بريق أقلامهم . هذا ما تيسر تحريره . والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات . 
 
المصادر :
1- التحرير والتنوير/ الطاهر عاشور / 6/122 .
2-سير أعلام النبلاء / الذهبي / 9/ 367 .
3- مقدمة ابن خلدون / 123
4- مذكرة الشنقيطي / 82 . 
 
أ/أحمد بن مسفر العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصه