ترد في مصنفات الأئمة الكبار عبارة ( مدارك العلم ) ، وهي من المصطلحات التي يُقصد بها الاحاطة بمعاني الحكم الشرعي ،واستدراك الخطأ في الفهم الذي لحقه ، والافادة من جميع فروعه وجزئياته . لكن التنظير المعنوي لا يكفي لتصور المعنى الصحيح لهذا المصطلح . وهذا ما وضَّحه القرآن ،كما في أول سورة النساء وآخر سورة الطلاق . وفي السنة في كثيرٍ من المواضع . 

 
فاستهلال النظر في المسائل العلمية لا يتمُّ على منهج العلماء الراسخين إلا بطريقتين : الأولى : الاستيعاب في جرد مفردات المسألة العلمية، والثانية : نقد الأقوال الواردة في عموم المسألة. ويتفرَّع من ذلك الوقوف على دلائل المسائل القطعية والظنية ،ومعرفة موارد الخلاف، وتوقي سوء الفهم للنص القرآني أو النبوي، والنظر في تخلُّف الحكم المانع أو ثبوته ومعرفة القرآئن وموجب العموم والتخصيص والمعارض ،وتأمل موجب القياس والاستصحاب . وهي تنتظم في المقدِّمات اليقينية التي أثبتها الوحي ، والحواس الخمس الصحيحة التي عليها مناط الفهم عند العقلاء .
 
وقد جمع الناظم مدارك العلم في بيتين لطيفين هما :
مدارك العلوم في العِيان 
محصورة في الحدِّ والبُرهان
وقال أيضا :
وقال قومٌ عند أصحاب النظر 
حِس وإخبار صحيحٌ والنَّظر .
 
فالحجج النقلية والعقلية وأدواتهما من أهم الأسباب المعينة على الاحاطة بمدارك المسائل العلمية . وهي مبثوثة في كتب التفسير وأصول الجدل .
ويجب أن يتنبَّه الباحث في مدارك العلم- إن أراد الوصول إلى الحق – أن الواقع العلمي لا يخلو من مقلِّدين جامدين لا يفقهون دليلا ولا نصاً،وعُبَّاد تغلب عليهم الجهالة معنىً وحساً، وأهل حديث متبعين للدليل حقا وصدقًا، ومتوسطين في الأخذ بالموروث الفقهي ديانة وطبعاً، وحداثيين علمانيين لا يعظِّمون الدين شرعًا ولا وزنًا .
 
وقد عاتب الرسول صلى الله عليه وسلم عديَّ بن حاتم رضي الله عنه ووصفه بقلة الفطنة لتفريطه في استيعاب مدارك العلم بقوله :” إنك لعريضُ الوِساد ” حين فهم من قول الله تعالى : ” حتى يتبيَن لكم الخيطُ الابيضِ من الخيطِ الاسودِ من الفجر” ( البقرة : 187 ) أن المقصود: الِحبال البيض والسُّود ! . وقد صحح له الرسول صلى الله عليه وسلم حدَّ المسألة وبرهانها فقال : ” إنما هو بياض النهار وسواد الليل ” . أخرجه الشيخان .
وهذا الحديث يُستنبط منه خمس فوائد : 
الاولى : لا يجوز الحكم على المسألة قبل تصورها .
الثانية : تصور المسألة يجب أن يكون على وصف الوحيين .
الثالثة : العادات والأعراف تُرُّد إذا كانت خلاف الأصل الشرعي .
الرابعة : التعقيب على الغلط النادر لا يصح، إلا إذا خالف أصلا ثابتاً .
الخامسة : ضوابط الأدلة الشرعية من لوازم العلم .
 
وقد كانت أُم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تربِّي الصحابة على ادراك المسائل وتُصحِّح لهم ما قد يكون وقع منهم خلاف الدليل الذي يخالف الاصل ، كما في قولها لامرأة أبي اسحاق السبيعي : ” أبلغي زيد بن ارقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أن يتوب ” ! . أخرجه الدارقطني باسناد حسن .
 
وهذا الاستدراك من أم المؤمنين رضي الله عنها له قصة ، وهي أن امرأة أبي إسحاق، قالت: دخلتُ على عائشة في نسوة، فقالت: ما حاجتكن؟ فكان أول من سألها أم محبة, فقالت: يا أم المؤمنين هل تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم, قالت: فإني بِعتُه جارية لي بثمانمائة درهم إلى العطاء, وإنه أراد أن يبيعها فابتعتها بستمائة درهم نقداً. فأقبلت عليها وهي غضبى، فقالت: بئس ما شريتِ وبئس ما اشتريت، أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يتوب . أخرجه الامام أحمد في المسند باسناد حسن . وهذا الأثر المرسل يستنبط منه فائدتان :
الأولى : فهم أُم المؤمنين لتحريم بيع العينة كان بسبب ادراكها لجزئيات مسائل الرِّبا .
الثانية : النص الحديثي بمفرده لا يكفي لانتزاع الحكم الشرعي .
 
ومما يجب التنبيه عليه أن استخراج الحكم الشرعي لا يكون حجة إذا لم يكن مستأنسا بالاحتراز العقدي . وهذه القاعدة ضُيِّعت بين الافراط والتفريط .
ومثال ذلك ما ينتشر بين بعض الرجال والنساء من استخدام ما يسمى بالجدول الصيني الذي يساعد على تحديد نوع الجنين اعتمادا على التقويم الفلكي الصيني المعتمد على حركة الكواكب والنجوم . فمن أهل العلم من أجازه لأن الأصل في الأشياء الاباحة ،ومنهم من حرَّمه لتعلقه بعلم الكواكب والتنجيم .
 
ومما يلحق بما تقدَّم : الخبر الذي شاع بين الناس في تفريج الضِّيق في الأرزاق : ” حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله إنا الى الله راغبون ” فمن أهل العلم من أجازه اعتماداً على تجربته، أو لنفعه الذي ظهر له من ترديده ، أو لحمله على تأوَّل القرآن . ومنهم من منعه لبدعيته ولوروده في القرآن في سِّياق الرد على المنافقين . والتحرُّز فيما تقدم أولى من التسليم بالجواز .
 
والمقصود أن العناية بمدارك العلم ليست بالضبط والتحرير فحسب ، بل يلزم قبل ذلك وبعده : الدعاء والتضرع والخشية لله مع الاخبات وطلب الفتح منه وحده . وها هم النصارى اليوم حيارى كالسَّكارى في الصحارى ، ولم ينتفعوا بدعوة عيسى عليه السلام التي حرَّفوها ودنسوها . وهذا المعنى أهم ما يجب غرسه في أذهان المتعلِّمين اليوم، أن طلب الفتح ونور القلب من أعظم ما يعين على معرفة الحق والوصول إليه ، قال الله تعالى : ” وليعلمَ الذين أُوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتُخبتَ له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا الى صراطٍ مستقيم “( الحج : 54) . فافهم هذا فإنه نفيس ، وبه تُستوثق مفاتيح الفهم .
 
ومما يُرقي فهم مدارك العلم :إدمان النظر في فتاوى العلماء الراسخين ، ومطالعة شروحات الحديث ، وتأمل المسائل الأصولية ، وتدبر كلام الله سبحانه ، والخلوة بالنفس ليستريح القلب من ظلمة المخالطه . والله ولي التوفيق .
 
المصادر :
1- مقدمة ابن خلدون / 120 .
2- المحجة في سير الدلجة / لابن رجب / 34 .
3- نزهة الخاطر العاطر / لابن بدران / 220 .
 
أ/أحمد بن مسفر العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصه